لم تختلف شخصية الإمام الحسن الزكي(ع)، عن بقية شخصيات أهل البيت(ع)، من حيث استهداف الخصوم إياها، وحياكة الشبه والتهم تجاهها، فنالت شخصيته المباركة نصيـبها من التهم والأكاذيب والأباطيل الموضوعة.
وعند الرجوع لدراسة الشبه الموجهة ضد الإمام الحسن الزكي(ع)، قد يقال بحصر تلك الشبه في خصوص شخصيته المباركة[1]، وهذا بخلاف غيره من المعصومين(ع)، ذلك أننا نجد أن بقية المعصومين لم تصب التهم الموجهة إليهم من قبل الأعداء على خصوص الشخصية المباشرة للمعصوم، فمثلاً عندما نعود لدراسة الشبه الموجهة لأمير المؤمنين(ع)، نجد أن أغلبها قد انصب على إخفاء فضائله الشريفة، ومحاولة طمس ما ورد في شأنه سواء من آيات مباركة، أم أحاديث شريفة، تتحدث عن ما له من فضل، وكذا عندما نعود لدراسة ما أثير حول المولى أبي عبد الله الحسين(ع)، نجد أن الاتهامات التي ألصقها أعدائه تمحورت حول تشويه الهدف المقدس لنهضته المباركة، ومحاولة تشويه صورتها، من خلال إبرازها بصورة غير نقية، وبعيدة عن الأهداف السماوية.
بل حتى عندما نعود لما يثار حول بقية الله الأعظم الحجة بن الحسن(عجل الله فرجه الشريف)، لا نجد مساً لشخصيته الشريفة، وإنما نجد أن الشبه المحاكة تحوم حول إنكار ولادته، والتشكيك في طول العمر، والفائدة من إمام غائب وهكذا.
وهذا بخلاف ما نراه في الشبه المثارة حول الإمام الحسن الزكي، ضرورة أن المتابع يلحظ أن الشبه كلها تنحصر في شخصيته المباركة، وما تنطوي عليه من صفات نفسانية، فمرة نجدهم يعمدون إلى اتهامه بأنه شخصية مضطربة، تعاني آلاماً حادة في النفسية، ويبررون ذلك بما كان يجده من أمه الزهراء(ع) أبان طفولته، لأنها كانت تعيش حالتين متناقضتين، فبينما يراها حزينة باكية لما يخوضه أبوها وبعلها من حروب، تعود فتفرح متى عادا سالمين، وقد أثرّ ذلك على شخصيته، وأخرى يُعرف بأنه شخصية جبانة، لا تحب الحرب، وتميل للسلم، فهو يوادع ويهادن ويصالح.
وثالثة، بأنه عثماني الهوى والميول، والانتماء، وأخرى بأنه شخص يحب الشهوات والملذات، ومن أمثلة ذلك ما عرف به في الأوساط الإسلامية، من كونه شخصاً مطلاقاً، وهكذا.
ووفقاً لهذا ينبغي أن تدرس هذه المسألة، لمعرفة الدوافع التي دعت الخصوم لتسليط الضوء عند وضع الشبه والاتهامات حول شخصية الإمام الزكي على هذه الناحية، دون الجوانب الأخرى، وما هي الدوافع التي دعتهم اتخاذ هذا الأسلوب دون بقية الأساليب الأخرى المتبع مع بقية المعصومين(ع).
هذا ولكي نتحقق صحة هذا التصور المذكور، سوف نوقع الحديث ضمن جهات:
الأولى: أساليب الخصوم في مواجهة المعصومين.
الثانية: موجب اتخاذ هذه الأساليب.
الثالثة: دواعي توجيه التهم للإمام الحسن(ع)، بأسلوب خاص.
أساليب الخصوم في مواجهة المعصومين:
لقد اتخذت أساليب الخصوم في مواجهة أهل البيت(ع)، بدئاً من نبينا الأكرم محمد(ص)، إلى قائم آل البيت المنـتظر(عج)، أساليب متعددة، لا تكاد تختلف كثيراً عن الأساليب التي كانت تتبعها الأمم السابقة مع الأنبياء والرسل، وكأن هذا يعود لما ثبت من السنن التاريخية، ويمكن حصر تلك الأساليب في التالي:
الأول: التعرض لشخص المعصوم مباشرة:
ونجد لهذا نماذج كثيرة في سيرة رسول الله(ص)، فقد اتهمه الكفار بأنه مجنون، وساحر، وكاهن، وكذاب، وقيل في شأنه أيضاً بأنه يهجر.
ومن ذلك أيضاً اتهام الإمام الحسن الزكي(ع) بأنه عثماني الهوى كما يصر على ذلك طه حسين في كتابه الفتن الكبرى في حديثه عن أمير المؤمنين وبنيه(ع).
الثاني: إثارة الشبه حول منهجيته ورسالته:
وهذا أيضاً يظهر جلياً في سيرة المصطفى(ص)، حيث نجد أن الكفار واجهوا رسالته المباركة بكونها أساطير الأولين.
الثالث: مواجهته من خلال أتباعه وأنصاره:
وهذا أيضاً كان موجوداً من قبل الكفار مع رسول الله(ص)، لكنه يتجلى واضحاً في سيرة أمير المؤمنين(ع)، حيث نجد أن أعدائه عمدوا إلى توجيه جملة من التهم للمنـتمين له، فقد أدعوا كفر أبيه أبي طالب(ع)، وأنه في ضحضاح من نار، كما رموا أصحابه كمالك الأشتر، وعمار بن ياسر وأبي ذر، وهكذا.
وقد نجعل من مصاديق هذا أيضاً جملة من التهم التي وجهت لأصحاب الإمام الحسن الزكي(ع)، من أن بعضهم قال له: ليتك مت يا حسن، وليتك كنت حيضة، والسلام عليك يا مذل المؤمنين، فإن هذه التعبيرات يصعب صدورها ممن رباه أمير المؤمنين(ع)، والإمام الحسن الزكي(ع)، نعم قد تكون صدرت ممن التحق بالإمام(ع) وتبعه طلباً لمال ودنيا، ولما لم يحصل على مبتغاه صدر منه ما صدر.
وعلى أي حال، فهذه تهم أيضاً وجهت لأصحابه(ع)، كما يمكن جعل واحدة من التهم الموجهة لأمير المؤمنين(ع) دعوى أن ولده الإمام الحسن(ع) مطلاق، غايتهم منها إبراز عدم نجاح علي(ع) في التربية، فضلاً عن إظهار شقة خلاف بينه وبين ولده(ع).
الرابع: ضد معتقده، وضد ربه:
من خلال إثارة الشبه حوله في علاقته بخالقه وربه، بدعوى أنه لا يصلي، أو أنه على خلاف النهج الديني، وقد مارس هذا معاوية كثيراً ضد أمير المؤمنين(ع) حتى أنه لما طالب يوم صفين أن توقف الحرب للصلاة تساءل أهل الشام هل أن علياً يصلي.
وكذا أيضاً مارسته الحكومة الأموية مع الإمام الحسين(ع)، وهذا يفسر لنا ما نقرأه في زيارته(ع): أشهد أنك قد أقمت الصلاة وآتيت الزكاة وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، ذلك لأن الأمويـين قد أشاعوا أنه(ع) ما كان يصلي، وهكذا.
الخامس: من خلال حجب فضائله، ومناقبه:
ولا أظن أننا بحاجة للكلام عن هذا النحو، ضرورة أنه من الواضحات التي لا تحتاج بياناً، لأنه يتلمسه كل أحد وفي كل حين، إذ يجد كيف أن فضائل أمير المؤمنين(ع) تحجب، وتمنع من النشر، بدءاً من عصر معاوية وإلى يومنا هذا.
موجب اتخاذ هذه الأساليب:
وبناءً على ما ذكرنا من اتحاد أساليب المواجهة التي كانت في الأمم السابقة، وما هو موجود في هذه الأمة من مواجهة للأولياء والصلحاء، يمكننا أن نستنـتج أمرين مهمين:
الأول: إن هذه الأساليب المذكورة والمتبعة، تعدّ قمة الطغيان البشري، وأعلى مستوياته، ويكشف عن ذلك استمرار إتباع هذا المنهج والأسلوب في المواجهة منذ الأمس إلى اليوم، بمعنى أنه كما كان يستعمل في الأمم السابقة، فهو لا زال مستعملاً اليوم في أمتنا نبينا محمد(ص).
فلو كان الفكر البشري الطغياني، توصل إلى مستوى أفضل من هذا الأسلوب في المواجهة، لكان عمد إليه، رغبة منه في تحقيق أهدافه، والوصول إلى مبتغياته.
الثاني: إن استخدام هذه الأساليب تدل على حيرة أصحابها وعجزهم عن الوقوف أمام المدّ الهائل لأهل البيت(ع)، بل تكشف أيضاً عن انبهار منهم بما بلغه أئمتنا(ع)، ولذا أخذوا في البحث عن السبل والوسائل للحد من هذا الاستمرار.
كيف تدرس أساليب الخصوم:
هذا وينبغي أن تكون دراستنا لأساليب الخصوم التي واجهوا بها أهل البيت(ع) كدراستنا لسيرتهم المباركة، فكما أننا نعمد إلى دراسة سيرتهم المباركة بصورة واحدة، كذلك ينبغي لنا أن ندرس أساليب الخصوم في مواجتهم بصورة واحدة، وذلك لأن الخصوم عندما يعمدون إلى المواجهة من الطبيعي أن يعمدوا إلى تعدد الأساليب، ولن يلتـزموا بمنهج واحد فقط، خصوصاً إذا لا حظنا أن دوافع الخصوم هي النيل من الشخصيات المباركة للمعصومين(ع)، وهذا يستوجب أن تكون أساليب المواجهة الصادرة منهم متعددة غير سائرة على منهج واحد، إذ من البين الجلي أنه لو كانت الأساليب المتخذة على نسق ونهج واحد، كان ذلك موجباً لعدم تحقق الأغراض المنشودة في المقام، لأنه سوف ينفضح المخطط المقصود من قبل الخصوم، بينما عندما يعمد إلى العرض بأساليب مختلفة، فلن تتضح الصورة عند كل أحد، بل سوف تكون الأمور غائمة وغائبة على الكثير، ونتلمس هذا في الموضوعات التاريخية، فمثلاً عندما تقرأ ما كتبه الذهبي عن الإمام الحسن(ع) لن تشك للحظة أن غاية الذهبي هي مدح الإمام الحسن(ع)، لأنه عمد في كلامه عنه إلى استعراض مناقبه، لكنه قام ودس السم في العسل، من خلال إضافة بعض المثالب الموضوعة والمقصودة من قبله في طي الحديث عن المناقب، قال: قال قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس أن النبي(ص) فرج بين فخدي الحسن وقبل….وقد كان هذا الإمام سيداً وسيماً، جميلاً، عاقلاً، رزيناً، جواداً ممدوحاً، خيراً، ديناً، ورعاً، محتشماً، كبير الشأن، وكان منكحاً،مطلاقاً، تزوج نحوا من سبعين امرأة، وقلما كان يفارقه أربع ضرائر[2].
ووفقاً لما ذكرنا يمكننا أن نصل إلى أن مقتضى الغاية التي كان يسعى لها خصوم أهل البيت(ع) كانت تستدعي أن يتخذوا هذه الأساليب وأن يعددوها، وعدم الاستمرار على منهج واحد حذراً من الانكشاف والانفضاح.
وهذا يعني أن يعمدوا إلى استخدام أسلوب مع كل معصوم قد يختلف عن الأسلوب الآخر المستخدم مع معصوم آخر، وهكذا، ولا يمنع ذلك من أن تتعدد نفس الأساليب عند نفس المعصومين.
نعم ما يستحق أن يدرس هو الدواعي التي تدعوهم لاتخاذ هذا الأسلوب دون ذلك مع كل معصوم معصوم، ولعل هذا ما أراد أن يشير له السيد الفاضل(وفقه الله) المثير لهذه النكتة.
دواعي توجيه التهم للإمام الحسن(ع)، بأسلوب خاص:
عندما نحاول أن نتعرف الدواعي التي دعت هؤلاء الوضاعين لاستخدام هذا الأسلوب دون غيره من الأساليب مع الإمام الحسن الزكي(ع)، ومن خلال مصاديق متعددة كما ذكرنا، فإننا نتوصل إلى أمور:
الأول: المناسبة بين الشبهة والصفات النفسانية للشخصية:
فلا يمكن أن تلقى شبهاً حول شخصية عرفت بالشجاعة، فتـتهم بأنها شخصية جبانة، مثلاً لا يتصور أن يتكلم أحد في أمير المؤمنين(ع) بأنه جبان، ذلك لأن الحروب التي خاضها ودماء الكفار التي أراقها تشهد ببطولته، وهذا يعني أنه لابد من البحث عن شبهة تكون منسجمة مع الصفات النفسانية الموجودة لأمير المؤمنين(ع)، وتكون تلك الصفات خافية على الناس، لذا عمد الأمويون إلى ترويج أن علياً لا يصلي، فالشاميون بعيدين عن أمير المؤمنين(ع)، ولن يصلوا إليه ليتعرفوا على واقعه، فتنطلي هذه الشبهة بينهم.
وهذا ما أراده هؤلاء، فمثلاً عندما يضع الذهبي وأَضرابه الرواية التي نقلناه قبل قليل عن أن رسول الله(ص) فرج بين فخدي الإمام الحسن(ع)…الخ…،لن يكون في وسم الإمام الحسن(ع) بأنه مطلاق أدنى غضاضة أو رفض، لأن الفعل الصادر من رسول الله(ص) لتقبيل الموضع المشار إليه يكشف عن أن هذه منقبة للحسن(ع)، لا أنها مذمة، فهو يضيف السم كما قلنا للعسل بهكذا أسلوب.
وكذلك عندما يعمدون لوضع رواية على لسان رسول الله(ص) بأن ولدي هذا سيد يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين، فإنهم يريدون إعطاء شرعية لمعاوية من جهة، وإبراز شخصية الإمام الحسن(ع) بالشخصية الموادعة، والبعيدة كل البعد عن الحرب، والقتال، وهكذا.
وبالجملة، إن الخصم يصف الشخصية التي يريد أن يضع حولها الشبه بما يحلو له ويصور غالباً صفات مقاربة لما يريده، فيضع بعد ذلك ما يكون موافقاً لهواه، وهكذا.
الثاني: تحقيق الهدف من التهم والشبه:
لا ريب أن الوضاعين المأجورين للسلطات الحاكمة كانوا يهدفون إلى تحقيق غايات وأهداف، عمدتها الحدّ من انتشار مذهب أهل البيت(ع) واتساع رقعة أتباعهم، وزيادة القواعد الشعبية لهم، ومن المعلوم أن الطريق الأمثل للحد من ذلك يكون من خلال وضع العراقيل والعقبات المؤدية للحدّ من عملية الانتشار، وعندما يتأمل الوضاع لن يكون طريق تحقيق الهدف من خلال وضع الأباطيل بأي صورة اتفقت، وبأي نحو من التلفيق، بل لابد وأن يكون الموضوع من التهم مدروساً ومنسجماً مع الشخصية التي يراد الوقوف أمامها، فلكي يكون الهدف المقصود متحققاً، فلابد وأن يكون الوضع منسجماً مع ما يقصدونه.
الثالث: إسقاط الهاشميـين في الوسط الإسلامي:
لا يختلف اثنان أن السلطة الحاكمة سواء في العهد الأموي، أم العهد العباسي كانت تعاني من رفض المجتمع الإسلامي للسلطة، وعدم قبولها، فضلاً عن تأيـيدها، ولهذا كانت السلطة تبحث عن وسيلة يمكنها أن تجلب القلوب الشعبية إليها، فوجدت أن خير وسيلة هي استعمال الإعلام المضاد من خلال تشويه صورة أهل البيت(ع)، من جهة وتحسين صورة السلطة من جهة أخرى، فعندما يسم المحدثون والمؤرخون الإمام الحسن(ع) بأنه مطلاق، وأنه مذواق، وأنه يلهى بالنساء والمذات والشهوات، فإن ذلك موجب لإسقاط شخصيته، ونظرة الناس إليه نظرة استصغار ورفض، وعدم مقبولية، لأنه يكون رجلاً مفتقراً لمقومات الإنسانية الطبيعية بعمله الذي يعمله.
والخلاصة التي نصل إليها بعد هذه الإطلالة أن الموجب لتسليط الضوء من قبل الوضاعين على شخصية الإمام الحسن(ع) كمفردة يعود لتعدد أساليب الوضع من جهة، ولتناسب الشخصية التي يراد حياكات التهم تجاهها، فشخصية الإمام الحسن(ع) كانت الظروف الموضوعية المحيطة بها بعد عملية الصلح مع معاوية أبعد ما تكون عن الواجهة السياسية، لأن الأمة عمدت إلى إقصائها، ومن الطبيعي أن هكذا شخصية سوف تكون بعيدة عن السياسة، لن تبرز في سيرتها المباركة سوى النواحي والملكات النفسانية، والصفات الأخلاقية، وهذا ما وجد فيه الخصوم ضالتهم، فركزوا شبههم في خصوص هذه الناحية.
————————————————————-
[1] أشار لهذه الالتفاتة ولدنا العزيز صاحب الفضيلة السيد حسن نجل العلامة السيد هاشم الخباز، في مشاركته إيانا في الأيام الحسنية.
[2] سير أعلام النبلاء للذهبي ج 3 ص 253.