رواية الحسد:
الشاهد الثاني: وهو ما كان من الإمام الحسن(ع) معه، فقد روى شيخنا الكليني(ره) في كافيه، عن أبي عبد الله(ع) قال: لما حضرت الحسن بن علي(ع) الوفاة، قال: يا قنبر، انظر هل ترى من وراء بابك مؤمناً من غير آل محمد(ع)؟ فقال: الله تعالى ورسوله وابن رسوله أعلم به مني، قال: ادع لي محمد بن علي-إلى أن قال-: يا محمد بن علي، إني أخاف عليك الحسد، وإنما وصف الله به الكافرين، فقال عز وجل:- (كفاراً حسداً من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق)، ولم يجعل الله عز وجل للشيطان عليك سلطاناً[1].
وتقريب دلالتها من خلال ما تضمنته من تخصيص الإمام(ع) إياه دون بقية الهاشميـين، بل والعلويـين من أبناء أمير المؤمنين(ع) بلزوم اجتناب الحسد، وأنه وصف الكفار، وظاهر الحال أن ذلك يعود لكونه حاسداً للإمام الحسين(ع)، ومقاوماً لإمامته، ورافضاً لها حسداً له، لأن النص قد جاء للتأكيد على أن إمامة الإمام الحسين(ع) من الله تعالى، كما كانت نبوة النبي الأكرم(ص)، وإمامة أمير المؤمنين والحسن(ع). لذا استوجب التأكيد عليه بذلك.
وبعبارة ثانية، إنما يمكن أن يقرب الاستدلال بها من خلال التالي: إنه لما كان كل منكر للحق بعد ما عرفه حساً، فقد كفر. لذا عمد الإمام(ع) إلى توجيه أخيه محمد، لعدم حسد أبي عبد الله(ع)، لما لمسه منه من أمر وتوقف في شأن الإمامة حذراً عليه من الابتلاء بالكفر.
البحث عن المقتضي في النص:
وحتى يحرز توفر المقتضي للنص المذكور، لابد من نقده سنداً ودلالة قبل العمد لملاحظة المانع عن قبوله.
أما نقد السند، فإن الخبر المذكور يعاني مجموعة من المشاكل السندية:
منها: وجود سهل بن زياد، وهو أبو سعيد الأدمي، من الرواة الذين وقع الاختلاف فيهم بين الرجاليـين، والأقوال فيه عديدة، كالبناء على وثاقته، والبناء على ضعفه وردّ مروياته، والبناء على كونه مهملاً بعد سقوط ما دل على التوثيق مع ما دل على التضعيف للمعارضة بنيهما، وعدم المرجح.
والحاصل، إن البناء على قبول السند المذكور يستدعي البناء على وثاقة سهل بن زيادة، ورفع اليد عما ورد في حقه من التضعيف في كلمات أهل الفن.
ومنها: وجود محمد بن سليمان الديلمي، وقد نص الرجاليون كابن الغضائري والنجاشي والشيخ(ره) على ضعفه، وعدم العمل برواياته.
ومنها: وجود المفضل بن عمر، وهو الجعفي، وهو من الرواة الذين اختلفت فيه كلمات الرجاليـين، فبينما يقول الشيخ المفيد(ره) عنه أنه من خاصة أبي عبد الله(ع)، وبطانته وثقاته الفقهاء الصالحين، يقول عنه ابن الغضائري(ره): ضعيف متهافت، مرتفع القول، خطابي. ويقول عنه النجاشي أنه فاسد المذهب، مضطرب الرواية لا يعبأ به.
ومن الواضح، أن مثل هذا الاختلاف بين الرجاليـين، يوجب ترجيح أحد الأمرين، إما البناء على وثاقته، حتى يستند إلى مروياته، أو ضعفه لترفع اليد عنها.
ومنها: كون الخبر مرسلاً، فإن الواسطة بين الديلمي والمفضل غير مذكور، وليس الديلمي ممن شهد في حقه أنه لا يرسل إلا عن الثقات.
وقد تحصل من خلال النقد السندي، عدم سلامة سند الرواية المانع من الاستناد إليها في مقام الاستدلال والاحتجاج.
وأما نقدها متناً، فقد رفضها الشيخ المازندراني(ره)، لاشتمالها على ما لا يمكن الالتزام به، وهو أمران:
الأول: نسبة الحسد لمحمد بن الحنفية، ومحمد شخص معروف بالصلاح والفضل والتقوى، وهو أجلُّ من أن ينسب إليه الجهل بمقام ابني فاطمة(ع)، وشرفهما بالانتساب إلى رسول الله(ص)، وموقعهما في قلوب المسلمين، وإنما يحسد الإنسانُ المساويَ له، أو القريبَ منه في الرتبة.
الثاني: إن الكلام الذي تضمنه الخبر عبارة عن سب وفحش هتك حرمة، وسوء أدب، وهذا مما لا يتصور صدوره من الإمام الحسن(ع)، وهو صاحب الخلق الرفيع، بل إن صدور مثل هكذا أمر غير معهود عن أحد من المعصومين(ع)، فهذا رسول الله(ص) لم يواجه المنافقين الذين كان يعرفهم بالتعيـين بمثل هذا الكلام[2].
وقد تضمن كلامه(ره) دعوى مفادها حسن حال محمد وجلالة قدره ومنـزلته، وقد أوجب هذا رفع اليد عن الرواية، لأنها سوف تكون منافية لما هو الثابت تاريخياً في المقام.
ومن الواضح أن تمامية الجواب المذكور تعتمد على تمامية الدعوى المذكورة، بحيث يحرز فعلاً أن محمداً كما وصفه الشيخ الماندراني(ره)، وأنه يوجد ما يدل على ذلك. أما لو لم يكن في البين ما يوجب حسن حاله، فضلاً عن جلالة قدره، فإنه لن يكون الجواب المذكور تاماً موجباً لرفع اليد عن النص المذكور، وتفصيل هذا الأمر يأتي عند التعرض لموجبات المدح، ليرى عندها أنه هل يوجد ما يصلح لإثبات ذلك أم لا، فأنتظر.
والصحيح أن يجاب عن متنها، بأنها أجنبية عن المدعى، إذ ليس مفادها حسد محمد للإمام الحسين(ع) في مسألة الإمامة، حتى يكون إنكاره إياها الثابت له(ع) موجباً لكفره، وإنما النص المذكور بصدد الإشارة إلى شيء آخر، وهو الإشارة إلى النهضة الحسينية المباركة، فإن المنهج المختلف الذي سوف يتّبعه الإمام الحسين(ع) والمغاير لمنهج أبيه وأخيه(ع)، من العمل على خلاف التقية الذي كان يعمل على وفقه الإمامان أمير المؤمنين والحسن الزكي(ع)، قد يوجب اعتراضاً ورفضاً من الآخرين له، فضلاً عن تخطئة صاحبه، ولذا استدعى ذلك أن يشير الإمام(ع) إلى أن ما يصدر عن الإمام أبي عبد الله(ع) حق يلزم اتباعه ومتابعته فيه، لأنه امام مفترض الطاعة، تنبعث إمامته من نبوة جده(ص)، وإمامة أبيه وأخيه(ع)، فكل من آمن بهؤلاء يلزمه الإيمان بالحسين(ع)، وكما يطاع هؤلاء(ع)، يلزم طاعة أبي عبد الله الحسين(ع) واتباعه.
تقصيره في نصرة الإمام الحسين(ع):
والثاني من موجبات الذم والقدح في محمد، وهذا له جانبان:
1-عدم خروجه مع الإمام(ع) وتضحيته بين يدي الإمام وتفديته إياه بنفسه.
2-عدم قيامه بإرسال أحد من أبنائه ليفدي الإمام(ع)، وقد سمعت أن عنده عشرة من الأبناء، ولو لم يكنوا بأكملهم وجودين يوم الطف، إلا أنه لا ريب في وجود بعضهم.
وقد يضاف إلى ذلك أمر ثالث، وهو ذهابه إلى يزيد بن معاوية بعد واقعة الطف.
أما الجانب الأول، فيقرب جعله سبباً من أسباب الذم، أن عدم قيامه بتقديم مهجته فداء للإمام الحسين(ع)، يوحي أنه ليس موالياً للإمام(ع) كما كان عليه أخوته العباس والبقية. ولا أقل أن ذلك يكشف عن عدم رضى منه بنهضة الإمام(ع)، أو أنه ليس موافقاً له في المنهج الذي اتبعه واتخذه، والمتحصل من ذلك كله، أن عدم خروجه يوحي بعدم وجود انسجام تام بينه وبين الإمام(ع)، الموجب لذمه والقدح فيه.
وقد شغلت مسألة عدم خروج محمد مع الإمام الحسين(ع) في نهضته الكتّاب والباحثين من المسلمين، فلم تقتصر محاولة إيجاد علاج لها، أو حملها على ذم الرجل على المصادر الشيعية، بل وجد ذلك في كتب الجمهور أيضا.
وقد تضمنت مصادر الجمهور، أنه اقترح على الإمام(ع) الابتعاد عن يزيد وإرسال الرسل للناس يدعوهم لبيعته، فإذا بايعوه دخل المدينة.
وقد أجابه الإمام(ع)، بأنه ماضٍ في طريقه، فاقترح على الإمام(ع) الذهاب إلى مكة المكرمة. فقال له الإمام(ع): يا أخي نصحت وأشفقت.
وقد ذكر ابن كثير أنه قد توجه إليه في مكة بعد ذلك، إلا أنه لم يكن راضياً عن خروجه إلى العراق، وأظهر مخالفته له في ذلك.
وأما في مصادرنا، فقد تضمنت ذكر مجموعة من التبريرات لعدم خروجه مع الإمام الحسين(ع)، وتصب جميعها في محاولة تبرئته من الذم المدعى فيه جراء عدم خروجه، ويمكن حصر ذلك في أسباب أربعة:
أحدها: مرض محمد: من المبررات الذي ذكرت لعدم خروج محمد بن الحنفية مع الإمام الحسين(ع) أنه كان مريضاً، حيث ذكر أنه قد أصيب في يده فلم يعدّ بإمكانه حمل السيف. ومن الذين نقلوا مرضه الفاضل الدربندي في أسرار الشهادة والشيخ حبيب الله الكاشاني في تذكرة الشهداء، فقد أورد الدربندي في أسرار الشهادة نقلاً عن أبي مخنف حواراً بين الإمام(ع) ومحمد في المدينة المنورة، وقد تضمن قول محمد للإمام(ع): إني والله ليحزنني فراقك، وما أقعدني عن المسير معك إلا لأجل ما أجده من المرض الشديد فوالله يا أخي ما أقدر أن أقبض على قائم سيف ولا كعب رمح، فوالله لا فرحت بعدك أبداً[3]. وقد حكى القول بكون منشأ تخلفه يعود لمرضه العلامة الحلي(ره) أيضاً في أجوبته على المسائل المهنائية، وإن كان لا يظهر منه تبني ذلك، إذ ظاهره مجرد نقله للقول فقط، حيث قال(ره): نقل أنه كان مريضاً[4].
وهذا المعنى هو الذي أصرّ عليه بعض الباحثين، ونسب للسيد ابن طاووس(ره) اختياره أيضاً. وقد جعل دليله على النسبة ما جاء في كتاب حكاية المختار في أخذ الثأر برواية أبي مخنف، المطبوع مع كتاب اللهوف للسيد ابن طاووس، حيث أورد في الكتاب المذكور عن أبي مخنف قوله: وقد كان محمد بن الحنفية موكوعاً[5]، لأنه أهدي إلى أخيه الحسين(ع) درع من نسج داود على نبينا وعليه السلام، فلبسه ففضل عنه ذراع وأربعة أصابع، فجمع محمد بن الحنفية ما فضل منه وفركه بيده فقطعه فأصابته نظرة، فصارت أنامله تجري دماً مدة، ولهذا لم يخرج مع الحسين(ع) يوم كربلاء، لأنه ما كان يقدر أن يقبض قائم سيف لا كعب رمح[6].
وقد أيدّ الباحث المذكور مختاره من أن التخلف للمرض، بنقل قصة محمد بن الحنفية مع الدرع، من كتاب الكامل لمحمد بن يزيد بن المبرد، من أن عبد الله بن الزبير كان يظهر البغض لابن الحنفية إلى بغض أهله، وكان يحسده على أيْدِهِ(أي قوته)، ويقال: إن علياً استطال درعاً، فقال: لينقص منها كذا وكذا حلقة، فقبض محمد بن الحنفية بإحدى يديه على ذيلها، وبالأخرى على فضلها، ثم جذبه فقطعه من الموضع الذي حدّه أبوه، فكان ابن الزبير إذا حُدّث بهذا الحديث غضب واعتراه له أَفْكَلٌ(أي رعدة)[7].
ونسب هذا القول أيضاً البن نما الحلي، وأن منعه من الخروج مع الإمام الحسين(ع) اصابته بمرض العيون، كما حكاه عنه بعض أصحاب المقاتل[8].
ولم يرتض هذا الرأي الشيخ المامقاني(ره)، معتبراً رواية مرضه حال خروج الإمام(ع) غير صحية، بل على فرض التسليم بكونه مريضاً فإن ذلك كان عند عودة السبايا من أرض كربلاء[9]. ويساعد على ذلك ما تضمنته العديد من المقاتل منه أنه كان مريضاً عند دول السبايا إلى أرض المدينة، ولم يشر في شيء منها إلى ممرضه حال الخروج من المدينة المنورة.
وكيف ما كان، فإنه لا مجال للقبول بكون المانع له من الخروج هو المرض، لعدم وجود ما يدل على ذلك، إذ قد عرفت أن منشأ ذلك يعود أساساً لأمرين:
الأول: ما تضمنته كلمات الأعلام(رض) دون بيان منهم لمصدر ذلك، وهذا يجعل المنقول مجرد حكاية لا يعلم مصدرها، وهذا يمنع من القبول بها.
والظاهر عدم كون قصة المرض من القضايا المشهورة والمتداولة، حتى لا تكون بحاجة إلى ما يثبتها.
الثاني: قصة الدرع التي استند لها بعض الباحثين، والتسليم بها يتوقف على القول بأن كتاب قصة الأخذ بالثأر للسيد ابن طاووس، وهذا لا دليل عليه، لأن مجرد طبعه في آخر الكتاب لا يكفي لثبوت النسبة كما لا يخفى. بل إن هناك من يشكك في ثبوت نسبته إليه. مضافاً إلى أن السيد المقرم(ره) نسب كتاباً لابن نما الحلي(ره) بنفس العنوان، ما يوجب التوقف في ثبوت نسبته للسيد ابن طاووس(ره)، إذ من المستبعد جداً أن يؤلف العلمان كتابين بنفس العنوان وفي نفس الموضوع، وهذا يساعد على أن نسبة الكتاب المذكور لمؤلف ما، قضية حدسية اجتهادية، وما يكون هكذا حاله يصعب القبول به، فضلاً عما جاء فيه، فتأمل جيداً.
وبالجملة، لا مجال للبناء على الرواية المذكورة التي نقلت من المصدر المذكور.
إن قلت: إن الكتاب المذكور، وإن توقف في نسبته لمؤلف ما، إلا أن مصدر الرواية هو المقتل المعروف لأبي مخنف، وبالتالي يكون ذلك كافياً للاعتماد على الرواية المذكورة.
قلت: إن كتاب أبي مخنف لم يصلنا كما كتب، وإنما أغلب المنقول عنه مصدره كتب تاريخية أخرى ككتاب تاريخ الطبري وغيره، وما هو المتداول اليوم لا يتضمن هذه القضية، وليس لنا علم وجزم بوجودها في النسخة الأصل، خصوصاً وأن مصدر وجودها فيها هو الكتاب المذكور، وقد عرفت حاله.
والعجيب من بعض الباحثين تأيـيده مختاره برواية الكامل، وهي أجنبية تماماً عن المدعى، لأنها وإن تضمنت ذكر قضية الدرع، لكنها لم تشتمل على بيان إصابة محمد بمرض، بل يمكن القول أن مدلولها نفي ذلك، لأنه لو كان محمد قد أصيب لكان ذلك موجباً لعدم انزعاج ابن الزبير منه. اللهم إلا أن يدعى أن ذكرها كان يبرز قوته فيتأسف الحاضرون عليها، فتأمل.
والحاصل، إن من الصعوبة بمكان الركون لكون الموجب لعدم خروجه هو اصابته بالمرض، بل الجزم بنفيه غير بعيد، لأنه لو كان مريضاً لم يكن هناك موجباً للسؤال عن علة عدم الذهاب، لأن المفروض أن ذلك سوف يكون مشهوراً واضحاً، خصوصاً بصورة المرض التي يصفون اصابته بها.
ثانيها: نيابته عن الإمام في المدينة: بأن الإمام(ع) هو الذي أمره بالبقاء في المدينة المنورة، واستند القائلون بذلك لما جاء في وصية الإمام الحسين(ع) إلى أخيه محمد عندما عزم على الخروج إلى مكة المكرمة، قال(ع): وأما أنت يا أخي، فلا عليك بأن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً، لا تخفي عني شيئاً من أمورهم[10].
وينحل هذا الوجه إلى أمرين:
1-أن تكون الغاية من إبقائه في المدينة المنورة، قيامه بمراعاة مصالح الإمام الحسين(ع) ومصالح من بقي من بني هاشم، حتى لا يتجرأ عامل المدينة الوليد بن عتبة على أذاهم، إما حياء من محمد، أو خوفاً من خروجه عليه.
2-أن يكون وجوده في المدينة المنورة من أجلا لتغطية الإعلامية بإبراز أهداف النهضة المباركة للإمام الحسين(ع)، وإبراز مظلوميته لأهل المدينة، كما يظهر من خلال بيانه للأهداف التي نهض من أجلها[11].
ولم تنقل هذه الوصية في المصادر التاريخية القديمة، كتاريخ الطبري وكامل ابن الأثير، وغيرهما، حيث لا وجود لها فيها. نعم أول من نقلها من المصادر القديمة هو ابن الأعثم، وتبعه غيره.
وكيف ما كان، فإنه لا مجال للقبول بالتبرير المذكور، وذلك لأنه لا يظهر من الوصية المذكورة أن بقائه في المدينة المنورة كان بطلب ورغبة من الإمام(ع)، وإنما لما وجد الإمام(ع) منه عدم الرغبة في المتابعة والخروج معه من خلال تقديمه للمقترحات والأعذار، عرض عليه البقاء في المدينة، وأن ينقل إليه الأخبار، وكأن ذلك نوعاً من رفع الحرج عن محمد. فلاحظ قوله للإمام(ع): ولست والله أدخر النصيحة لأحد من الخلق، وليس أحد أحق بها منك.
وقوله: تخرج إلى مكة فإن اطمأنت بك الدار بها فذاك، وإن لم تكن الأخرى خرجت إلى بلاد اليمن، فإنهم أنصار جدك وأبيك، وهم أرأف الناس وأرقهم قلوباً وأوسع الناس بلاداً، فإن اطمأنت بك الدار، وإلا لحقت بالرمال وشعوب الجبال، وجزت من بلد إلى بلد حتى تنظر ما يؤول إليه أمر الناس ويحكم الله بيننا وبين القوم الفاسقين[12]. فإن هذه الكلمات كلها تصب في أنه لم يكن عازماً على الخروج مع الإمام(ع) منذ البداية، وأنه كان ناوياً على البقاء في المدينة المنورة، ولم تكن لديه عزيمة أو رغبة في الخروج منها، ولما وجد الإمام(ع) منه ذلك قال له: أما أنت يا أخي، فلا عليك أن تقيم بالمدينة، فتكون لي عينا. فإن قوله(ع): لا عليك، يشير إلى أنه لا عتب عليك ما دمت لست عازماً على الخروج، وما دمت قد قررت البقاء وعدم الذهاب، فانقل لي ما يكون في المدينة، وواضح جداً أن هذا لم يكن بطلب من الإمام(ع)، بل كان برغبة من محمد في البقاء.
وبكلمة مختصرة، إن الإمام(ع) لما وجد من محمد عدم الرغبة فيا لخروج من خلال تقديمه للمقترحات التي سمعت، عرض عليه رفعاً لإحراجه أن ينقل له أخبار المدينة.
ولا يتوهم أحد أن المدينة كانت منطقة سياسية حامية، بحيث يحتاج الإمام على الاطلاع على ما يجري فيها، فإن الرجوع لكتب التاريخ يفيد عكس ذلك تماماً، إذ المستفاد منها أنها بعد خروجه(ع)،
كأنها قد غطت في سبات عميق.
مضافاً إلى أنه لو سلم بأن وجوده في المدينة كان بطلب من الإمام(ع)، فإنه يلزم تحديد ذلك بما قبل خروج الإمام(ع) إلى الكوفة، وينحصر في وقت ذهابه إلى مكة المكرمة، لأنه بعدما عزم الإمام(ع) على المسير إلى الكوفة، لم يكن هناك ما يمنع من الالتحاق بالركب، وإقامته في المدينة، لم يعد لها وجه. نعم بناء على الأمر الثاني، وهو الناحية الإعلامية يبقى التصور مذكوراً.
وبالجملة، إن هذا التبرير قد اعتمد بصورة أساس على استظهار هذا المعنى من الوصية المعروفة التي كتبها الإمام(ع) حال خروجه من المدينة، وملاحظتها بأكملها مانع من الاستظهار المذكور.
ثالثها: عدم وجود اسمه في اللوح المحفوظ: على أساس أن أصحاب الإمام الحسين(ع) أشخاص معروفون ومحددون، وقد جرت الإرادة الإلهية بانتخابهم واختيارهم، وليس هناك مجال للتغيـير والتبديل فيهم، فكل من لم يكن من ضمن تلك الأسماء، لن يكون من الشهداء، فلا يلزمه الخروج، ومحمد بن الحنيفة لم يكن من تلك الأسماء، لهذا لم يلزمه الخروج.
وقد استند القائلون بهذا التبرير لما نقله ابن شهراشوب في كتابه المناقب من أن محمد بن الحنفية قال: وإن أصحابه-يعني الإمام الحسين(ع)-عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم[13].
ويمنع من القبول بالوجه المذكور، أولاً: إن هذا العلم من الأمور المختصة بالمعصوم(ع) التي أطلعه الله تعالى عليها، وهو بدوره قد يطلع عليه بعض الخاصة ممن يكونوا محط عناية واهتمام عنده.
نعم ما لا ينكر أن مسألة شهادة الإمام الحسين(ع) في كربلاء مما اشتهر بين الناس لكثرة ما تحدث عنها رسول الله(ص) وأشار إليها أمير المؤمنين(ع) كثيراً، وأخبر عنها الإمام الحسن(ع)، وحتى الإمام الحسين(ع) كان يحدث بذلك. إلا أن الظاهر أنه لم يكن يصرح بأسماء من يكون معه من الشهداء في تلك الحادثة، كما أنه لم يحدث عن تفاصيلها. ويساعد على ذلك سير الإمام(ع) مع الأمور على وفق مجاريها الطبيعية من دون تحكيم لعنصر الغيب في المقام، فاستقبل كتب أهل الكوفة وتفاعل معها وأرسل إليهم أخاه وابن عمه مسلم بن عقيل ليأخذ له البيعة وهو على علم ودراية بأنك ذلك كله لن يكون، وأن مآل الأمر إلى الشهادة.
وبالجملة، إن التفاصيل المرتبطة بحادثة الطف لم تكن معلومة لكل أحد، ولا يبعد أن من ذلك أسماء الشهداء فيها، فيكون ذلك مجهولاً لابن الحنفية، فتأمل[14].
ثانياً: إن التبرير المذكور لن يكون مختصاً بمحمد بن الحنفية، بل يمكن أن يتمسك به كل واحد ممن لم يخرج مع الإمام الحسين(ع)، ويجعل ذلك عذراً له، بأن اسمه لم يكن ضمن الأسماء التي أنتخبها الله تعالى لهذا الشرف، وبالتالي يكون معذوراً، ولن يكون للإمام(ع) على أي أحد منهم حجة، مع أن ملاحظة خطابات الإمام(ع) يفيد خلاف ذلك، لأنها قد تضمنت استنصاره(ع) للناس، وطلب الخروج معه ونصرته، وكأنه يلزم التفريق بين أمرين، وعدم الخلط بينهما:
الأول: مسؤولية الأمة في القيام ضد الحكومة الظالمة ليزيد بن معاوية، وهذا الذي لا يعذر فيه أحد ممن لم يخرج مع الإمام الحسين(ع) كابن الحنفية.
الثاني: دخوله(ع) في الحرب مع ابن سعد، وهذا الذي قد نص على تشريف الله تعالى لفئة معينة من الناس.
على أنه لو رفعت اليد عما تقدم، فإن التبرير المذكور معارض بالكتاب الذي بعثه الإمام الحسين(ع) لمحمد بن الحنفية وبني هاشم، والذي يظهر منه الذم لكل من لم يخرج مع الإمام الحسين(ع)، فقد جاء فيه: أما بعد، فإنه من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلف لم يدرك الفتح، والسلام[15]. فإن المستفاد منها دعوته(ع) إياهم للالتحاق بالركب الحسيني، وأن كل من تخلف عن الحضور في كربلاء يكون خاسراً وعلى أقل التقادير أنه يكون مورداً للذم. ويساعد على ما ذكرناه تعقيب شيخنا المجلسي(ره) على النص المذكور، فقد ذكر بياناً تضمن احتمالين:
الأول: أن يكون المقصود بأنه لم يبلغ الفتح، عدم بلوغه لما يتمناه من فتوح الدنيا والتمتع بها، وظاهر هذا الجواب ذم كل متخلف عن الحضور في واقعة الطف.
الثاني: أن يكون المقصود، هو فوات الفضل بترك الحضور إلى كربلاء للمشاركة، لأن المقصود من بلوغ الفتح التخيـير فهم مخيرون بين الحضور وعدمه، فمن حضر أدرك الفتح، ومن غاب فلا إثم عليه، ووفقاً لهذا الاحتمال لن يكون في البين ذم، إلا أنه تفويت لكمال[16].
والحاصل، إن الذم المستفاد من رواية بلوغ الفتح، شامل لمحمد ولكل من لم يحضر الواقعة، وهذا يعارض التبرير المتقدم.
الاحتمالات الأخرى في المقام:
ومع عدم القبول بشيء من التبريرات المذكورة في كلمات الأعلام والباحثين من أبناء الطائفة، يبقى عندنا محتملات نشير إليها لنرى أيها يمكن أن يكون سبباً لعدم خروجه:
1-أن يكون محمد مخالفاً للقيام ضد بني أمية، ولا يرتض أي شكل من أشكالا لثورة ضدهم.
2-الالتـزام بأنه يعتقد بمشروعية الحكومة الأموية، ودولة يزيد بن معاوية، وبالتالي لا يرى مشروعية القيام ضدهم.
3-إن محمداً وإن كان مخالفاً للحكومة الأموية، إلا أنه لم يكن مقتنعاً بالأسلوب الذي اتبعه الإمام(ع) في مواجهتهم.
4-لقد كان محمد شخصاً يطلب العافية، والنجاة، فلم يكن مستعداً لخوض الحروب ولا مواجهة الأخطار لعدم امتلاكه للفكر الثوري.
والاحتمالان الأولان مرفوضان تماماً، فيدور الأمر بين المحتملين الثالث والرابع، ويمكن جمعهما معاً ليكونا بمثابة الأمر الواحد، فيكون محمد رافضاً لأسلوب المواجهة مع الحكومة الأموية لأنه لم يكن مالكاً للفكر الثوري، وكان شخاً يطلب الدعة والراحة.
ويساعد على هذا المعنى المقترحات التي جاء يعرضها على الإمام الحسين(ع) عندما عزم على الخروج من المدينة، فإنها لا تكشف عن فكر ثوري، ولا حماسة للمواجهة والقتال، كما أنها تضمن السعي لعدم المواجهة، وأخذ عنصر اجتناب اللقاء، وهذا يؤكد أنه لم يكن راغباً في القتال، بل كان يسعى للدعة والراحة.
ثم إنه لو لم يقبل ما استظهر من موجب تركه للخروج مع الإمام الحسين(ع)، فإنه يبقى ما اختاره الشيخ المامقاني(ره)، من أنه ترك الخروج من أجل مصلحة لا نعلمها، كما نبه على ذلك المولى الوحيد البهبهاني(ره)[17].
ولا يخفى أنه لو كان منشأ تركه للخروج ما استظهرناه، فإن ذلك يعد عنصر ذم عقلائي بالنسبة إليه، بخلاف ما لو كان منشأ تركه للخروج ما أختاره الشيخ المامقاني(قده)، فإنه لن يكون كذلك.
عدم بعثه أحد أبنائه:
الجانب الثاني: وهو عدم قيامه ببعث أحد من أبنائه ليفدي الإمام الحسين(ع) بنفسه، وقد عرفت أنه من الأولاد عشرة، ووجود من كان مؤهلاً لحمل السيف خوض الحرب بينهم يوم كربلاء متعين، فيكون عدم تقديمه أحد منهم موجباً للذم فيه. لأن ذلك يكشف عن عدم انسجام بينه وبين الإمام الحسين(ع).
ولا يخفى أن هذا الإشكال لا يرد بناءً على ما استظهرناه في وجه عدم ذهابه مع الإمام الحسين(ع) لكربلاء، بل إنه ينسجم تماماً مع ذلك، وهذا يعني أن من لم يخرج لكونه يطلب الدعة والراحة، ولا يملك فكراً ثورياً وتضحوياً لن يبعث أحداً من أبنائه ليقوم بالقتال بين يدي عمه. وكذا لا يرد بناءً على أن أسماء الشهداء معروفين ومحددين.
نعم يحتاج الأمر إلى علاج وفقاً للتبريرين الآخرين، وهما كونه مريضاً، فإن المريض لن يعذر في عدم خروج أبنائه، وكذا من أقامه الإمام(ع) عيناً له.
وليس في المصادر التاريخية ما يشير من قريب أو بعيد للإجابة عن هذا السؤال. بل الموجود في تاريخ ابن عساكر أنه قد منع أولاده من الخرج معه، قال: وبعث الحسين إلى المدينة، فقدم عليه من خفّ معه من بني عبد المطلب، وهم تسعة عشر رجلاً، ونساء وصبيان، من إخوانه وبناته، ونسائهم، وتبعهم محمد بن الحنفية، فأدرك حسيناً بمكة، وأعلمه أن الخروج ليس له برأي يومه هذا، فأبى الحسين أن يقبل رأيه، فحبس محمد بن علي ولده(عنه)فلم يبعث معه أحداً منهم، حتى وجد حسين في نفسه على محمد، وقال(له): أترغب بولدك عن موضع أُصاب فيه.
فقال محمد: وما حاجتي أن تصاب ويصابون معك، وإن كانت مصيبتك أعظم عندنا منهم[18].
وقد أورد هذا الراوية بعد ابن عساكر المزي والذهبي، وقد رواها الذهبي مرسلة، ويحتمل نقله إياها من كتاب ابن عساكر.
واعتبرها بعض الباحثين من الزيادات الأموية، محتملاً أن يكون سندها يشتمل على شخص أموي الهوى، أراد من ذلك تشويه صورة الهاشميـين وتفكيك وحدتهم تجاه النهضة الحسينية[19].
وبعيداً عن انحصار الخبر المذكور في خصوص تاريخ ابن عساكر، وأنه لم ينقل مسنداً، فإن الظاهر أن موجب رفض بعض الباحثين لها، يعود لبنائه على حسن حال محمد، وجلالة قدره عنده، وهذا يتوقف على وجود ما يساعد على ذلك، ما يعني أنه لو لم يتم ما يدل على ذلك، فإنه لن يخرج الحال عن بقية الذموم الأخرى المذكورة في شأنه.
وقد يضاف في هذا المضمار موجب آخر للقدح، وهو ذهابه إلى يزيد بن معاوية بعد شهادة الإمام الحسين(ع)، فقد نقل في عوالم العلوم عن بعض كتبا لمناقب القديمة، أن يزيد(لع) كتب إلى محمد بن الحنفية كتاباً جاء فيه: أما بعد، فإني أسأل الله لنا ولك عملاً صالحاً يرضى به عنا، فإني ما أعرف اليوم في بني هاشم رجلاً هو أرجح منك حلماً وعلماً، ولا أحضر فهماً وحكماً، ولا أبعد من كل سفه ودنس وطيش، وليس من يتخلق بالخير تخلقاً وينتحل الفضل تنحلاً كمن جبله الله على الخير جبلاً، وقد عرفنا ذلك منك قديماً وحديثاً، شاهداً وغائباً. غير أني قد أحببت زيارتك والأخذ بالحظ من رؤيتك، فإذا نظرت في كتابي هذا فأقبل إلي آمناً مطمئناً أرشدك الله أمرك، وغفر لك ذنبك والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وقد استشار محمد ولديه جعفر وعبد الله، فأشار الثاني منهما عليه بعدم الذهاب كي لا يلحقه مصير أخيه الحسين(ع). وأجابه محمد بأنه لا يخاف منه ذلك. وحسن له الأول منهما الذهاب، وتجهز محمد وقصده، فلما دخل على يزيد قربه وأدناه وأجلسه معه على سريره، ثم عظم ل الأجر في الحسين(ع). واعتذر بأنه لم يكن لينازله الحرب لو كان خصمه، مع أن الحسين(ع) قد ظلمه، لكن ذلك كان من ابن زياد. وطلب منه يزيد البيعة، فأبلغه محمد بأنه قد بايعه. ثم أمر له بالعطايا، وقد قبله محمد بعد محاولة وإلحاح من يزيد، وانصرف مع أهل المدينة الذين جاؤوا مع عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة[20].
ولو قبلت هذه الرواية فإنها جلية واضحة فيا لذم، لأنها تضمنت أمورا عديدة، كبيعته ليزيد بن معاوية، وقبوله عطاياه.
إلا أن الذي يهون الخطب انحصار نقلها في كتاب العوالم، وليس لها وجود في المصادر الأخرى، على أن صاحب العوالم قد نقلها من بعض كتبا لمناقب القديمة، وهو غير معروف الهوية، ولا معروف المؤلف. مع أنه يمكن حمل ما تضمنته لو سلم بصدورها على التقية.
فاسد المذهب، مضطرب الرواية لا يعبأ به
[2] شرح أصول الكافي ج 6 ص 161.
[3] حكاه عن أسرار الشهادة مع الركب الحسيني ج 2 ص 263.
[4] المصدر السابق ص 262.
[5] الوكع: ميل الأصابع قِبل السبابة حتى تصير كالعقفة، خلقة أو عرضاً.
[6] مع الركب الحسيني ج 2 ص 261.
[7] المصدر السابق ص 263 نقلاً عن الكامل ج 3 ص 266/ دار الفكر العربي-القاهرة.
[8] مقتل المقرم ص 135 في الحاشية رقم 2.
[9] تنقيح المقال ج 3 ص 111-112.
[10] بحار الأنوار ج 44 ص 329.
[11] مجلة الإصلاح الحسيني العدد 7 ص 110.
[12] بحار الأنوار ج 44 ص 329.
[13] بحار الأنوار ج 44 ص 185.
[14] إن إخباره بعلمه بمن يستشهد معه(ع) مانع من القبول بكونه جاهلاً بهذه الجزئية.
[15] بحار الأنوار ج 44 ص 330.
[16] بحار الأنوار ج 42 ص 81.
[17] تنقيح المقال ج 3 ص 111.
[18] مع الركب الحسيني ج 2 ص 264 نقلاً عن تاريخ ابن عساكر ترجمة الإمام الحسين(ع) تحقيق المحمودي ص 204-205 رقم 254.
[19] مع الركب الحسيني ج 2 ص 265.
[20] عوالم العلوم ص 643.