الاجتهاد النبوي(6)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
97
0

الاجتهاد النبوي(6)

الحكم بما أراه الله:

ومنها: قوله تعالى:- (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً* واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً)[1]. وقد قرب الاستدلال بها على المدعى من خلال استفادة ذلك من كلمة الرؤية المذكورة في الآية، لأن معناها الرأي، فيكون مفاد الآية الشريفة هو أحكم برأيك في كل أمر من الأمور، وهذا هو معنى الاجتهاد.

 

وطبقاً للتقريب المذكور، سوف تكون الآية الشريفة دالة على إمكان الاجتهاد النبوي، أما وقوعه وتحققه فهو متوقف على وجود قضية خارجية ثبت فيها قيام النبي الأكرم محمد(ص) بالحكم فيها برأيه مستقلاً.

وقد يتمسك لذلك بما جاء في كتاب التفسير المنسوب للقمي، في تفسير الآية محل البحث، حيث قال: فإنه كان سبب نزولها أن قوماً من الأنصار من بني أبيرق إخوة ثلاثة كانوا منافقين، بشير ومبشر وبشر، فنقبوا على عم قتادة بن النعمان، وكان قتادة بدرياً وأخرجوا طعاماً كان أعده لعياله وسيفاً ودرعاً، فشكا قتادة ذلك إلى رسول الله(ص) فقال: يا رسول الله، إن قوماً نقبوا على عمي وأخذوا طعاماً كان أعده لعياله ودرعاً وسيفاً وهم أهل بيت سوء، وكان معهم في الرأي رجل مؤمن يقال له لبيد بن سهل، فقال بنو أبيرق لقتادة: هذا عمل لبيد بن سهل، فبلغ ذلك لبيداً فأخذ سيفه وخرج عليهم، فقال: يا بني أبيرق أترمونني بالسرق وأنتم أولى به منى وأنتم المنافقون تهجون رسول الله وتنسبونه إلى قريش لتبينن ذلك أو لأملأن سيفي منكم، فداروه وقالوا له: ارجع يرحمك الله فإنك بريء من ذلك، فمشى بنو أبيرق إلى رجل من رهطهم يقال له أسيد بن عروة وكان منطيقاً بليغاً، فمشى إلى رسول الله(ص)، فقال: يا رسول الله إن قتادة بن النعمان عمد إلى بيت منا أهل شرف وحسب ونسب فرماهم بالسرق واتهمهم بما ليس فيهم، فاغتم رسول الله(ص) لذلك، وجاء إليه قتادة فأقبل عليه رسول الله(ص) وقال له: عمدت إلى أهل بيت شرف وحسب ونسب فرميتهم بالسرقة وعاتبه عتاباً شديداً، فاغتم قتادة من ذلك ورجع إلى عمه وقال: ليتني مت ولم أكلم رسول الله(ص)، فقد كلمني بما كرهته، فقال عمه: الله المستعان، فأنزل الله في ذلك على نبيه:- (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيماً واستغفر الله إن الله كان غفوراً رحيماً ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خواناً أثيماً يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يـبيتون ما لا يرضى من القول) يعني الفعل فوقع القول مقام الفعل ثم قال:- (ها أنتم هؤلاء)…إلى قوله(ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً) لبيد بن سهل(فقد احتمل بهتاناً وإثماً مبيناً)[2].

 

قراءة دلالة الآية:

ولا يذهب عليك أنه حتى يلتـزم بتمامية دلالة الآية المباركة على المدعى، لابد إما أن تكون نصاً في هذا المعنى، ولا أقل ظاهرة فيه، ولو بمعونة بعض القرائن المانعة من القبول بالاحتمالات الأخرى. أما لو كانت هناك محتملات أخرى ولم يكن ترجيح لأحدها أو لم يرجح هذا المحتمل عليها، فلن تكون الآية مربوطة بمحل البحث، وسوف تكون أجنبية عنه.

وعند الرجوع لكلمات أهل اللغة، تجد المستفاد من كلماتهم وجود معاني ثلاثة للرؤية:

 

الأول: أنها بمعنى الإبصار، فالمقصود من قولك: رأيت الكتاب والدار، يعني إبصارهما.

ولا ريب في خروج هذا المعنى عن حريم النـزاع، إذ لا يتصور أن يكون المقصود من الرؤية في الآية الشريفة ذلك، لعدم الأثر المترتب على الرؤية البصرية في الأحكام، ولا معنى أن يطلب الله تعالى من نبيه(ص) أن ينظر بعينه في الحكم الذي سوف يصدره للناس، خصوصاً وأن الأحكام من العناوين الاعتبارية التي لا ترى.

الثاني: أنها بمعنى العلم، فإن معنى قول القائل: رأيت زيداً يقرأ، يعني أنه قد حصل له علم بقيامه بذلك الفعل.

 

ومع حسن هذا المعنى في نفسه، يمنع من قبوله في المقام أن العلم إذا جاء معه مفعولان لزم ذكر المفعول الثالث، وقد تضمنت الآية المباركة مفعولين فقط، قد صرح بأحدهما، وهو كاف الخطاب، في قوله:- (أراك)، والثاني مقدر مضمر، وهو الضمير المتصل بهذه الكاف، فيكون تقدير الآية هو: لتحكم بين الناس بما أراك الله إياه، لأن ما التي هي اسم موصول تحتاج عائداً يعود عليها، ومع عدم وجود المفعول الثالث يختل شرط الرؤية بمعنى العلم.

الثالث: أنها بمعنى الرأي، وهو عبارة عن وجهة النظر.

وحتى تصلح الآية الشريفة للدلالة على قول القائلين بثبوت الاجتهاد النبوي، يلزم حصر معناها في خصوص المعنى الثالث بعد بطلان الاحتمالين الأول والثاني، لاستبعاد الأول، ولوجود المانع في الثاني، فيتعين الأمر الثالث بمقتضى القسمة الحاصرة.

ومتى أمكن تصحيح القبول بالمعنى الثاني من معاني الرؤية، فلن يكون هناك موجب للجوء للمعنى الثالث، بل سوف يكون هو المتعين، فإن المفعول الثاني المقدر هو إياه، يعود لما علمه النبي(ص) وأراه الله تعالى إياها، وهو القرآن الكريم، بقرينة صدر الآية الشريفة، فيكون مفادها: أنزلنا إليك القرآن بالحق لتحكم بين الناس به، ولا تحكم بشيء آخر غيره.

 

على أنه يمنع حصر معنى الرؤية في الآية المباركة في خصوص هذه المعاني الثلاثة، فقد ذكر بعضهم معنى رابعاً محتملاً فيها، وهو الإلهام، ومن المعلوم أن الإلهام وحي سماوي، وليس اجتهاداً، فيكون الحكم الصادر منه(ص) جراء امتثاله الأمر الصادر له في هذه الآية حكماً وحيانياً، وليس اجتهادياً.

 

ومع وجود هذا الاحتمال لن ينحصر معنى الرؤية في المحتمل الثالث لتصلح عندها للدلالة على المدعى.

ومع عدم المرجح لأحد الاحتمالين على الآخر، فلا مناص من الاجمال في دلالتها، بل لا يبعد البناء على ترجيح الاحتمال الرابع خصوصاً بملاحظة صدر الآية المتضمن إنزال القرآن الكريم على النبي محمد(ص)، فإنه ينسجم مع كون الحكم منه(ص) بما قد أوحي إليه من الله سبحانه وتعالى.

 

ثم إنه لو تنزلنا عما تقدم، وبني على إرادة المعنى الثالث من الآية الشريفة، فإنها لن تصلح للدلالة على المدعى وفق ما يتبناه المشهور من علماء الإمامية من ثبوت التفويض إلى رسول الله(ص) والأئمة الأطهار(ع)، وقد أشارت لذلك بعض النصوص، فقد جاء في الكافي بسنده عن عبد الله بن سنان، قال: قال الصادق(ع): لا والله ما فوض الله إلى واحد من خلقه إلا إلى رسول الله(ص)، وإلى الأئمة(ع)، قال الله عز وجل:- (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله)، وهي جارية في الأوصياء. فقد فسر الإمام(ع) قوله تعالى:- (بما أراك الله) الوارد ذكرها في الآية الشريفة بالتفويض المعطى لرسول الله(ص)، وهو وإن كان شيئاً يصدر عن رسول الله(ص) على نحو الاستقلال، لكنه مما يرتضيه الله تعالى ولا يخطأه أبداً، بل يمضيه.

 

رأي العلامة الطباطبائي:

وقد يقال: إن العلامة الطباطبائي(ره)، قائل بدلالة الشريفة على الاجتهاد النبوي، لأنه قد ذكر في معناها: فالمراد بالإراءة في قوله:- (لتحكم بين الناس بما أراك الله)، يقصد إيجاد الرأي وتعريف الحكم، وليس تعليم الأحكام والشرائع، كما احتمله بعضهم[3].

وهو ممنوع، ذلك أن السيد العلامة(قده) بصدد بيان دلالة الشريفة على القضاء، وأنه موضوعها، ومن الواضح جداً الفرق البيّن بين القضاء والحكم الشرعي، وما يكون له من الرأي هو نتيجة ما يحصل له(ص) من العلم الناجم من شهادة الشهود، أو من خلال يمين المنكر، وما شابه، ولا ربط لذلك بموضوع الاجتهاد أصلاً، ويشهد لذلك قوله(ره): ومضمون الآية على ما يعطيه السياق أن الله أنزل إليك الكتاب وعلمك أحكامه وشرائعه وحكمه لتضيف إليها ما أوجد لك من الرأي وعرفك من الحكم فتحكم بين الناس، وترفع بذلك اختلافاتهم[4].

 

 

[1] سورة النساء الآيتان رقم 105-106.

[2] نور الثقلين ج 2 تفسير سورة النساء ح 550 ص 142-143.

[3] الميزان في تفسير القرآن ج 5 ص 71.

[4] الميزان في تفسير القرآن ج 5 ص 71.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة