مفطرية تعمد البقاء على الجنابة (1)

لا تعليق
خواطر حوزوية
72
0

ذكر الفقهاء(رض) أن من ضمن ما يوجب المفطرية تعمد الصائم البقاء على الجنابة حتى يطلع الفجر وقد جاء في الشرائع أنه الأشهر بين الأصحاب. بل عن الانتصار والخلاف والغنية والوسيلة والسرائر والتذكرة والمنـتهى الإجماع عليه[1]. وخالف في ذلك الصدوق في المقنع والمقدس الأردبيلي والسيد الداماد ومال إليه الفيض الكاشاني[2]، فقالوا بعدم المانعية والمفطرية. وهو محكي عن والد الصدوق وغيره من القدماء. وقد أختاره الشيخ حسن صاحب المعالم أيضاً ومال له في الكفاية، بل غيره مال إليه. والذي يظهر من تعبير الشرائع بالأشهر أن القول بعدم المفطرية هو المشهور.

وبالجملة، يستفاد من هذا العرض أن المسألة ذات قولين:

أولهما: القول بالمانعية والمفطرية، وهو القول الأشهر كما عرفت.

ثانيها: وهو المشهور القول بعدم المانعية والمفطرية، ويستفاد هذا من تعبير صاحب الشرائع(ره) بالأشهر.

نعم أفاد الفقيه الهمداني(قده) أن تعبير صاحب الشرائع بالأشهرية ليس بلحاظ الأقوال حتى يتصور أن القول بعدم المانعية هو القول المشهور، بل التعبير منه(ره) بالأشهرية، إنما هو بلحاظ الرواية[3].

وكيف كان فالمسألة ليست إجماعية حتماً لوجود الخلاف بين القدماء ولا أقل من كون المسألة غير معنونة خصوصاً في كتبهم الفتوائية التي يقال أنها متون روايات مما يعني ذلك التأمل في هذه النصوص فلاحظ.

هذا وينبغي قبل استعرض أدلة القولين، التعرض إلى مقتضى الأصل العملي، ثم التعرض لما هو المستفاد من القرآن الكريم، فنقول:

أما بالنسبة لمقتضى الأصل العملي، فلا ريب أن مقتضاه هو البناء على عدم المانعية والمفطرية، لأنه عند الشك في المانعية، سوف يكون المرجع هو أصالة البراءة والتأمين.

وأما بالنسبة للدليل القرآني، فيتضح ذلك من خلال ملاحظة قوله تعالى:- (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس لكم وأنتم لباس لهن…فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر)[4]. ويتم تقريب الاستدلال بها من خلال عبارتين:

الأولى: قوله تعالى:- (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم هن لباس) بتقريب:

إن المستفاد من الآية الشريفة هو حلية مباشرة النساء في جميع آنات الليل من أول آن منه إلى آخر آن، ومن الواضح أن لازم المباشرة في آخر آنات الليل يستدعي طلوع الفجر على جنابة، فيثبت حينئذٍ جواز البقاء عليها إلى طلوع الفجر، وعدم مانعية ذلك.

وبعبارة أخرى، لما كانت الآية الشريفة في مقام البيان من جميع الجهات، وفي نفس الوقت مقتضى مقدمات الحكمة هو انعقاد الإطلاق في البين، فيثبت المطلوب حينئذٍ.

الثانية: قوله تعالى:- (فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر) بنقريب:

إن كلمة (حتى) الواردة في الآية الشريفة متعلقة بالأمور الثلاثة التي وردت في الآية وهي المباشرة والأكل والشرب، ومن الواضح أنها تفيد انتهاء الغاية، وذلك بطلوع الفجر، فيكون مفاد الآية هو جواز المباشرة إلى آخر لحظة من لحظات الليل، وهذا يقتضي أن يطلع الفجر وهو على جنابة، فيثبت المطلوب.

هذا وقد أشكل المحقق النراقي(قده) على الاستدلال بثلاثة إشكالات:

الأول: إننا نسلم بتمامية دلالة الآية الشريفة وأنها تفيد جواز المباشرة في جميع آنات الليل، مما يستلزم طلوع الفجر وهو على جنابة، إلا أن هذا الإطلاق المستفاد من الآية الشريفة يمكن تقيـيده بالنصوص الواردة في عدم جواز البقاء على الجنابة متعمداً حتى يطلع الفجر، عملاً بتخصيص أو تقيـيد العموم الكتابي بخبر الواحد.

الثاني: إنا نمنع دلالة الآية الشريفة على المدعى، وذلك لأنه لا إشكال في جواز المباشرة ما دام لم يحصل للمكلف علم بعدم سعة الوقت للاغتسال، أما لو حصل له علم بعدم سعة الوقت للاغتسال فلا إشكال في عدم الجواز، ولا ريب في أنه من النادر جداً أن يحصل للمكلف علم بعدم سعة الوقت للاغتسال، وعليه يكون حمل المطلق عليه مشكلاً، لأن انصرافه إليه في غاية البعد والإشكال.

الثالث: إنا لا نحرز أن كلمة (حتى) الواردة في الآية الشريفة راجعة إلى الجميع، بل الظاهر انحصار ذلك في خصوص الأخيرين، ومع الشك، فالأصل يقضي بعدم رجوعها للجميع.

وبعبارة أخرى، إن في كلمة (حتى) احتمالين:

الأول: أن تكون راجعة للأمور الثلاثة.

الثاني: أن تكون راجعة لخصوص الأخيرين، أعني الأكل والشرب.

ولا ريب في أن القدر المتيقن، هو رجوعها للأخيرين، دون الثالث. وربما يساعد على هذا وجود قرينة وهي النصوص المانعة من البقاء على الجنابة حتى يطلع الفجر[5].

هذا ويلاحظ عليه، أما في أول الإشكالات، فلا ريب في أن النصوص الواردة نما تصلح للتخصيص بعد الفراغ عن حجيته، وانعقاد ظهورها في المدعى، ضرورة أنه مع وجود نصوص معارضة، فلابد من تقديمها عليها، أو لابد من تسليم تمامية دلالتها، أما لو اقتضى المقام تقديم النصوص المانعة ورفع اليد عن النصوص الأخرى، فلا ريب أنه لن يوجد في البين ما يصلح لتقيـيد الإطلاق الكتابي، كما أنه لو كان مفاد هذه النصوص هو الاستحباب، فلن تصلح أيضاً للقيام بالتقيـيد، فلاحظ.

وأما ثاني الإشكالات فهو كما ترى، ضرورة أن انعقاد الإطلاق للآية الشريفة لا يوجب القول بأن الحمل من باب الانصراف كما لا يخفى.

وأما ثالث الإشكالات، فجوابه، أنه لو سلمت الدعوى لكان مفاده جواز إيقاع المباشرة في طول الليل لأنه تعالى حدد الجواز بكونه في الليل ولا ريب في أن مقتضى ذلك عدم جوازه في النهار وجوازه في الليل غير محدد بفرد من أفراده ولا جزء من أجزائه.

وبالجملة: عود حرف الغاية للجملة الأخيرة لا يمنع عن تمامية الاستدلال.

على أن جعل النصوص الواردة في المنع من البقاء قرينة على التخصيص، دعوى عهدتها على مدعيها.

مضافاً إلى أنه لم يعرف وجه للتخصيص، فهل يريد تخصيصها بغير صورة العمد بمعنى طلوع الفجر عليه غير متعمد، فهو وإن كان متصوراً لكنه لا ينسجم مع الآية. أو أن يريد تخصيصها بخصوص بعض الأوقات بحيث أن جواز الملامسة مخصصة بوقت دون آخر ولا يخفى أن هذا أبعد من سابقه.

فتحصل إلى هنا تمامية هذا الدليل الذي أفاده المقدس الأردبيلي (ره) بتقريب منا عن الإشكال.

وأجاب عن دلالة الآية الشريفة بعض الأعلام(قده)، فمنع دلالة المقطع الأول بالتالي:

أولاً: إن الآية الشريفة لا إطلاق لها لتفيد جواز المباشرة في جميع آنات الليل، بل هي في مقام بيان أحد أمرين:

الأول: بيان مشروعية المباشرة في الليل، مقابل المنع عنه في النهار.

الثاني: دفع توهم الحضر والمنع عن المباشرة في الليل، كما هو ممنوع في النهار.

وإن شئت قل، ليست الآية في مقام البيان من جميع الجهات، بل هي في مقام بيان من جهة واحدة تنحصر في بيان أصل المشروعية والحلية في الليل، مقابل عدمها والمنع عنها في النهار.

ويشهد لما ذكرنا غير أنه ظاهر من نفس الآية الشريفة، ما ورد في سبب نزولها، فقد جاء في تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق(ع) قال كان النكاح حراماً في الليل والنهار في شهر رمضان-إلى أن قال-وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سراً في شهر رمضان، فأنزل الله عز وجل أحل لكم ليلة الصيام الآية-إلى أن قال-وأحل الله تعالى النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر.

ثانياً: مع التسليم بتمامية دلالة الآية الشريفة على المدعى، إلا أنها كسائر المطلقات الكتابية قابلة للتقيـيد بالنصوص إذا كان فيها ما يصلح للتقيـيد، ولا ريب أن النصوص الدالة على المنع من البقاء على الجنابة عمداً ووجوب القضاء بل الكفارة به، مقيدة لإطلاقها كما هو الشأن في كل مطلق ومقيد بناء على ما هو التحقيق من صحة تخصيص العام الكتابي وتقيـيد إطلاقه بالخبر الواحد، كما هو المحقق في الأصول.

وأما المقطع الثاني، ففيه أولاً: إن تمامية دلالة هذا المقطع على المدعى تعتمد اعتماداً كلياً على كون حرف الغاية شاملاً للجميع، وأنه لا يختص بخصوص الأخيرين، أعني الأكل والشرب، ونحن نمنع شموله للجميع، بل هو مختص بالأخيرين.

ثانياً: لو سلمنا عود كلمة(حتى) للجميع، فلا ريب في أن الآية حينئذٍ تكون مما يصلح للتقيـيد بخير الواحد لما قرر في الأصول من تمامية ذلك، فلاحظ[6].

هذا ولا يخفى أن جوابه الثاني عن كلا المقطعين من الآية الشريفة، وهو التقيـيد للإطلاق المستفاد منها بالنصوص، قد تقدمت الإجابة عنه عند الإجابة عن لام الفاضل النراقي(قده)، فلا حاجة للإعادة.

كما أن الجواب الأول عن المقطع الثاني أيضاً أجبنا عنه عند البحث في إشكالات الفاضل النراقي(قده)، فلا نعيد.

وأما بالنسبة للجواب الأول عن المقطع الأول، فلو سلمنا بأن الآية الشريفة في هذا المقطع ليست في مقام البيان من جميع الجهات، بل هي في خصوص دفع توهم الحظر، أو في مقام بيان أصل المشروعية، فلا ريب أنه يكفينا المقطع الثاني لإثبات المدعى، فلاحظ.

على أنه يمكن القول بأن النص المذكور أيضاً دليل صريح في إثبات ما ندعيه، وبالتالي لا يتم ما أفاده(ره) بيان ذلك:

إن النص الوارد قد تضمن بيان أمرين:

أولهما: بيان رفع توهم الحظر والإشارة إلى مشروعية المباشرة في ليلة الصيام، وأنها غير محظورة.

ثانيهما: بيان الوقت الذي يمكن للمكلف فيه المباشرة، وهو عبارة عن الليل، ويعني ذلك الفترة الزمنية التي تمتد طيلة الليل، وبالتالي يثبت المدعى من جواز إيقاع المباشرة حتى في الآن الأخير منه، مما يستدعي بقاء المكلف على الجنابة عند طلوع الفجر، وهذا يستفاد من قوله(ع) في ذيل الخبر: فأحل الله تبارك وتعالى النكاح بالليل في شهر رمضان، والأكل بعد النوم إلى طلوع الفجر، لقوله:- (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر).

ثم إن التسليم بما أفيد من كون دلالة الآية الشريفة تختص بدفع توهم الحظر، أو بيان أصل المشروعية مبنية على عدم الالتـزام بكون الآية الشريفة ناسخة لحكم مشرع من قبل، أما بناءاً على أنها ناسخة لذلك كما هو الظاهر ولو كان ذلك الحكم مشرعاً من قبل النبي(ص)، فلن يكون للدعوى المذكورة وجه أصلاً، لأنه مع كون المقام بيان لحكم منسوخ فهو بمثابة إثبات للحلية والمشروعية، وبالتالي تكون دالة على المدعى،فلاحظ.

هذا وقد أجاب بعض الأعلام(حفظه الله) عن دلالة الآية على المدعى بأنها ليست في مقام البيان، وذلك لأنها وردت لنسخ حكمين كانا مشرعين من قبل في الصوم، وهما:

الأول: حرمة الجماع في ليلة اليوم الذي يصام.

الثاني: جواز الأكل والشرب للصائم ما لم ينم، فإذا نام حرم الأكل والشرب عليه.

أما الحكم الأول فالناسخ له هو صدر الآية الشريفة، وهو قوله تعالى:- (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم)، فإنه يدل على رجوع الحكم في هذا الأمر إلى حكمه السابق قبل تشريع الصوم.

لكن هذا النسخ لا ينافي وجوب اجتناب المباشرة بالعرض في بعض الليل أو في جميعه على الصائم إذا لزم منه محذور، ومنه البقاء على الجنابة نهاراً.

وأما الحكم الثاني، فالناسخ له هو ذيل الآية الشريفة، وهو قوله تعالى:- (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض) فإنه يدل على استمرار حلية الأكل والشرب إلى طلوع الفجر.

أما بالنسبة إلى حلية المباشرة إلى طلوع الفجر، فإنه غير منظور في المقام، إذ لم يسبق تحديده بغير الفجر، كالأكل والشرب، وإنما سبق المنع منه رأساً.

وبذلك يظهر أن رجوع التحديد بالفجر للأكل والشرب فقط ليس لأنه المتيقن، ولا من جهة النصوص المتقدمة، بل لمناسبته لمورد نزول الآية الشريفة، وأن الآية لا تنهض بالمنع من مفطرية البقاء على الجنابة، لا بصدرها ولا بذيلها[7].

وفيه: أما ما أفاده(دام ظله) بالنسبة للحكم الأول الناسخ للحكم السابق، فهو يعود لما سبق وذكره الفاضل النراقي(قده) من تخصيص أو تقيـيد العموم أو الإطلاق الكتابي بخبر الواحد وقد عرفت حاله فيما تقدم، وذلكل لأن مقتى النسخ رجوع الحكم إلى حاله السابق وهو جواز المباشرة في جميع آنات الليل بما في لك الجزء الأخير منه، وهو يستدعي خروج الفجر وهو على جنابة، فقوله(دام ظله): لكن هذا النسخ لا ينافي وجوب اجتناب المباشرة بالعرض في بعض الليل أو في جميعه على الصائم إذا لزم منه محذور، ومنه البقاء على الجنابة نهاراً. يشير إلى تقيـيد الإطلاق بالنصوص، وقد عرفت الجواب عن ذلك.

وعليه، فلا يضر كون الآية الشريفة ناسخة لحكم سابق، ما دام أن المستفاد منها بعد النسخ بقاء الحكم السابق على حاله من دون تغيـير، وهو يفيد جواز البقاء على الجنابة حتى يطلع الفجر بالبيان المتقدم.

وأما ما أفاده(أطال الله بقاه) في الحكم الثاني الناسخ للحكم السابق فهو غريب جداً، ضرورة أن التحديد كله قد انصب على ما كان ممنوعاً، فإن القرآن الكريم لم يشتمل على تحديد حرمة الأكل والشرب بالليل أو بغير ذلك، خصوصاً أن الحكم المنسوخ مستفاد من السنة الشريفة، وليس مستفاداً من القرآن فالتحديد الدال على الحرمة للأكل والشرب ليلاً بعد النوم، هو بنفسه ولو في الجملة دل على المنع من المباشرة للنساء حتى في ليلة الصيام، فجاء الحكم الناسخ ليقول بأن ما كان ممنوعاً فهو الآن مباح ومحلل، سواء كان ذلك يختص بحرمة الأكل والشرب بعد النون أما ذلك متوجه للمباشرة.

ولا يخفى أن هناك فرقاً بين الأمريـين ومرّده لطبيعة الأمرين، بمعنى أن المنع عن الأكل والشرب في الجملة، أعني بعد النوم، دون المباشرة، لأنه لا يتصور أن يكون هناك صيام وصال، ولذا أشير للمنع منهما في الجملة.

فتحصل إلى هنا أن كون الآية الشريفة ناسخة لحكمين سابقين، لا يمنع من تمامية دلالتها على المدعى، وأنها في مقام بيان جواز البقاء على الجنابة حتى يطلع الفجر متعمداً.

بعد هذا ينبغي التعرض لأدلة كلا القولين، فنقول ومنه سبحانه وتعالى نستمد العون والتوفيق:

استدل للقول الأول، وهو القول بالمانعية والمفطرية، سواء التـزم بثبوت القضاء والكفارة، أم قيل بكفاية ثبوت القضاء فقط بدليلين:

الأول: التمسك بالإجماع المدعى من قبل كل من السيد المرتضى(ره) في كتابه الانتصار، والشيخ(قده) في كتابه الخلاف، وابن زهرة في كتابه الغنية، وابن حمزة في كتابه الوسيلة، وابن إدريس في كتابه السرائر، والعلامة في كتابيه التذكرة والمنـتهى.

قال السيد المرتضى(ره): مسألة: ومما انفردت به الإمامية من بين فقهاء الأمصار كلهم، وقد روي عن أبي هريرة وفاقهم فيه، وحكي أيضاً أن الحسن بن صالح بن حي كان يقول: يستحب لمن أصبح جنباً في شهر رمضان أن يقضي ذلك اليوم بعينه، وكان يفرق بين صوم التطوع وبين صوم الفرض في هذا الباب، إيجابهم على من أجنب في ليلة شهر رمضان وتعمد البقاء إلى الصباح من غير اغتسال القضاء والكفارة، ومنهم من يوجب القضاء دون الكفارة، ولا خلاف بينهم في أنه إذا غلبه النوم ولم يتعمد البقاء على الجنابة إلى الصباح لا شيء عليه، والدليل على صحة ما ذهبنا إليه الإجماع المتكرر[8].

وقال الشيخ(ره) في الخلاف: من أصبح جنباً في شهر رمضان ناسياً تمم صومه ولا شيء عليه، وإن أصبح كذلك متعمداً من غير عذر بطل صومه وعليه قضائه وعليه الكفارة.

وقال جميع الفقهاء: تمم صومه ولا شيء عليه، ولا قضاء ولا كفارة. وقال أبو هريرة: لا يصح صومه، وبه قال الحسن بن صالح بن حي، وهذا مثل ما قلناه إلا أني لا أعلم هل يوجبان الكفارة أم لا.

دليلنا: إجماع الفرقة، فإنهم لا يختلفون فيه، وأيضاً إذا قضى وكفر برئت ذمته بلا خلاف وإذا لم يفعله لم تبرأ ذمته بيقين.

وروى أبو هريرة قال: من أصبح جنباً فلا صوم له، ما أنا قلته قال محمد ورب الكعبة[9].

وجاء في التذكرة: الخامس: من أجنب ليلاً وتعمد البقاء على الجنابة حتى يطلع الفجر من غير ضرورة ولا عذر، فسد صومه عند علمائنا، وبه قال أبو هريرة وسالم بن عبد الله والحسن البصري وعروة، وبه قال الحسن بن صالح بن حي والنخعي في الفرض خاصة، لقوله(ع): من أصبح جنباً فلا صوم له.

ومن طريق الخاصة: قول الصادق(ع) في رجل أجنب في شهر رمضان بالليل، ثم ترك الغسل متعمداً حتى أصبح، قال: يعتق رقبة أو يصوم شهرين متتابعين أو يطعم ستين مسكيناً.

وقال الجمهور: لا يفسد الصوم، للآية، ولقول عائشة: أشهد على رسول الله(ص) أن كان ليصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يصومه.

ولا دلالة في الآية، لعود الغاية إلى الجملة القريبة، والحديث ممنوع، ومحمول على القرب من الصباح لمواظبته(ع) على أداء الفرائض في أول وقتها[10].

ولا يخفى عدم صلوح هذا الإجماع للدليلية، ضرورة أننا ذكرنا غير مرة أن حجية الإجماع تستدعي توفر أمرين فيها، فما لم يتوفرا فلن يصلح للدليلية، والأمران هما:

الأول: أن يكون إجماعاً صادراً من الطبقة القدمائية من الأصحاب المعاصرين للأئمة(ع)، أو لا أقل من كونه من القريـبي عهد من عصرهم(ع)، بحيث يكونوا جميعاً متفقين على ذلك.

الثاني: أن لا يكون في البين ما يصلح للدليلية غير هذا الإجماع، وإلا لو كان في البين ما يصلح للدليلية غيره، لم يصح الاستناد إليه.

هذا وقد يقال بعدم توفر الأمر الأول في المقام، إذ عرفت من عرض المسألة والأقوال الواردة فيها أن هناك خلافاً من قبل بعض القدماء، وبالتالي لا مجال للحكم بتحقق الاتفاق والإجماع.

هذا وقد يجاب عن ذلك بالبيان الوارد في كلمات غير واحد من الأصحاب من أن خلاف من عرفت من الجيل الطليعي من علمائنا-الصدوق ووالده-غير ضائر، ضرورة أن مخالفة معلوم النسب لا تقدح في تحقق الإجماع، على ما قرر في محله.

ولا يذهب عليك أن مبني على ما هو المختار عندهم من أن حجية الإجماع بلحاظ كاشفيته عن قول المعصوم، وأنه يعتبر في تحققه وجود شخص مجهول النسب يحتمل أنه الإمام المعصوم(ع)، وبالتالي لا يضر بتحقق الإجماع المخالفة الصادرة من معلوم النسب.

لكن هذا الجواب لا يعالج الإشكال بناءاً على المختار من أن حجية الإجماع ليست تعبدية، وإنما هي قائمة على أساس جمع القرائن لحساب الاحتمال الرياضي، بنحو تكون للإجماع كاشفية قطعية، أو لا أقل كاشفية اطمئنانية عن الحكم، لكونه يكشف عن ارتكاز متشرعي مسلم، متلقى من أصحاب الأئمة(ع) يستفاد بنحو وآخر من مجموع دلالات السنة.

وهذا يعني أنه إذا كان المخالف من أركان البحث الفقهي، فلا إشكال في أن خلافه يكون مضراً في كشف الإجماع عن ارتكاز موجود، ضرورة أن وجوده في الوسط الفقهي، يقضي بإطلاعه على مثل هكذا ارتكاز وعدم خفائه عليه لو كان.

وعليه، فلما كان المخالف أمثال الصدوق ووالده، وهما من المحاور الأساسية في الوسط العلمي الفقهي الإمامي، ويعيتبر كل واحد منهم على رأس حوزة علمية، فلا إشكال في أنه خلافهما يقدح في حجية هذا الإجماع، بسبب عدم كشفه عن الارتكاز، الذي من البعيد أن يكون خافياً على مثليهما.

هذا وقد يجاب عن ذلك، بأنه لابد من ملاحظة مستند فتوى الصدوق ووالده(ره)، لأنه إما أن يكون أصلاً عملياً أولياً، أو يكون دليلاً اجتهادياً وبالخصوص الروائي منه.

فإن كان الأول، فلا إشكال في كون خلافهما قادحاً في الإجماع، لأنه لو كان هناك ارتكازاً متشرعياً واضحاً ومسلماً تم تلقيه من أصحاب المعصومين(ع) مستفاد من مجموع دلالات السنة المباركة من قول المعصوم أو فعله أو تقريره، لما كان هناك إفتاء منهما(قده) على خلافه، بل لا وجه لأن يتمسك الفقيه بالأصل ويفتي على طبقه وهو يتلقى ارتكازاً مستفاداً مما صدر من المعصوم(ع) من بيانات، لكن لما كان لهما إفتاء على خلافه، كان ذلك يعني عدم وجود مثل هكذا ارتكاز.

أما لو كان الثاني، فلا إشكال في أن خلافهما لن يكون كاشفاً عن عدم وجود ارتكاز في البين، بل يكشف عن وجود نكتة اجتهادية عندهما دعتهما إلى مخالفة هذا الارتكاز العام وتقديم الدليل الروائي عليه، وعليه لن يكون خلافهما قادحاً في حجية الإجماع على فرض تحققه.

ويمكن تأكيد ذلك ما يلحظه المتـتبع في فتاوى القدماء، إذ يجد أنهم ينفردون ببعض الفتاوى، مع أنها موردها يشتمل على ارتكاز متشرعي يخالف تلك الفتوى، لكنهم عملوا بالدليل الاجتهادي الروائي.

وبعبارة موجزة، أنه لا يمكن للفقيه أن يركن إلى الأصل العملي مع وجود دليل اجتهادي يتمثل في الارتكاز المتشرعي، لأن الدليل الاجتهادي مقدم على الأصل العملي، وعليه لا ريب أنه متى وجدناه مستنداً للأصل كان ذلك كاشفاً عن عدم وجود ارتكاز متشرعي مسلم متلقى من أصحاب الأئمة(ع). بخلاف ما لو كان مستنده دليلاً اجتهادياً، فإنه لا مانع من تقديمه الدليل الاجتهادي الروائي لنكتة دعت إلى ذلك على الدليل الاجتهادي الآخر وهو الارتكاز.

نعم لا ريب في أن الداعي إلى رفع اليد عن دليلية هذا الإجماع، هو عدم توفر الأمر الثاني من الأمرين اللذين ذكرنا، لأنه محتمل المدركية لوجود ما يصلح أن يكون دليلاً على المدعى غيره.

على أن هذا الإجماع المدعى، مصدره هو السيد والشيخ(ره) وابن زهرة وابن حمزة، والمقرر في الأصول عدم الاعتماد على الإجماعات الصادرة عنهم، لأنها من الإجماعات اللطفية، التي عرفت هناك المنع عن حجيتها، مضافاً إلى أنه يمكن المنع عن قبول إجماع العلامة أيضاً مضافاً لإجماعي السيد والشيخ(ره)، لكونه من الإجماع الإسكاتي الذي ذكر في مقابل الخصم، والاحتجاج عليه بما يرى هو حجيته، فتأمل[11].

——————————————————————————–

[1] الانتصار ص 63.الخلاف ج 2 ص 72.الغنية من الجوامع الفقهية ص 571.الوسيلة ص 142.السرائر ج 1 ص 377.التذكرة ج 6 ص .المنتهى ج 2 ص 573.

[2] المقنع ص 60.زبدة البيان ص 174.مجمع الفائدة والبرهان ج 5 ص 25.

[3] مصباح الفقيه

[4] سورة البقرة الآية 187.

[5] مستند الشيعة ج 10 ص 246.

[6] مصباح الهدى ج 8 ص 58.

[7] مصباح المنهاج كتاب الصوم ص 78.

[8] الانتصار ص 63.

[9] الخلاف ج 2 ص 174 مسألة 13.

[10] تذكرة الفقهاء ج 6 الصوم، ما يمسك عنه الصائن ص 26.

[11] لأن هذا لو صح لو في الخلاف وفي التذكرة، إلا أن الحكم بصحته في الانتصار الذي أعدّه السيد(ره) من أجل إثُبات ما تنفرد به الإمامية، وهذا يعني أنه ليس في مقام الإسكات للخصم والاحتجاج عليه بما يرى هو حجيته، بل هو في الحقيقة إثبات ما تدعيه الإمامية، فتأمل.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة