الأعلمية

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
88
0

المعروف بين فقهائنا أعلى الله كلمتهم وأنار برهانهم الفتوى أو الإحتياط بوجوب تقليد الأعلم.

ومن المعلوم أن الأعلمية موضوع من الموضوعات العرفية ، التي لا تحتاج كثير بيان.

إلا أنه من باب زيادة الإيضاح وتبيين حقيقة هذا الموضوع لا بأس بالحديث عن ذلك في جانبين:

الأول : في حكمة تقليد الأعلم.

الثاني : في كيفية تحقق الأعلم.

ولا بأس قبل ذلك من الإشارة إلى أنه قد ذكرت عدة تعاريف للأعلم وبيان المراد منه مما يوحي للناظر في تلك التعاريف بوجود خلاف بين فقهائنا في تشخيص هذه الحقيقة ومعرفة هذا المفهوم.

إلا أن الصحيح خلاف ذلك حيث أن الظاهر أنهم لا يختلفون في حقيقته ، نعم قد يناقشون ويختلفون في كيفية إبراز هذه الحقيقة وهذا المفهوم.

تعريف الأعلم:

وعلى أي حال فلنذكر تعريف الأعلم كما ذكره الفقيه الكبير السيد اليزدي في كتابه القيم العروة الوثقى ، قال :

المراد من الأعلم : من يكون أعرف بالقواعد والمدارك للمسألة وأكثر اطلاعاً لنظائرها وللأخبار وأجود فهماً للأخبار.

والحاصل أن يكون أجود استنباطاً،والمرجع في تعيينه أهل الخبرة والإستنباط [1].

وهناك تعاريف أخرى تختلف معه ظاهراً ، لكنها توافقه مضموناً كما ذكرنا.

وعلى أي حال حديثنا فعلاً في :

الجانب الأول:حكمة تقليد الأعلم:

من المعلوم أن الشارع المقدس يريد الخير والصلاح للمكلفين دائماً وأبداً ، ولهذا أرسل الرسل وأقام بعدهم الأوصياء هداة للناس ومعلمين لهم ومبينين لهم أحكام الشريعة المقدسة كي لا يقعوا في طريق الضلال.

ولا ريب في أن الأجيال المتأخرة بعيدة عن وقت نزول القرآن وصدور النصوص التشريعية الصادرة عن المعصومين ، كما أنهم قد حرموا معاشرة المعصوم لغيبة الإمام الحجة (أرواحنا لتراب مقدمه الفداء) ، فهل يحرموا من الهداية والمعرفة والوصول إلى فراغ الذمة من التكاليف التي وجهت إليهم؟..

خصوصاً وأنه ليس لكل مكلف المقدرة على معرفة وظيفته الشرعية والوصول إلى كيفية تطبيقها ، كما أن نفر جميع الناس من أجل أن يتفقهوا في الدين لا يخلو عن شيء من عسر وحرج لإستلزامه تعطل الحياة العملية في الجملة.

من هنا جاء طرح باب التقليد كحل للمكلفين بحيث جعل الإئمة الرجوع للفقهاء طريقاً لأخذ الأحكام الشرعية ومعرفة المكلفين لوظيفتهم التي يستوجب عليهم امتثالها وتحقيقها في الخارج.

هذا وليس من غاية للمكلف في اتباع الفقيه إلا الوصول إلى الواقع من أجل إحراز فراغ ذمته ، وهنا يبرز تساؤل مفاده :

أننا قد نجد في بعض الأوقات اختلافاً اجتهادياً بين الفقهاء بحيث نجد أحدهم يفتي بالحرمة بينما نجد الآخر يتوقف في ثبوت ذلك ، أو أن أحدهما يفتي بوجوب شيء بينما نجد الآخر مثلاً يفتي باستحبابه ، فما هي وظيفة المكلف في مثل هذه الحالة وماذا عليه أن يفعل؟…

في مثل هكذا موارد يأتي دور تقليد الأعلم وأن الرجوع له مطلوب فعلى المكلف الأخذ بقوله والعمل بفتواه ، وذلك لكون خبره وقوله وفتواه أوكد وأوثق في القبول وأسرع إيصالاً للواقع وأبعد عن مزالق الطريق ، كما أن العمل برأيه أوفق بالإحتياط.

ولنضرب مثلاً تقريبياً :

لو وجدنا خبرين ، وكانت نسبة أحدهما في الصدق 85 في المئة ونسبة الآخر 95 في المئة ، فلا ريب في أن العقلاء سيأخذون بالخبر الثاني لكونه أكثر نسبة في الصدق من الخبر الآخر ، ولأن كثرة نسبته في الصدق دعت إلى كونه أكثر مقبولية من الخبر الآخر ، كما أن هذه النسبة المرتفعة كانت موجبة لركون النفس وسكونها إليه.

وهكذا في محل كلامنا أيضاً حيث أن نسبة خبر الأعلم بالنسبة إلى خبر العالم أكثر فيكون الترجيح له.

بل لا ريب في تحقق ذلك خصوصاً في مثل مقامنا وهو المورد البالغ الأهمية لكونه يرتبط بعلاقة العبد مع ربه وفراغ ذمته من تبعات التكاليف أمام الله سبحانه وتعالى.

الجانب الثاني: كيفية تحقق الأعلم:

إن المحتملات في معنى الأعلمية كي يشخص الشخص الذي هو الأعلم ويعرف أربعة :

الأول : أن يكون المراد منه هو الشخص الذي يكون أكثر علماً من غيره فيكون التـركيز على كثرة المعلومات فمن يكون صاحب معلومات أكثر يكون هو الأعلم.

وهذا التفسير باطل حيث لا دخل لجملة كثيرة من العلوم في عملية الإستنباط، وعليه لا وجه لجعل المناط في الأعلمية هو كثرة العلوم والمعلومات.

الثاني : أن يكون المدار فيها على كثرة استحضار الفروع الفقهية ومسائلها ، بحيث يعتبر الأكثر استحضاراً للفروع وبيان أجوبتها هو الأعلم.

وبعبارة أخرى : الأعلم هو الأكثر احاطة بالفروع وأقوال العلماء في المسألة ، كما أن لديه القدرة على الإجابة على كل مسألة ترد عليه ولو كانت من الفروع النادرة أو من الفروع التي لا يبتلى بها خارجاً.

وهذا مرفوض أيضاً ، إذ رب شخص ليس مجتهداً يكون حفظه للفروع الفقهية والإطلاع عليها أكثر من بعض المجتهدين.

الثالث : أن يكون المراد منه هو الذي يكون قوله الأقرب إصابة للواقع.

وقد عرفت منا أن هذه حكمة تقليد الأعلم ، لا أنها ضابط تحديد مفهوم الأعلم وحقيقته.

الرابع : أن يكون الأعلم هو الأجود فهماً والأحسن تعييناً للوظائف الشرعية. وبعبارة أخرى : هو الأشد مهارة من غيره في تطبيق الكبريات على صغرياتها، وأقوى استنباطاً وأمتـن استنتاجاً للأحكام من مبادئها وأدلتها.

والظاهر أن هذا هو المتفاهم منه عرفاً ، كما أنه مدار سيرة العقلاء الدالة على لزوم مراجعة الأعلم.

ثم إن هذا المعنى يتوقف على علم المجتهد بالقواعد والكبريات، وحسن سليقته في تطبيقها على صغرياتها ، فلا يكفي أحدهما ما لم ينضم إليه الآخر.

فتحصل إلى هنا أن الأعلم ليس الأكثر معلومات ، كما أنه ليس الأحفظ للفروع والأكثر إحاطة بالكلمات والأقوال.

ثم إن الشيء الذي ينبغي الالتفات إليه هو معرفة عمدة ما يلاحظ من الأمور لتشخيص الأعلم ، وبعبارة أخرى ينبغي معرفة الأمور الدخيلة في تشخيص كون أي من الفقهاء هو الأعلم فنقول:

إن كل مسألة فقهية نحتاج في الوصول إلى حكمها عن طريق الإستنباط إلى عدة علوم هي بمثابة المقدمات لعلم الفقه ، ومن أهمها :

1-علم الرجال الذي يبحث عن أحوال الرواة وعن الكبريات الأساسية للتوثيق والتضعيف.

2-علم الأصول المشتمل على مباحث الألفاظ ومباحث الأصول العملية.

3-الفهم العرفي والسيرة العقلائية.

4-الإحاطة بتفسير آيات الأحكام.

بعد هذا نقول : إن عمدة ما يلاحظ في الأعلمية ثلاثة أمور :

الأول : تحصيل أصالة الصدور بمعنى إحراز أن هذا الخبر صادر عن المعصوم عليه السلام، وعلى هذا يحتاج الفقيه إلى إثبات حجية الخبر صدوراً فتبرز أهمية علم الحديث ويحتاج إلى معرفة شؤونه واصطلاحاته ، بل يحتاج إلى معرفة نسخ الكتاب ومصادر الكتب وصحة نسبتها إلى مؤلفيها ومدى إتقان المؤلف ودقته وضبطه وتحرزه في النقل وعدمه ، كما يحتاج معرفة المصدر من جهة كونه مشهوراً أو لا.

والثمرة المترتبة على ذلك هي تمييز النصوص الموضوعة والمدسوسة من النصوص الصادرة من عين صافية.

كما يترتب على ذلك تمييز متن الخبر وأن هذه الجملة من كلام الراوي أو من كلام المصنف أو من كلام المعصومu ، ومن المعلوم اختلاف الأثر بإختلاف ثبوت الكلام من أي شخص.

وكذلك تبرز أهمية علم الرجال لمعرفة الرواة فيميز المشترك من غيره،ويعرف الثقة من الضعيف.

وينبغي أيضاً معرفة طبقات الرواة لما لذلك من أثر كبير في استكشاف صحة السند بإتصال رواته من عدمه بوجود إرسال أو سقط فيه ، ويترتب على ذلك أيضاً معرفة رواية هذا الراوي عن ذاك المروي عنه من عدمه وهكذا.

الثاني : إنعقاد أصالة الظهور للنص بما يتطابق والقوانين والمحاورات العرفية من خلال الأنس بطريقتهم ومعرفة مداخل كلامهم ومخارجه ، وكذلك معرفة أقوال من عاصرهم من فقهاء العامة ، ومعرفة فتاواهم وأدلتهم ، لما لذلك من أثر في تمييز أن هذا الظهور منعقد للفظ على نحو الإرادة الجدية أو كان المورد تقية أو ما شابه ذلك.

كما ينبغي معرفة العلوم الأدبية من كناية واستعارة وتطبيقها في موارد الإستعمال العرفي.

وكذلك يعتبر فيه أن يكون الأقدر على تطبيق علم الأصول وكيفية الإستفادة من مفرداته ، وتطبيقها في مقام الإستنباط ، وبالأخص في الأصول العملية التي يرجع لها حين اعواز الدليل وفقده.

الثالث : تطبيق الأمرين السابقين بصورة واسعة من خلال تفريع الفروع وردها إلى الأصول وبيان مواردها.

وبناءاً على ما تقدم يمكننا القول في تعريف الأعلم أنه :

الشخص الأعرف بالأدلة والأقوى فيها من غيره والأجود سليقة والأحسن فهماً للأخبار ، مما له مدخلية في ذلك بنظر أهل الخبرة.

——————————————-

[1] العروة الوثقى كتاب الإجتهاد والتقليد المسألة رقم 17.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة