مداراة الناس

لا تعليق
من القلب إلى القلب
340
2

مداراة الناس

 

تعتبر مدارة الناس واحداً من الأركان التي يقوم عليها العمل الصالح، وأحد شروطه المعتبرة فيه.

 

وقبل حديثنا عن هذا الشرط، ومدى أهميته في انطباق عنوان العمل الصالح على العمل الصادر من المكلف، يجدر بنا إلفات نظر القارئ إلى أن هناك فرقاً بين هذا الشرط وبين النفاق، فليسا شيئاً واحداً كما ربما يتخيل البعض ويتبادر إلى الأذهان بمجرد سماع هذا العنوان، ذلك أن النفاق مرض من الأمراض النفسية الخبيثة التي تبتلى بها نفوس بعيدة عن الأجواء الإيمانية، تعيش حالة من الخديعة والمكر والاحتيال، تظهر شيئاً وتبطن آخر، فهي لا تظهر ما تبطن إذن، وإنما لها صورتان، ظاهرية وباطنية، وفرق ما بين كلتا الصورتين، وما أظهرته إنما أرادت منه أشياء وأغراض خاصة، تسعى لتحقيقها ونيلها.

 

ومن الواضح أن هذا خلاف ما نحن بصدد الحديث عنه، وهو صفة المداراة، إذ أن هذه الصفة تستهدف ضبط الإنسان وحركته وكافة ممارساته عن أجواء الانفعال والتأزم والمواجهة العنيفة مع الآخرين.

وتظهر أهمية هذه الصفة من خلال ما يـبديه الإنسان من قدرة على الابتعاد عن العوامل والظروف المساعدة على الإثارة والتأزم في العلاقة مع الآخرين، لأن من السهل أن يجرّ الإنسان إلى مواقف متشنجة في حياته اليومية، مع أن العديد من هذه المواقف يمكن تلافيها من خلال شيء قليل من الصبر والحكمة، يـبديهما الإنسان حين تعامله مع تلك المواقف، ويكون بذلك قد حفظ شخصيته، كما أنه قد أعطى الطرف الآخر مجالاً كي ما يفكر ويراجع نفسه في محاولة منه لتصحيح مواقفه.

 

وقد حث القرآن الكريم على المداراة ومعاشرة الآخرين بالتي هي أحسن قال تعالى:- (وقولوا للناس حسناً) ، وقال سبحانه:- (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه  عداوة كأنه ولي حميم).

وقد تضمنت النصوص أيضاً الإشارة لهذا الخلق، وحثت على لزوم التخلق به، وأنه صفة من صفات المؤمنين، فقد ورد عن رسول الله(ص) أنه قال: أعقل الناس أشدّهم مداراة للناس، وأذلّ الناس من أهان الناس.

وجاء عنه(ص) قوله: إنّا أمرنا معاشر الأنبياء بمداراة الناس كما أمرنا بأداء الفرائض.

 

وقال(ص): مداراة الناس نصف الإيمان، والرفق بهم نصف العيش.

ويمكننا أن نفهم وجه جعل المداراة مقومة للعمل الصالح وركناً من أركانه وشرطاً من شروطه، متى عرفنا أن القاعدة الأخلاقية في النظرية الإسلامية للعلاقات الاجتماعية تقوم على مبدأ الحب والود، فهي ليست علاقة شكلية مجردة وفارغة عن أي معنى أو مضمون، كما أنها ليست آلية تقوم على مصالح ومنافع متبادلة. بل هي علاقة قائمة على العاطفة والشعور والحب والود والولاء بين الأطراف، وواضح أن مثل هذا يهيئ لها سبل التكامل.

وخير طريق يمكن من خلاله إبراز هذا الحب وإظهار هذا الود، هو حسن الخلق والتودد إلى الناس، والمداراة والمجاملة لهم، فإن هذا العمل يعدّ أول الخطوات التي يتم من خلالها إزالة كافة الحواجز ورفع جميع المؤثرات السلبية.

ونستفيد هذا المعنى من خلال النصوص التي أشارت إلى اتخاذ هذا الخلق منهجاً وسبيلاً يمكن للإنسان الوصول من خلاله إلى قلوب الآخرين، فعن أبي جعفر الباقر(ع) قال: إن إعرابياً من بني تميم أتى النبي(ص) فقال له: أوصني، فكان فيما أوصاه: تحبب إلى الناس يحبوك.

 

ولا ريب أننا نجد هذا المعنى واضحاً في سيرة رسول الإنسانية(ص)، والأئمة المعصومين(ع) من بعده، حيث أنهم على ما لاقوه من مصاعب، إلا أنهم واجهوا جميع ذلك بمداراة واضحة منهم للمجتمع الذي كانوا يعيشون فيه، والأمثلة عديدة يجدها المتتبع لسيرتهم.

ومما يشهد للاهتمام الصادر من المعصومين بهذه الناحية، ومقدار ما تتركه على جلب الطرف الآخر، ما ورد من النصوص المشيرة إلى استخدام منهج التقية المداراتية في التعايش مع الآخرين من المذاهب الأخرى، فإنها خير شاهد على ما للمداراة من قيمة فعالة تـترك أثرها على الطرف الآخر.

 

ونعني بالتقية المداراتية، حسن المعاشرة مع المذاهب الأخرى من المسلمين، من خلال عيادة مرضاهم، وتشيـيع جنائزهم، وما شاكل ذلك، سعياً للحفاظ على الوحدة الإسلامية، وتأيـيداً للدين وإعلاء كلمة الإسلام وأهله، في مقابل الكفار والمشركين وأعداء الإسلام.

 

وهذا القسم تشهد له مجموعة من الآيات القرآنية والنصوص الواردة عن المعصومين(ع)، مثل قوله تعالى:- (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا). وعن معاوية بن وهب، قال، قلت له: كيف نصنع فيما بيننا وبين خلطائنا مما ليسوا على أمرنا؟ فقال: تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودوا مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الأمانة إليهم.

كما أن هذا المعنى يمكن استفادته من خلال الصحيفة السجادية، وبالتحديد من دعائه(ع) لأهل الثغور، لأنه كما لا يخفى كان ذلك الوقت الحكم بيد بني أمية، والفتوحات كانت تجري بواسطتهم، فدعاؤه(ع) لهم يشير إلى مبدأ الوحدة الإسلامية ما دامت الحركات الجهادية ساعية من أجل الدفاع عن الإسلام، أو ساعية من أجل إعلاء كلمة الإسلام، ودحض دعوة الكفر والباطل.

 

 

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة