المقامات المهدوية والآثار التكوينية
من الأسماء التي يطلقها المؤمنون على ولي أمرهم وإمام زمانهم، وفقاً لما تضمنته النصوص، صاحب الزمان، وصاحب العصر، وصاحب الأمر. وربما استبدلوا كلمة الصاحب بالولي، فيقولون ولي الزمان، وولي العصر، وولي الأمر.
والظاهر أن غايتهم من ذكر التسميات المذكورة الإشارة إلى بعض المقامات المهدوية التي قد تقتنص من النصوص الشريفة، فيكون مقصودهم من تسميته(روحي لتراب حافر جواده الفداء) بصاحب الزمان، أن له ولاية على الزمان، كما أن تسميته بولي العصر، يشير إلى ولايته على العصر، ومثل ذلك يجري أيضاً في شأن تسميته(بأبي وأمي) بولي الأمر. وهذا يستدعي ملاحظة مدلول كل واحد من هذه الأسماء للإحاطة بالمقام الذي تشير إليه.
الولاية على الزمان:
وهذا المقام يستفاد من خلال تسميته(روحي له الفداء) بصاحب الزمان، وبيان حقيقة هذا المقام، تحتاج إلى الإحاطة بمدلول الاسم، من خلال بيان مفرداته، وتحديد المقصود منها.
ولا يحتاج بيان هذا المقام إلى تحديد المقصود من الولاية، لأنها من المفاهيم الجلية الواضحة عند أهل الإيمان، ومثل ذلك يجري في شأن الصحبة، إذ ليس المقصود منها في البين، مطلق المرافقة والملازمة،
ليكون المقصود من ذلك مطلق الصحبة للزمان، بمرور الوقت والأيام، وإنما المقصود منها ظاهراً الملكية والإحاطة، نظير ما يقال أن فلاناً صاحب الدار، وصاحب الدابة، وصاحب المال، فإن الصحبة هنا ظاهرة في الملكية والهيمنة والإحاطة، والتصرف في ما هو تحت يد الصاحب.
نعم يبقى مفهوم الزمان يحتاج تحديداً، فإن معناه اللغوي يختلف عن معناه الاصطلاحي، فإن المستفاد من كلمات أهل اللغة، أنه: المدة الزمنية المستغرقة. وأما في الاصطلاح فقد وقع الخلاف بين أهل المعقول في تحديد المراد منه، وإن كان المشهور بينهم ما ذكره أرسطو، من أنه: مقدار حركة الفلك الأعظم.
ولعل ما جاء في كلامه يتوافق وما ذكره المتكلمون من أن الزمان أمر اعتباري موهوم، وليس له وجود[1]. لأن السكون لا عدّ له، فإذا انطلقت حركة الفلك في الكون الأول حسبت زماناً اعتباراً، فإذا انتقلت إلى الكون الثاني حسبت زماناً ثانياً، وهكذا، وعليه يكون معنى صاحب الزمان من يكون ملازماً للزمان، كناية عن حياته الدائمة، ومالكيته للتصرف فيه وقيمومته عليه.
وربما منع حمل ولايته على الزمان(روحي له الفداء) بالمعنى الاصطلاحي، تمسكاً بعدم ظهور ذلك من النصوص التي أطلقت عليه الاسم المذكور، بل الظاهر منها هو المعنى العرفي بنظر العرف العام، فيتوافق وما تضمنته كلمات أهل اللغة. ولو بني على ذلك، فإنه يكون في حقيقة ولايته على الزمان (روحي لحافر جواده الفداء)، أمران:
أحدهما: أن تكون ولايته عليه ولاية مجازية، وليست حقيقة، لأن الزمان أمر اعتباري موهوم، والمقصود هو ولايته على أهل الزمان، نظير ما جاء في قوله تعالى:- (وأسأل القرية)، وقوله تعالى:- (وأسأل العير)، فإن المقصود أسأل أهل القرية، وأسأل أهل العير، وليس المقصود سؤال نفس القرية أعني جدرانها، ولا سؤال الأبل.
ثانيهما: أن تكون ولايته على الزمان ولاية حقيقة، وليست ولاية مجازية، فهو ولي على ذات الزمان بالفعل، ويكون الزمان مسخراً له، فيوظفه في أغراضه الإلهية.
وربما قيل، بأنه لا مانع من حمل ولايته على الزمان وصحبته له على كلا المحتملين، لعدم وجود منافاة بينهما.
وما ذكر وإن كان صحيحاً في نفسه، إلا أنه لن يكون مفيداً لمقام إضافي يختص به مولاي ولي النعمة(روحي لحافر جواه الفداء)، فإن الولاية على أهل كل زمان ثابتة لكل واحد من المعصومين(ع)، كما لا يخفى. ويساعد على ذلك، ما يستفاد من الأدلة من أن الزمان حقيقة وجودية ولها نسبة من الإدراك والشعور، لكن لا يدركها الإنسان، لأنها من اللطائف، وهذا جعله يتغير من وجود إلى آخر، ومن رتبة إلى أخرى، فالموجودات الكثيفة مقيدة بالزمان، وكلما تجردت عن المادة قلت نسبة الزمان حتى إذا بلغت مرتبة الملكوت واللطافة الذاتية فإنه ينعدم بالنسبة إليها، فيقال فوق الزمان.
والحاصل، حتى يحكم بثبوت مقام خاص للمولى(روحي فداه) لابد من حمل الولاية على الزمان على الاحتمال الثاني، وأنها ولاية حقيقة، وليست ولاية مجازية.
ويساعد على ذلك، ما سمعت في بيان حقيقة الزمان، وأنه ليس على وتيرة واحدة، لأنه إما أن يكون متغيراً ذاتاً، أو متغيراً وجوداً، وهو متصرم الوجود. لأنه ذكروا أن للزمان مراتب.
مراتب الزمان:
الأولى: الزمان الكثيف، وهو ما يتعلق بالكائنات المادية المقيدة بحدودها وقيودها، وهو بهذا المعنى يعني مدة الحركة الحسية للماديات، ويتغير حسب شدة الحركة ونقل المتحرك ووزنه وكيفية الحركة.
الثانية: الزمان اللطيف، وهو يعني مدة حركة الروحانيات المدبرة للعالم الجسماني، مثل حركة الملائكة التي تدبر شؤن الوجود الجسماني بالوحي والإلهام والنصرة والانتقام، وكذا حركة الجن والأرواح المتعلقة بالأجسام.
الثالثة: الزمان الألطف، وهو مدة حركات الأرواح العالية والأنوار المقدسة الأكثر لطافة وتجرداً، نظير بعض الملائكة المقربين، والروح الذي يعرج عروجاً روحياً، كما في قوله تعالى:- (تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)[2]، وبأي نحو من أنحاء التفسير فسر الروح في الآية الشريفة، سواء قيل أنه روح الإنسان، أم روح القدس، أم ملك الوحي، أم غير ذلك من الوجودات اللطيفة، فالظاهر أن عروجه يختلف عن عروج الملائكة، لتحديد ذلك بخمسين ألف سنة من أيام الدنيا.
ولايته على الزمان:
وبناء على ترجيح الاحتمال الثاني، وأن ولايته على الزمان ولاية حقيقة، وليست ولاية مجازية، سوف تتجلى ولايته على الزمان من خلال بعدين:
الأول: التصرف المطلق في الزمان، وهو يكون من خلال القبض والبسط، والطي والنشر، يعني سعة وضيقاً، فيكون(عج) مظهراً لأسمين من أسماء الله سبحانه وتعالى، وهما القابض والباسط، لأنه يكون قابضاً للزمان، كما يكون باسطاً له. ومقتضى ثبوت الولاية المذكورة، أن يكون(روحي له الفداء) فوق الزمان، فلا يقيده الزمان، ولا المكان المادي.
الثاني: الإحاطة التامة والمطلقة بالزمان والزمانيات، وهذا يستدعي أن تكون له الولاية على المكان والمكانيات، كما له الولاية على الزمان والزمانيات، فيكون حاضراً في كل مكان، يستجيب لدعوة كل من دعاه، ويغيث كل من استغاث به.
أدلة الولاية على الزمان:
وحتى يكون ما ذكرناه من ثبوت الولاية على الزمان برهانياً، نذكر دليلين من القرآن الكريم:
الأول: احضار عرش بلقيس من سبأ اليمن إلى أرض فلسطين، قال تعالى:- (قال يا أيها الملأ أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين. قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين. قال الذي عنده علم من الكتاب أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك)[3]،ومع بعد المسافة بين فلسطين وسبأ، فقد وقعت المنافسة بين قدرتين: قدرة الجن، وقدرة وصي سليمان آصف بن برخيا(ع).
ولا يخفى أن احضار عرش بلقيس إذا كان بلحاظ الزمان الكثيف، فإنه سوف يحتاج وقتاً طويلاً لقطع تلك المسافة الطويلة بين البلدين، لكن لما كان الجن يخضع للزمن اللطيف فسوف تستغرق مدة الإحضار يوماً أو بعض يوم، وهي المدة التي كان يجلسها سليمان(ع) للحكم بين الناس[4].
لكن لما كان آصف بن برخيا(ع) من الأولياء، وعنده علم من الكتاب التكويني وقوانينه، فإنه يخضع للزمان الألطف فلن تستغرق مدة احضاره للعرش أكثر من طرفة عين، ثانية أو أقل منها.
وتشترك جميع التفسيرات المذكورة لسرعة الإنجاز الخارق في هذه المدة الوجيزة، بأنه نحو من أنحاء الإعجاز من خلال اختصار الزمان والمكان، يعني طيهما وقبضهما، حتى كأن العرش لم يكن في مكان بعيد.
ومن الواضح، أن هذا النحو من القبض وبهذه السرعة العجيبة ليس بمقدور كل أحد، بل يختص بالأولياء الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى ذواتاً نورية لطيفة، وسخر لهم الأشياء بما فيها الزمان والمكان، وهذا المعنى يظهر من العلامة المجلسي(ره)[5].
ولا ريب أن ما امتلكه آصف بن برخيا(ع) من القدرة على قبض الزمان والمكان، يمتلكه من هم أعلى منه درجة ومقاماً روحانياً، وأوسع منه علماً. ويدل على ذلك بعض النصوص، فعن جابر عن أبي جعفر(ع) قال: إن اسم الله الأعظم على ثلاثة وسبعين حرفاً وإنما كان عند آصف بن برخيا منها حرف واحد فتكلم به فخسف بالأرض ما بينه وبين سرير بلقيس حتى تناول السرير بيده ثم عادت الأرض كما كانت أسرع من طرفة عين، ونحن عندنا من الاسم الأعظم اثنان وسبعون حرفاً، وحرف واحد عند الله تعالى استأثر به في علم الغيب عنده، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم[6]. ومثله ما رواه النوفلي، عن أبي الحسن صاحب العسكر(ع) قال: سمعته يقول: اسم الله الأعظم ثلاثة وسبعون حرفاً، كان عند آصف حرف فتكلم به فانخرقت له الأرض فيما بينه وبين سبأ فتناول عرش بلقيس حتى صيّره إلى سليمان، ثم انبسطت الأرض في أقل من طرفة عين، وعندنا منه اثنان وسبعون حرفاً، وحرف عند الله مستأثر به في علم الغيب[7].
الثاني: حادثة الإسراء والمعراج، والتي أشير إليها في قوله تعالى:- (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى)[8]، وهي الحادثة المعروفة التي أسري فيها برسول الله(ص) من مكة المكرمة إلى بيت المقدس، ومنه عرج إلى السماء، وقد جاء في بعض النصوص، أنه(ص) عاد إلى فراشه، وبعدُ لم يبرد، مع طول المسافة المقطوعة، والتي تبلغ مئات الكيلو مترات، وكانت تستغرق أياماً عديدة، مع أن ذلك كله قد وقع في ليلة واحدة، بل في بعض ليلة، وهذا يعني أن ذلك كان بطي الزمان والمكان وقبضهما، ومثل ذلك العروج إلى السماء.
نمو صاحب الزمان بشكل مختلف:
وما ذكر من ولايته(عج) على الزمان، وقدرته على التصرف فيه بسطاً وقبضاً يفسر ما تضمنته بعض النصوص، من أنه(بأبي وأمي) كان ينمو بنحو مختلف عن الآخرين، وأنه كان يظهر لناظريه في عمر يفوق عمره، فقد ورد عن السيدة حكيمة(ع) أنها قالت: دخلت دار أبي محمد(ع) بعد أربعين يوماً من ولادة الحجة العظمى فإذا مولانا صاحب الزمان(ع) يمشي في الدار، فلم أر وجهاً أحسن من وجهه، ولا لغة أفصح من لغته، فقال لي أبو محمد: هذا المولود الكريم على الله عز وجل، قلت له: يا سيدي له أربعون يوماً وأنا أرى من أمره ما أرى، فقال(ع): أما علمت يا عمتي أنا معشر الأوصياء ننشأ في اليوم ما ينشأ غيرنا في السنة[9].
رؤية أهل المغرب أهل المشرق:
ووفقاً لما تقدم ذكره من ثبوت ولايته(بأبي وأمي)، يمكن تفسير ما تضمنته بعض النصوص مما يعد غريباً في عصره وزمانه(ع)، ففي الحديث عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: إن المؤمن في زمان القائم وهو بالمشرق ليرى أخاه الذي في المغرب، وكذا الذي في المغرب يرى أخاه الذي في المشرق[10].
ولا مجال لحملها كما في كلام بعض الأعلام(ره) على التقدم العلمي والتطور التكنولوجي، فتكون مشيرة لبعض الوسائل الحديثة الموجودة اليوم، وكذا الفضائيات، وذلك لسببين:
الأول: إن المستفاد من النصوص الشريفة المتعرضة للحديث حول هذا الجانب، عدّ هذا الأمر واحداً من الخصوصيات التي للعصر المبارك للإمام ولي النعمة(عج)، وهذا يتنافى والتوجيه المذكور من حملها على الطور العلمي والتكنولوجي، والذي قد يكون قبل حصول الظهور الشريف.
الثاني: إن الظاهر من النصوص بيان فضيلة وخصوصية للمؤمنين في عصر الظهور المبارك، لتكون حجة على الخلق، ويكون مظهراً من مظاهر التكريم والتجليل، ومع البناء على التفسير المذكور، أو غيره من التفسيرات التي قد تذكر، لن يكون في ذلك أية خصوصية لهم. وإلى هذا يشير ما ورد عن الإمام الباقر(ع) أنه قال: كأني بأصحاب القائم(ع) وقد أحاطوا بما بين الخافقين، فليس من شيء إلا وهو مطيع لهم حتى سباع الأرض، وسباع الطير تطلب رضاهم في كل شيء حتى تفخر الأرض على الأرض، وتقول مرّ بي اليوم رجل من أصحاب القائم(ع)[11].
ومع البناء على اختصاص الأمر المذكور وغيره بزمان الإمام الصاحب(روحي له الفداء)، فهذا يعني أنه(عج) سوف يعطى أصحابه القدرة الإلهية على التصرف في الزمان والمكان، وهذا قد يكون من خلال التجرد عن البدن، وقيوده، لأن الروح من عالم الملكوت، ومع تجردها عن البدن، تتصف إما بالزمان اللطيف، أو الألطف حسب درجاتها في المعرفة الإلهية.
أو من خلال تلطيفه وخفته. ومما يؤيد ذلك خبر أبي الربيع الشامي، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: إذا قام قائمنا مدّ الله لشيعتنا في أسماعهم وأبصارهم حتى لا يكون بينهم وبين القائم بريد يكلمهم فيسمعون، وينظرون إليه وهو في مكانه[12].
ولايته على العصر:
ومن المقامات الثابتة له(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، الولاية على العصر، فهو صاحب العصر ووليه، ولا يخرج المقصود من العصر في اللغة والعرف والاستعمال الشرعي، عن أحد جوامع ثلاثة:
الأول: المدة الزمنية سواء كان دهراً، أم حيناً، فيقال عصر الرسول الأكرم(ص)، والدولة الأموية، وعصر الدولة العباسية، والمقصود من ذلك الفترة الزمنية التي كان فيها هؤلاء، وما تضمنته من أحداث وأمور.
الثاني: ما يستخرج من الشيء حال عصره، وضغطه، وهو الاحتلاب، فيقال: عصير البرتقال، وعصير الرمان، وإليه يشير قوله تعالى:- (وأنزلنا من المعصرات ماء ثجاجاً)[13]، وهي السحائب التي تنعصر بالمطر.
الثالث: الالتجاء للمكان والتعلق به، فيقال: اعتصر بالمكان، ومنه قيل للدروع معاصر، لأنا ملجأ المقاتل لتحميه.
ولا يبعد أن لا تكون المذكورات معاني للعصر، وإنما استعمالات له، ويكون كل واحد منها بلحاظ معين، ما يعني إمكانية إرجاعها جميعاً إلى جامع واحد، وهو ما تضمنه كلام الراغب الاصفهاني، من أنه ضغط شيء حتى يتحلب ويخرج ماؤه[14]. فتفسير العصر بالمدة الزمنية المستغرقة لجماعة معينة، أو حكم دولة ما، يعود إلى أنه العصر الذي حبس فيه الناس وضغطوا وعاشوا أحداثاً ووقائع خاصة حتى كأنهم قد تحلبوا واعتصروا فيها، وهكذا.
وبالجملة، إن المقصود من العصر عند اطلاقه، عبارة عن ما يعصر به.
وقد تضمنت بعض النصوص تفسير العصر الوارد ذكره في قوله تعالى:- (والعصر)[15]، بعصر خروجه وظهوره المبارك(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، فعن المفضل بن عمر، قال: سألت الصادق جعفر بن محمد(ع) عن قول الله عز وجل:- (والعصر* إن الإنسان لفي خسر)، فقال: العصر عصر خروج القائم(ع)[16]. والظاهر أنه من الجري والتطبيق، فتأمل.
وكيف ما كان، فلا يبعد البناء على مناسبة تسميته(روحي له الفداء) بصاحب العصر، أو وليه، مع المعنى الذي ذكرناه له وفق ما يظهر من كلمات أهل اللغة، لأن زمانه(عج)، سوف يكون عصر تميـيز المؤمنين والمنكرين، فيظهر جوهر المؤمنين، كما يظهر جوهر المنكرين، وهذا لا يكون إلا من خلال الاحتلاب والاعتصار، لأن زمانه المبارك هو الزمان الذي تظهر فيه خلاصة الرسائل السماوية، وحجج الأنبياء والأولياء السابقين، وتظهر فيه كمالاتهم، وتتلخص فيه كل كمالاتهم الشخصية، وسيرتهم، لأنه وريثهم وخاتم مقاماتهم.
بل حتى لو بني على أنه من المشترك اللفظي، وبالتالي تأتي المحتملات الثلاثة التي ذكرناها، فإنه يمكن تفسير تسميته بذلك، لأنه وفق المحتمل الأول، سوف يكون بلحاظ ما يتسم به عصره المبارك، من أنه عصر جديد يتميز بأحكام وأنظمة وتطور علمي وإنساني، تسود فيه العدالة الإلهية، ويرتقي البشر روحياً وفكرياً وحضارياً، حتى يقال أنه يأتي بدين جديد[17].
وأما تناسبه مع الجامع الثالث، فلأن عصره الممون، سوف يكون الملجأ للناس تلتجئ إليه البشرية طلباً للخلاص من الجور والظلم، وهو يمثل الدرع الذي يقيها من آثار الظلم والفساد والجور. وقد عرفت توجيهه وفق الجامع الثاني، لأنه يمثل الجامع الكامل الذي أشار إليه الأصفهاني في المفردات.
مميزات العصر المهدوي:
ولعصر الإمام ولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء) مجموعة من الخصائص والامتيازات، نشير لبعضها:
منها: انتشار العدل وبسطه على أرجاء المعمورة من خلال قيام الحكومة الإلهية العادلة، واندحار الظلم والجور، والظلم شامل للبعد العقدي، والبعد العملي، وهذا يقوم بلحاظين:
1-الحاكم 2-الشعب
فالطرفان، سوف يكونا ملتـزمين بنظام العدل الإلهي وتطبيقه في الخارج، وهذا لن يكون إلا في دولته المباركة، لأن الناس قبل ذلك كانوا لا يخرجون عن حالة من حالات أربع:
الأولى: أن يكون الحاكم عادلاً، والناس ظلمة لأنفسهم بعدم الإيمان بالله سبحانه وتعالى وتوحيده، ولغيرهم، وهذا من الندرة بمكان، لم يحصل إلا أيام حكومة رسول الله(ص)، وأمير المؤمنين(ع)، ومدة تصدي الإمام الحسن(ع).
الثانية: ظلم الناس وظلم الحاكم، وهذا هو الغالب في حياة الشعوب على مر التاريخ.
الثالثة: عدل الناس، وظلم الحاكم، والظاهر أن هذا محض افتراض، فإنه لم يمر على البشرية زمان كان جميع الناس فيه عادلين.
الرابعة: عدل الحاكم، وعدل الناس، وهذا ما سوف يكون في عصر الظهور الميمون.
ومنها: الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، فإن عصره سوف يكون خاضعاً لمجموعة من القوانين الجديدة التي لم تكن معروفة من قبل، وسوف تجري الأحداث والوقائع على خلاف ما كانت تجري عليه سابقاً، بل كافة الموجودات حتى الحيوان والحجر والمدر، وتسود المحبة والتآلف بين الموجودات حتى الحيوانات، وقد أشار إلى ذلك أمير المؤمنين(ع)، في حديثه عن دولته المباركة بعد قيامه، قال(ع): ولو قد قام قائمنا لأنزلت السماء قطرها، ولأخرجت الأرض نباتها، ولذهبت الشحناء من قلوب العباد، واصطلحت السباع والبهائم[18].
ولايته على الأمر:
وحتى يتضح معنى ولايته على الأمر وقيمومته(عج)، لابد من الإحاطة بالمقصود من الأمر، فقد ذكر له اللغويون معاني متعددة:
أحدها: الشيء أو الشأن.
ثانيها: الطلب، وهو الذي يكون ضد النهي.
ثالثها: المعلم والعلامة، وهي كل ما يكون مميزاً لشيء ما كالطريق، أو ما شابه.
كما جاء في كلماتهم أن الأمَر بفتح الميم، بمعنى النماء والبركة، وهو يشير للازدياد، وبكسرها بمعنى العَجَب، ومنه قوله تعالى:- (لقد جئت شيئاً إمراً)[19]يعني عجباً[20].
والظاهر أن المعاني المذكورة يمكن جمعها تحت جامع واحد ترجع إليه جميعاً، وهو الشأن، فيكون المقصود من الأمر فيها جميعاً هو ذلك.
وقد أطلق الأمر في القرآن الكريم على كل ما سوى الله سبحانه وتعالى، وقسم إلى قسمين:
الأول: عالم الملك، وهو عالم الخلق والوجود الإمكاني، الظاهر المحسوس، ويعبر عنه بعالم الشهادة.
الثاني: عالم الأمر، وهو عالم الملكوت الغائب عن الحس، ويعبر عنه بعالم الغيب.
ويشير لكلا القسمين، قوله تعالى:- (ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين)[21]، وفي التعبير عن عالم الملك بعالم الخلق، وعن عالم الملكوت بعالم الأمر احتمالات:
الأول: أن يكون منشأ التعبير عن عالم الملك بعالم الخلق، لأنه عالم الكون والفساد، فالخلق فيه دائم ومستمر، والكون والفساد من شؤون عالم المادة الكثيفة القاصرة عن الدوام، وتكون محكومة بقوانين التغير والحدوث. بينما عالم الأمر هو عالم التكامل والسير الصعودي، وهو عالم من النور، وحياته دائمة مستقرة لا فساد فيها، بل تكامل وارتقاء، حتى أن عذاب أهل النار تطهير وتكميل وتخليص لهم من شوائب الذنوب وآثارها.
الثاني: أن يكون ذلك بلحاظ أن عالم الخلق هو عالم الإيجاد الأول، وعالم الأمر هو السنن والقوانين الإلهية الحاكمة فيه، والتي يخضع لها العالم أجمع، ويحتكم إلى قواعدها وأحكامها، فتظهر آثاره وخيراته.
الثالث: أن يكون منشأ التعبير عن عالم الملكوت بعالم الأمر لأنه الذي يدبر عالم الملك، ويقوده ويهديه إلى غاياته، وقد يكون قوله تعالى:- (يدبر الأمر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون)[22]،مشيراً إليه[23].
والمتحصل من المحتملات المذكورة خصوصاً بملاحظة الاحتمال الثالث، وربطه بالآية التي تقدم ذكرها في انقسام الأمر الإلهي لعالم ملك وملكوت، حاجة العالم إلى في حدوثه وبقائه وتدبيره إلى خالق، يدبر نظامه من خلال أمره، وقد جعل أمره بيد أوليائه من عباده الصالحين، وهم محمد وآله(ع)، سيما صاحب الأمر(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، فإنه يملك الأمر الإلهي حدوثاً وبقاءً، وتدبيراً، سواء كان ذلك متعلقاً بالتكوين، أم كان متعلقاً بالتشريع، أم الهداية والتربية، ولعل هذا سبب وصفه في النصوص الشريفة ببقية الله، حتى صار هذا الوصف مختصاً به بالوضع التعيـين، كوصف الإمام علي بن أبي طالب(ع)، بأمير المؤمنين.
وبالجملة، إن وصفه بهذا الوصف، أعني بقية الله تعالى، يعود لما له من ولاية على الأمر، فإنه ينوب عن الله تعالى في فعله وإرادته، ويظهر جماله وجلاله، فيكون له الولاية على الخلق، وأن تدبير العالم بنظاميه الملكي والملكوتي وتشريع الأحكام وأمرا لخلال والحرام بيده، وتظهر الخيرات والبركات في عصره[24].
[1] كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ج 1 ص 909-910.
[2] سورة المعارج الآية رقم 4.
[3] سورة النمل الآيات رقم 38-40.
[4] تضمنت بعض النصوص أنه(ع) كان يجلس للحكم بين الناس من طلوع النهار حتى الزوال.
[5] مرآة العقول ج 3 ص 36، فإنه أشار إلى وجود إشكالين على خبر جابر الآتي، وهما:
الأول: كيف يمكن تحقق تلك الحركة في هذا الزمان القليل؟
الثاني: أنه على تقدير جوازه، كيف لم تخرب الأبنية والمساكن الواقعة فيما بين المكانين؟
وأجاب عن الأول، بأن الحركة قابلة للسرعة إلى غير النهاية، مع أن الحركة أسرع من ذلك واقعة، فإن ل جزء من فلك الأفلاك يتحرك في مقدار ذلك الزمان آلاف فرسخ، وجبرئيل يتحرك من العرش إلى الأرض عند المسلمين في مثل ذلك الزمان ولا نسبة بين المسافتين، فهذا محض استبعاد.
وأجاب عن الثاني، بوجود احتمالات في هذه الحركة:
أحدها: أن يكون تحرك السرير في الهواء حتى نزل على سليمان، وهذا مخالف للأخبار.
ثانيها: أن يكون تحركت الأرض التي عليها السرر إلى المكان الذ عليه سليمان(ع)، بأن يكون انخسف ما بينهما حتى التقت الأرض.
ثالثها: أن تكون الحركة في جوف الأرض بأن يكون الله تعالى خرق الأرض وحرك السرير أو الأرض التي هو عليها حتى خرج السرير من تحت مجلس سليمان.
رابعها: أن يكون بتكاثف بعض أجزاء الأرض وتخلخل بعضها.
[6] الكافي ج 1 باب ما أعطي الأئمة(ع) من اسم الله الأعظم ح 1 ص 230.
[7] المصدر السابق ح 3.
[8] سرة الإسراء الآية رقم 1.
[9] مكيال المكارم ج 1 ص 237، الغيبة للشيخ الطوسي ح 207 ص 239.
[11] بحار الأنوار ج 52 ح 43 ص 327.
[12] بحار الأنوار ج 52 ح 72 ص 336.
[13] سورة النبأ الآية رقم 14.
[14] مفردات ألفاظ القرآن مادة عصر ص 569.
[15] سورة العصر الآية رقم 1.
[16] بحار الأنوار ج 24 ح 1 ص 214.
[17] إشارة لبعض النصوص، أن الناس يتوهمون ذلك، وقد ذكرت عدة تفسيرات في ذلك:
منها: بلحاظ ما تعرضت له الشريعة السمحاء من إندراس، وتعطيل.
ومنها: ما يظهره من الأحكام التي لم تبلغ بعدُ.
[18] بحار الأنوار ج 52 باب سيره وأخلاقه وخصائص زمانه ح 11 ص 316.
[19] سورة الكهف الآية رقم 71.
[20] معجم مقاييس اللغة مادة(أمر) ص 73.
[21] سورة الأعراف الآية رقم 54.
[22] سورة السجدة الآية رقم 5.
[23] تفسير الأمثل ج 13 ص 70.
[24] الحقائق والدقائق ج 6 ص 272-313(بتصرف).