علي(ع) في فراش النبي(ص)

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
525
0

 

علي(ع) في فراش النبي(ص)

 

لقد صاحب هجرة النبي الأكرم محمد(ص) من مكة المكرمة إلى طيبة الطيبة حدثان مهمان، نالا مكانة في البحث التاريخي والكلامي بين علماء المسلمين، حيث جعلا دليلاً على أفضلية المرتبط بكل واحد من الحدثين، والحدثان هما مبيت أمير المؤمنين(ع) على فراش النبي(ص) ليلة الهجرة من مكة المكرمة، ووجود أبي بكر مع رسول الله(ص) في غار حراء بعد خروجه من مكة في طريقه إلى المدينة المنورة. وحتى تظهر أهمية هذين الحديثين المدعاة في كلمات المؤرخين والمتكلمين، ومدى أهميتهما، لابد من تسليط الضوء على كل واحد منهما، ولو بصورة مختصرة.

 

حادثة المبيت:

ابتدأت حادثة المبيت بعدما حصلت المؤمراة القرشية على رسول الله(ص)، كما يشير إلى ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى:- (إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين)[1]، فقد جاء في سبب نزولها، أن قريشاً أعيتها الحيلة مع النبي(ص)، وقد أتعبها استمرار دعوته المباركة، وازدياد عدد أتباعه، لذا اجتمعت في دار الندوة لتجد حلاً لذلك، والموجود في كلام غير واحد من المؤرخين وغيرهم: أن قريشاً قد اجتمعت في دار الندوة، وكان لا يدخلها من كان عمره دون الأربعين سنة، وهي دار قصي بن كلاب، وتآمروا في أمر النبي(ص)، فقال عروة بن هشام: نتربص به ريب المنون، وقال أبو البختري: أخرجوه عنكم تستريحوا من أذاه، وقال أبو جهل: ما هذا برأي، ولكن اقتلوه بأن يجتمع عليه من كل بطن رجل فيضربوه بأسيافهم ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فترضى منكم بنو هاشم بالدية، وقد كان من بين الحاضرين إبليس في صورة شيخ كبير، فصوب هذا الرأي، وخطأ الرأيـين الأولين.

واتفقوا على هذا الرأي، وأعدوا الرجال والسلاح، وجاء جبرئيل(ع)، فأخبر النبي(ص) بما اتفقوا عليه، فأمر علياً(ع) أن يبات على فراشه في تلك الليلة، ويلتحف ببرده الحضرمي، وخرج هو(ص) إلى غار حراء.

وقد منعهم أبو لهب من اقتحام الدار ليلاً لأن فيها نساء وصبية، فلما أصبحوا اقتحموا الدار، ولم يجدوا في الفراش إلا أمير المؤمنين(ع)، فلما سألوه: أين محمد؟ أجابهم(ع): لا أدري. فخرجوا وعمدوا إلى قص أثر النبي(ص)، وأرسلوا في طلبه وجعلوا لذلك الجوائز، فلما بلغوا الجبل الذي كان فيه رسول الله(ص)، رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا لو كان هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث(ص) في الغار ثلاثة أيام، ثم خرج إلى المدينة المنورة[2].

ولقد تضمنت الآية الشريفة الخيارات الثلاثة التي عرضت في مجلس دار الندوة للحد من خطورة دعوة النبي(ص)، وهي:

الأول: حبس النبي الأكرم(ص)، وهو الذي عبرت عنه الآية الشريفة بقوله تعالى:- (ليثبتوك).

الثاني: القتل.

الثالث: الإخراج من أرض مكة المكرمة.

وقد عرفت أنهم قد توافقوا على اختيار الخيار الثاني منها، وأن الله سبحانه وتعالى قد أطلع نبيه(ص) بذلك. وعندها طلب النبي(ص) من أمير المؤمنين(ع) أن يبيت في فراشه ليلة خروجه إلى المدينة من مكة.

 

الحاجة إلى من يبات:

وقد يتبادر إلى الأذهان، أنه ما هي الحاجة الموجبة إلى أن يوجد رسول الله(ص) شخصاً يقوم بالبيتوتة في فراشه حال قيامه بالخروج من داره قاصداً الهجرة من المدينة المنورة؟

ويجاب عن ذلك، بلحاظ أن هناك تخطيطاً نبوياً كان يسعى(ص) إلى تطبيقه يكفل له نجاح الهجرة وعدم إحباطها، لأنه(ص) كان على دراية بوجود تخطيط مقابل يسعى لإحباط الهجرة والمنع من تحققها، ولأجل أن لا تتم الخطة الموجبة لإفشال ذلك المخطط، كان يلزم أن يتواجد شخص يبيت في فراش النبي(ص) يوهم الحاضرين، والساعين لإبطال المخطط النبوي بالهجرة، أن رسول الله(ص)، لا زال موجوداً في فراشه.

وتتضح مؤامرة التخطيط لإيقاف الهجرة النبوية والمنع منها، بملاحظة ما ذكره المؤرخون، بعد خروج النبي(ص) من داره، فقد جاء في سيرة ابن هشام: فأتاهم آت ممن لم يكن معهم، فقال: ما تنتظرون هاهنا؟ قالوا: محمداً، قال: خيبكم الله! قد والله خرج عليكم محمد، ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه تراباً انطلق لحاجته، أفما ترون ما بكم؟ فوضع كل رجل منهم يده على رأسه، فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يتطلعون فيرون علياً على الفراش متسجياً ببرد رسول الله(ص)، فيقولون: والله إن هذا لمحمد نائماً عليه برده[3]. فإن المستفاد من الكلام المذكور أن الآتي لم يكن معهم، ولم يصرح باسمه، ولم تشتمل المصادر التاريخية المتعرضة لذكر الحدث على التصريح باسمه، والغريب أن هذا الجائي لم يكتف بإبلاغهم بخروج النبي(ص) من الدار، بل عمد إلى البرهنة على صدق كلامه، بإخبارهم بما وضعه رسول الله(ص) على رؤوسهم، وهذا يساعد على أنه كان محيطاً بكثير من الأمور المرتبطة بالحدث، بل ربما كان على دراية بموجب اجتماعهم على باب دار النبي(ص)، وما كان سؤاله لوجودهم عنده جهلاً منه بالغرض الذي دفعهم للاجتماع، بل كان سؤاله استنكارياً، لأن الغرض الذي قد اجتمعوا من اجله قد انتفى، ويظهر هذا من جوابه لهم لما أخبروه أنه ينتظرون النبي(ص).

وبالجملة، إن معرفة الشخص الآتي والذي أخبرهم بخروج النبي(ص)، تكشف عن وجود مؤامرة وتخطيط كان يسعى إلى تطبيقه من أجل إفشال الهجرة النبوية، فمن هو هذا الشخص الذي جاء قريشاً وأبلغها بخروج النبي(ص)؟

 

إن المحتملات في هذا الشخص لا تخرج عن ثلاثة:

الأول: أن يكون طرفاً محايداً لا ربط له بالطرفين، فلا علاقة له بقريش، ولا رابطة له بالنبي(ص)، وإنما هو شخص يراقب الأمر من قرب، فلما رأى رسول الله(ص)، خرج ونثر التراب على رؤوسهم، جاء يخبرهم بذلك.

وعدم وجود ما يثبته في كلمات المؤرخين ليكون دليلاً عليه، مانع من القبول به.

الثاني: أن يكون الشخص مرتبطاً بالنبي(ص) في العلن، بإظهاره تبعيته له(ص) والإيمان بدعوته ورسالته، إلا أنه في الباطن، والسر يؤيد قريشاً ولا زال معها في ما هي فيه.

ومن الطبيعي أن يكون محيطاً بالمخطط القرشي، بل هو شريك فيه، وأن عليه أن ينقل إليهم أخبار محمد(ص) أولاً بأول. وهذا يستوجب أن يكون محيطاً بتحركات النبي(ص)، ولن يكون ذلك لكل أحد، وإنما سوف يكون ممن يحاول متابعة أخباره(ص)، والدخول إلى داره، والعمد إلى الالتصاق به قدر المستطاع.

وبالجملة، إن هذا الاحتمال يستوجب أن يكون الشخص المذكور قريباً من رسول الله(ص) بإلصاق نفسه به قدر المستطاع.

الثالث: وهو عكس الاحتمال الثاني، بأن يكون الشخص في الظاهر مع قريش، إلا أنه في الباطن والسر مع النبي(ص)، ومن أصحابه وأتباعه. إلا أنه كان يخفى إيمانه تقية، أو لمصلحة اقتضت ذلك كما كان ذلك في سيدنا ومولانا أبي طالب(ع).

ويبعد القبول بهذا الاحتمال الفعل الصادر من الآتي، إذ أن إخباره إياهم بخروج النبي(ص) يتنافى وكونه من أتباع النبي(ص)، لأن من كان من أتباعه لابد وأن تهمه سلامته، ويسعى للمحافظة عليه، فيأنس أنه تمكن من الهروب من براثن أعداءه، لا أن يقوم بإعلامهم أنه قد فرّ منهم.

ومع عدم الدليل على الاحتمال الأول، واستبعاد الاحتمال الثالث، سوف يتعين الأمر بمقتضى القسمة الحاصرة في خصوص الاحتمال الثاني، فيكون الشخص الآتي ظاهره الإيمان وباطنه خلافه.

وحتى يمكننا التعرف عليه، لابد من الوقوف على الذين كانوا محيطين بهجرة النبي(ص)، والمذكور في المصادر أنهم ثلاثة، قال ابن اسحاق: ولم يعلم فيما بلغني بخروج رسول الله(ص) حين خرج إلا علي بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر[4].

وقد أشار ابن إسحاق إلى سبب إحاطة علي(ع) بوقت هجرة النبي(ص)، فقال: فإن رسول الله(ص) فيما بلغني أخبره بخروجه، وأمره أن يتخلف بعده بمكة حتى يؤدي عن رسول الله(ص) الودائع التي كانت عنده للناس[5].

إلا أنه لم يذكر كيف علم الطرفان الآخران بوقت هجرته(ص)، وهل أنه أخبرهما بذلك، أم أنهما علما بذلك بطريق الصدفة، أو بطريق آخر.

ومقتضى الحصر المذكور في الثلاثة الذين عرفت يستوجب أن الرجل الآتي لقريش عند دار النبي(ص)، وإبلاغهم أن رسول الله(ص) قد خرج، لن يخرج عن واحد منهم.

ومن المستبعد عقلاً، ونقلاً أن يكون المخبر لهم هو أمير المؤمنين(ع)، أما عقلاً، فإنه لو كان المخبر لهم بذلك هو أمير المؤمنين(ع)، لم يحتج القرشيون إلى برهان على إثبات ذلك والتصدق به، لأنهم سوف يجدون فراش رسول الله(ص) خالياً، فيثبت أنه ليس في داره. بل إن داعي قريش لعدم تصديق المخبر في ما أخبر به، رؤيتهم رجلاً نائماً في فراش النبي(ص)، كانوا يعتقدون أنه رسول الله(ص).

وأما نقلاً، فلقد أجمعت المصادر التاريخية على بقاء القرشين واقفين عند باب دار النبي(ص) حتى طلوع الفجر، وقد سعوا من خلال محاولات عديدة إلى إزعاج النائم، وجعله يخرج إليهم فلم يتمكنوا، حتى أنهم رموه بالحجارة، وقد كان(ع) يتلوى من الألم، إلا أنه لم يرفع البردة عنه، فضلاً عن أن يخرج إليهم. ولم يتعرفوا عليه إلا حين الهجوم عليه في الصباح.

فنبقى والاحتمالين الآخرين، إذ يحتمل أن يكون المخبر لهم هو أبو بكر، ويساعد على ذلك ما ذكرته المصادر التاريخية، من أنه قصد دار رسول الله(ص) في تلك الليلة، ودخلها وعلي(ع) نائم في فراش النبي(ص)، وقد كان يعتقد أن النائم هو النبي(ص)، فقال له: يا نبي الله، فقال له أمير المؤمنين(ع): إن نبي الله قد انطلق نحو بئر ميمونة، فأدركه، فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار[6].

ومن الطبيعي أن يكون دخول أبي بكر لدار النبي(ص) من خلال مروره وسط الجموع المحتشدة أمام دار النبي(ص)، كما لا يمكن أن يكون قد خرج منها دون أن يراه هؤلاء، بل لابد وأن يكونوا قد رأوه، ورآهم في دخوله وخروجه.

فيتحصل من جميع ما تقدم، أن الذي أخبر قريشاً بخروج النبي(ص)، هو أبو بكر وليس آل أبي بكر.

ومن خلال هذا العرض يظهر أن هناك مؤمرة كان تحاك من أجل إحباط خروج النبي(ص) من مكة ليتسنى للقرشين الإجهاز عليه وقتله، وقد عرفت أبطالها[7].

 

بتوتة علي(ع) على الفراش:

من القضايا التاريخية الثابتة عند المسلمين، بيتوتة أمير المؤمنين(ع) في فراش رسول الله(ص) ليلة هجرته وخروجه من أرض مكة المكرمة، وقد كان ذلك بطلب من النبي(ص)[8]، وقد لبى أمير المؤمنين(ع) هذا الطلب، وامتثل هذا الأمر المحمدي الصادر إليه، وبات على فراشه، وقد كان يهمه أمر واحد فقط وهو سلامة رسول الله(ص)، ولذا لم يتوان في القبول بمجرد أن أخبره النبي(ص) بأنه يسلم رداً على سؤاله: أو تسلم يا رسول الله؟ فأجابه بالإيجاب.

ويشير لهذه الحادثة المباركة قوله تعالى:- (ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد)[9]، فقد نص على نزولها في أمير المؤمنين(ع) عدد غير قليل من علماء الجمهور، أحصى منهم واحداً وثلاثين شخصاً المقدس المرجع الديني السيد شهاب الدين المرعشي(ره) في ملحقات إحقاق الحق[10]. وقد اختلفت تعبيراتهم في الإشارة إلى ذلك، نشير لبعض من ذكرهم(قده):

1-أحمد بن حنبل، في مسند أحمد.

2-الطبري في تفسير الطبري، وقد روى ذلك بأربعة أسانيد مختلفة.

3-الحاكم النيسابوري في المستدرك.

4-الذهبي في تلخيص المستدرك.

5-الثعلبي في تفسيره.

6-الحافظ الاصفهاني في كتابه ما نزل في شأن علي.

7-الغزالي في إحياء العلوم.

8-الخطيب الخوارزمي.

9-الفخر الرازي في تفسيره.

10-ابن الأثير في أسد الغابة.

11-سبط ابن الجوزي في تذكرة الخواص.

ومقتضى تعدد النقل، لا يبقى مجال للتوقف في تواتر الحديث، وأنه ثابت في شأن أمير المؤمنين(ع)، وأن ثبوته من الأمور القطعية.

 

سببان آخران للنـزول:

إلا أن أصحاب النفوس المريضة والحاقدة على أمير المؤمنين(ع)، لم يرضها ثبوت هذه الفضيلة من خلال نزول هذه الآية في شأنه(ع)، فعمدوا إلى دعوى نزول الآية القرآنية في شأن آخرين، وقد ذكرت أسباب نزول متعددة، وعمدتها سببان:

الأول: أنها نزلت في صهيب الرومي، وذلك أنه لما أراد الهجرة من مكة المكرمة، منعته قريش من ذلك، فقال لهم إن له مالاً كثيراً، أرشدهم إليه ليأخذوه ويخلوا سبيله، فتركوه، فلما وصل المدينة المنورة المنورة، والتقى بالنبي(ص)، قال له(ص): ربح البيع. وقيل إن الذي قال له ذلك هو أبو بكر[11].

ويمنع من القبول به أمور:

منها: ما ذكره السيد العلامة الطباطبائي(قده)، من أن تطبيق الآية الشريفة على صهيب خاطئ، لأن جملة(يشري نفسه) في الآية بمعنى باع نفسه، لكسب رضا الله تعالى، في حين أن صهيباً أعطى ماله واشترى نفسه[12].

ومنها: لو رفعنا اليد عن سند الخبر الذي تضمن أن الآية الشريفة قد نزلت في صهيب، ولم نناقش فيه لكون الراوي له هو صهيب نفسه، أو شخص ضعيف، فإنه لا يصلح أن يعارض نصوص المسلمين المتواترة في نزول الآية الشريفة في أمير المؤمنين(ع)، فإن ظني الصدور لا يعارض قطعي الصدور.

ولبعض الباحثين(حفظه الله) أجوبة عن سبب النـزول هذا، أفضلها، ما نذكره ببيان منا، وهو إن الخبر المتضمن نزول الآية الشريفة في صهيب قد اشتمل على ما يمنع من القبول به، وهو كون صهيب يوم هجرته شيخاً كبيراً، وهذا مخالفة لحقيقة تاريخية ثابتة، وهي أنه كان في العقد الثالث من عمره يوم هجرته[13].

الثاني: أن الآية قد نزلت في الزبير بن العوام، والمقداد بن الأسود، عندما خاطرا بنفسيهما، وقصدا مكة من أجل أن ينزلا خبيباً عن الحطبة التي صلب عليها، وقد كان يحرسه أربعون من المشركين.

ويمنع من القبول به أمران:

أحدهما: لقد خلت المصادر التفسيرية المعروفة كتفسير الرازي، والكشاف للزمخشري، وكذا المصادر الحديثية كالدر المنثور للسيوطي، من ذكر سبب النزول هذا للآية الشريفة.

ثانيهما: إن المذكور في الاستيعاب في ترجمة خيب أن الذي أرسله النبي(ص) لإنزاله هو عمرو بن أمية الضمري، وليس الزبير بن العوام والمقداد بن الأسود.

ثم إن هناك أسباباً أخرى ذكرت لنـزول الآية الشريفة نشير إليها إجمالاً، دون العمد للإجابة عنها، لأن الجواب عنها قد اتضح من خلال الإجابة عن السببين الذين ذكرت:

منها: إن الآية الشريفة نازلة في كل من قتل من أجل الأمر بالمعروف والنهي عن النكر، لأنه يكون ساعياً لكسب مرضات الله تعالى، فهو قد باع نفسه على الله عز وجل. وقد استند القائلون بهذا إلى ما رووه عن أمر المؤمنين(ع) في ذلك[14].

ومنها: أنها نازلة في خيار أصحاب رسول الله(ص)، الذين عذبهم أهل مكة ليفتنوهم عن دينهم، منهم بلال، وصهيب، وخباب، وعمار بن ياسر، وأبواه. كما رووا ذلك عن الإمام زين العابدين(ع)[15].

 

أهمية الحادثة:

ويخطأ من يعتقد أن قضية مبيت أمير المؤمنين(ع) على فراش النبي(ص) ليلة هجرته من مكة المكرمة، لا تخرج عن كونها مجرد حدث تاريخ، كبقية الحوادث التاريخية الأخرى، فليس لها أية أهمية اضافية. لأن هذه القضية تعد أحد الأدلة التي يستند إليها في إثبات حقانية أمير المؤمنين(ع) بالخلافة بعد النبي الأكرم(ص) دون بقية الصحابة، وأنه الإمام المفترض الطاعة دونهم، وذلك لدلالة الآية الشريفة والحادثة المذكورة على أفضليته(ع) على بقية الصحابة، ويتضح هذا من خلال تشكيل قياس منطقي، مقدمتاه:

إن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) هو أفضل الصحابة، وإن العقل يحكم بقبح تقديم المفضول على الفاضل، فيثبت أن علياً(ع) هو المقدم بمقتضى حكم العقل، فيكون هو الوحيد المؤهل لمنصب الخلافة والإمامة بعد رسول الله(ص).

وأحد الطرق التي يمكن من خلالها إثبات أفضلية أمير المؤمنين(ع) على بقية الصحابة هو هذه القضية التاريخية المتمثلة في بياته(ع) على فراش رسول الله(ص)، ليكون مقدماً عليهم.

 

أفضلية علي(ع) على الصحابة:

ويتضح الوجه في استفادة أفضليته(ع) من خلال هذا الحدث التاريخي، من موردين:

الأول: قول جبرئيل(ع) عندما نزل هو وميكائل(ع) لحراسته، فقد ورد في الخبر: أن الله تعالى أوحى إلى جبرائيل وميكائيل: إني آخيت بينكما وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟

فاختار كلاهما الحياة. فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل علي بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمد(ص) فبات على فراشه يفديه ينفسه، ويؤثره بالحياة؟! اهبطا إلى الأرض، فاحفظاه من عدوه.

فنـزلا، فكان جبرائيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرائيل ينادي: بخ بخ، من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله به الملائكة. فإن هذا التعبير الصادر من جبرائيل(ع)، يدل على انتفاء مثل له في هذا العالم، ولا أقل في أصحاب النبي الأكرم محمد(ص).

الثاني: ما ذكره ابن أبي الحديد من أن معاوية قد أعطى سمرة بن جندب أربعمائة ألف درهم ليقول أن آية:- (ومن الناس من يشري نفسه) قد نزلت في عبد الرحمن بن ملجم، وأن قوله تعالى:- (ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام* وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد).

ومن الواضح، أنه لولا دلالة القضية التاريخية على ثبوت فضيلة لأمير المؤمنين(ع) ليست ثابتة لأحد وسواه، بحيث تجعله مفضلاً وسابقاً على البقية، ما كان معاوية ليبذل هذا المبلغ من المال ليشتري به ضمير سمرة ودينه، لأجل أن يضع حديثاً في نزولها في أحد غيره.

ومن جميل ما يذكر اقرار واحد ممن لا يوالونه(ع) بدلالة هذه الحادثة على الإشارة إلى خلافته، فهذا عبد الكريم الخطيب البغدادي يقول: هذا الذي كان من علي في ليلة الهجرة، إذا نظر إليه في مجرى الأحداث التي عرضت للإمام في حياته بعد تلك الليلة، فإنه يرفع لعيني الناظر إمارات واضحة، وإشارات دالة على أن هذا التدبير الذي كان في تلك الليلة لم يكن عارضاً بالإضافة إلى علي، بل هو عن حكمة لها آثارها ومعقباتها، فلنا أن نسأل:

أكان لإلباس الرسول(ص) شخصيته لعلي تلك الليلة ما يوحي بأن هناك جامعة تجمع بين الرسول وبين علي أكثر من جامعة القرابة القريبة التي بينهما؟!

وهل لنا أن نستشف من ذلك: أنه إذا غاب شخص الرسول كان علياً[16] هو الشخصية المهيأة لأن تخلف، وتمثل شخصه، وتقوم مقامه. وأحسب أن أحداً قبلنا لم ينظر إلى هذا الحدث نظرتنا هذه إليه، ولم يقف عنده وقفتنا تلك حتى شيعة علي[17].

 

موقف ابن تيمية:

وقد أنكر ابن تيمية نزول الآية الشريفة في أمير المؤمنين(ع)، وذكر أن القول بنـزولها فيه(ع) كذب باتفاق أهل العلم بالحديث والسير. وحكى القول بنـزولها في صهيب عندما هاجر.

وعلى أي حال، فإن قوله يتلخص في أمرين:

الأول: إنكار نزولها في أمير المؤمنين(ع)، وأنها قد نزلت في صهيب الرومي.

الثاني: بعد التسليم بنـزولها في أمير المؤمنين(ع)، فإنها لا تدل على أفضلية له(ع) على غيره من الصحابة، لعلمه(ع) بأنه لن يصيبه شيء في تلك الليلة من طريقين:

أحدهما: إخبار النبي الأكرم(ص) له، وهو الصادق المصدق بذلك، فقد قال له(ص): نم في فراشي، فإنه لا يخلص إليك شيء تكرهه.

ثانيهما: لقد كلفه النبي(ص) بإرجاع الودائع وردها إلى أصحابها، وأداء الأمانات التي كانت عنده(ص) للمكيـين، وهذا يستوجب سلامته وبقاءه على قيد الحياة حتى يتسنى له القيام بذلك. لأنه لو كان يقتل فلن يتمكن من القيام بذلك.

 

رد شبهة ابن تيمية:

ولا يذهب عليك أن ابن تيمية قد أثبت فضيلة لأمير المؤمنين(ع) من حيث لا يشعر، لأنه يقرر أن تصديق علي(ع) بقول النبي(ص) لا يخرج عن احتمالين:

1-أن يكون إيمان علي(ع) بما يقوله النبي(ص) إيماناً عادياً، فهو يحتمل فيه الصحة والخطأ.

2-أن يكون إيمانه(ع) بما يقوله النبي الأكرم(ص) إيماناً قوياً جداً بحيث أن جميع أقوال النبي(ص) وإخباراته عنده كالنهار في وضوحه.

فإن بني على الاحتمال الأول، فلن يكون أمير المؤمنين(ع) على يقين بنجاته، لأن المفروض أنه لا يحصل لأصحاب هذه الطبقة من الإيمان اليقين بكلامه(ص).

بل حتى مع قبولهم لقوله(ص) في الظاهر، إلا أنهم لا يعيشون حالة من الاستقرار والطمأنينة، فتراهم يعيشون مشاكل نفسية عديدة، من القلق والاضطراب، والخوف، والوجل، وترد إلى أذهانهم احتمالات عديدة، ويبدأ يمثل أمامهم شبح الموت في كل آن ولحظة.

أما لو بني على الاحتمال الثاني، فلا ريب أن ذلك يثبت فضيلة لأمير المؤمنين(ع) أعلى وأعظم، لأن المفروض أنه(ع) قد بلغ من القوة والكمال في الإيمان بحيث صار كلام النبي(ص) بالنسبة إليه كالنهار في وضوحه، فلا يوجد عنده شك أو توقف وتردد في صحة ما قاله(ص)، فهو مصدق به تصديقاً تاماً.

ولا يختلف اثنان أن المنطبق على أمير المؤمنين(ع)، هو الاحتمال الثاني، ولا يتصور فيه الاحتمال الأول أصلاً، هذا أولاً.

ثانياً: لقد خلت المصادر التاريخية من عبارة: لا يخلص إليك شيء تكرهه، وهذا يعني أن ما تشبث به ابن تيمية لرد هذه الفضيلة في غير محله، لفقد مستنده.

وأما التمسك بقضية رد الودائع والإمانات، فإن الثابت تاريخياً أن تكليف أمير المؤمنين(ع) بذلك لم يكن في ليلة المبيت أو قبلها، وإنما كان بعدها، لأن أمير المؤمنين(ع) كان يتردد على رسول الله(ص) في الغار حتى خرج منه إلى المدينة.

 

[1] سورة الأنفال الآية رقم

[2] نقل هذا السبب الشيخ الطبرسي(ره) في مجمع البيان، والسيوطي في الدر المنثور، والسيد البحراني(قده) في البرهان عن كتاب تفسير القمي.

[3] سيرة ابن هشام ج 2 ص 127.

[4] سيرة ابن هشا ج 2 ص 129، وذكر ذلك أيضاً الطبري في تاريخه ج 2 ص 103، وغيرهما.

[5] سيرة ابن هشام ج 2 ص 129.

[6] مسند أحمد بن حنبل ج 1 ص 331.

[7] ما أخفاه الرواة من ليلة المبيت على فراش النبي(ص) ص 27-36(بتصرف).

[8] لا أستبعد، بل هو ما أعتقده، أن ذلك كان بأمر من االله سبحانه وتعالى مباشرة إلى نبيه الكريم(ص) أن يأمر علياً أن يبيت مكانه، ولو لم يدل على ذلك شاهد من قريب أو بعيد، فإن مقتضى ما نعتقده من أن جميع أفعال النبي الأكرم محمد(ص) خاضعة للوحي السماوي، وأنه لا تصدر إلا عن ذلك، فعندها سوف يكون طلبه من أمير المؤمنين(ع) أن يبيت مكانه أمراً سماوياً.

[9] سورة البقرة الآية رقم

[10] ملحقات إحقاق الحق ج 3 ص

[11] الإصابة ج 2 ترجمة صهيب، السيرة الحبية ج 2 ص 23-24، الدر المنثور ج 1 ص 2-4.

[12] الميزان في تفسير القرآن ج ص

[13] الصحيح من سيرة الرسول الأعظم(ص) ج 4 ص

[14] مجمع البيان ج 1-2 ص 535، الدر المنثور ج 1 ص 578.

[15] التفسير المنسوب للإمام العسكري(ع)، بحار الأنوار ج 22 ص 338، الدر المنثور ج 1 ص 577.

[16] هكذا ورد في النص.

[17] علي بن أبي طالب ص 105-106.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة