بقي عندنا أن نشير في ختام الحديث عن آية المباهلة عن التصرفات التي قامت بها الأيدي الأمينة للمؤرخين أو المصنفين أو المفسرين من أبناء العامة تجاه هذا الحديث،حيث أنه يعد من أسمى مناقب أمير المؤمنين(ع)الدالة على إمامته بعد رسول الله(ص)،فقد حاولوا التصرف في أصل الخبر ومتنه.
ونحن نحاول أن نشير هنا إلى بعض تلك المحاولات.
الإخفاء والتعتيم على أصل الخبر:
هناك بعض القوم لا يذكر الخبر من أصله،مع ما فيه من الأدلة على النبوة وظهور الدين الإسلامي على سائر الأديان،منهم على سبيل المثال ابن هشام،وتبعه ابن سيد الناس[1]،والذهبي[2].
قال ابن سيد الناس:ثم بعث رسول الله(ص)خالد بن الوليد في شهر ربيع الآخر،أو جمادى الأولى سنة عشر إلى بني الحارث بن كعب بنجران،وأمره أن يدعوهم إلى الإسلام قبل أن يقاتلهم،ثلاثاً،فإن استجابوا فاقبل منهم وإن لم يفعلوا فقاتلهم.
فخرج خالد حتى قدم عليهم،فبعث الركبان يضربون في كل وجه ويدعون إلى الإسلام،ويقولون:أيها الناس أسلموا تسلموا،فأسلم الناس ودخلوا في ما دعوا إليه،فأقام خالد يعلمهم الإسلام،وكتب إلى رسول الله(ص).بذلك.
فكتب له رسول الله(ص)أن يُقبِل ويُقبِل معه وفدهم،منهم قيس بن الحصين ذي الغصة…وأمر عليهم قيس بن الحصين.
فرجعوا إلى قومهم في بقية من شوال أو في ذي القعدة،فلم يمكثوا إلا أربعة أشهر،حتى توفي رسول الله(ص).
الإخفاء والتعتيم على حديث المباهلة:
وهذا طريق آخر سلكه آخرون:
منهم:البخاري،تحت عنوان قصة أهل نجران،من كتاب المغازي:
حدثني عباس بن الحسين،حدثنا يحيى بن آدم،عن إسرائيل،عن أبي إسحاق،عن صلة بن زفر،عن حذيفة،قال:جاء العاقب والسيد-صاحبا نجران-إلى رسول الله(ص)،يريدان أن يلاعناه،قال:فقال أحدهما لصاحبه:لا تفعل،فوالله لئن كان نبياً فلاعنا لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا.
قالا:إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً.فقال:لأبعثن معكم رجلاً أميناً حق أمين.
فاستشرف له أصحاب رسول الله(ص)،فقال:قم يا أبا عبيدة بن الجراح،فلما قام،قال رسول الله(ص):هذا أمين هذه الأمة.
حدثنا محمد بن بشار،حدثنا محمد بن جعفر،حدثنا شعبة،قال:سمعت أبا إسحاق،عن صلة بن زفر،عن حذيفة(رض)قال:جاء أهل نجران إلى النبي(ص)فقالوا:ابعث لنا رجلاً أميناً.فقال:لأبعثن إليكم رجلاً أميناً حق أمين،فاستشرف له الناس،فبعث أبا عبيدة بن الجراح[3].
ولنا تعليق في البين،إذ نلاحظ أن البخاري لم يذكر سبب الملاعنة،ولم يتعرض لنـزول الآية الشريفة،ولم يشر لخروج النبي(ص)بعلي وفاطمة والحسنين(ع).
وتلاحظ أيها القارئ العزيز التشويش في عبارته،إذ قال:جاء… يريدان أن يلاعناه،فقال أحدهما للآخر:لا تفعل.
فقد جاءا يريدان ملاعنة الرسول(ص)،ثم امتنعا لقول أحدهما لصاحبه،فما هو الذي حدث،حتى جعل هذا يطلب من صاحبه ترك ملاعنة النبي(ص).
وقد تعرض الحافظ ابن حجر في شرحه،إلى نزول الآية وخروج النبي(ص)للملاعنة بأهل بيته(ع)،لكنها إشارة مقتضبة جداً،ثم قال:قالا:إنا لا نعطيك ما سألتنا،والنبي(ص)لم يسأل شيئاً،وإنما دعاهما إلى الإسلام،وما جاء به القرآن،فأبيا،فآذنهم بالحرب،فطلبا منه الصلح،وإعطاء الجزية،فكتب لهما بذلك،وكان الكاتب علي(ع).
هذا ونلاحظ أن البخاري بعدما حذف حديث المباهلة إخفاء لفضل أهل الكساء،وضع فضيلة لأبي عبيدة،لكونه الأمين الذي ابتعثه الرسول(ص)مع أهل نجران.
مع أن الوارد في غير واحد من الكتب أن المبعوث من قبله(ص)هو علي(ع)،وقد نبه على ذلك الحافظ،وحاول رفع التعارض،فقال:وقد ذكر ابن إسحاق أن النبي بعث علياً إلى أهل نجران ليأتيه بصدقاتهم وجزيتهم.
وهذه القصة غير قصة أبي عبيدة،لأن أبا عبيدة توجه معهم فقبض مال الصلح ورجع،وعلي أرسله النبي بعد ذلك يقبض منهم ما استحق عليهم من الجزية ويأخذ ممن أسلم منهم ما وجب عليه من الصدقة،والله أعلم[4].
أقول:والذي ذكره الحافظ رفعاً للتعارض يحتاج إلى إثبات بإقامة شواهد تاريخية تشير إلى تعدد الواقعة،بحيث يكون هناك إرسالان من النبي(ص)ليصح ما أفاده.
أما بناء على الوارد في المصادر التاريخية من عدم ذكر تعدد الإرسال،يجعل ما رفع به التعارض ساقطاً عن الاعتبار والله أعلم.
على أن حديث أمانة أبي عبيدة فيه مجال واسع للمناقشة سنداً ودلالة والشواهد التاريخية تنفي ثبوت أمانة له،وتفصيل ذلك في مجال آخر.
الإخفاء والتعتيم:
ونهج آخرون من القوم منهجاً آخر فلجأوا إلى الإخفاء والتعتيم،فسعوا إلى أن يكتموا اسم علي(ع)،فحذفوا اسمه كما في رواية جد سلمة بن يشوع،قال السيوطي،أخرج البيهقي في الدلائل من طريق سلمة بن عبد يشوع عن أبيه عن جده:إن رسول الله(ص)كتب إلى أهل نجران….فلما أصبح رسول الله(ص)الغد بعدما أخبرهم الخبر،أقبل مشتملاً على الحسن والحسين في خميلة له وفاطمة تمشي خلف ظهره،للملاعنة،وله يومئذٍ عدة نسوة.
بل تصرف بعضهم في حديث مسلم،وأسقط منه اسم (علي)كما عن البحر المحيط[5]،وقد عنون البلاذري في كتابه صلح نجران،وذكر القصة،فقال:فأنزل الله تعالى….ثم دعاهما إلى المباهلة،وأخذ بيد فاطمة والحسن والحسين،فقال أحدهما لصاحبه،اصعد الجبل ولا تباهله،فإنك إن باهلته بؤت باللعنة.قال:فما ترى؟قال:أرى أن نعطيه الخراج ولا نباهله[6].
وقد اقتصر ابن القيم على رواية جد سلمة،ولم يورد اللفظ الموجود عند مسلم وغيره،وحكى القصة إلى أن قال:فلما أصبح رسول الله(ص)الغد بعدما أخبرهم الخبر،أقبل مشتملاً على الحسن والحسين(رض)في خميل له وفاطمة(رض)تمشي عند ظهره للمباهلة وله يومئذٍ عدة نسوة[7].
وهذا هو الذي فعله ابن كثير في تاريخه[8].
التحريف بحذف اسم علي،وزيادة(وناس من أصحابه):
وهذا موجود عند ابن شيـبة والشعبي،حيث قال الشعبي:حدثنا أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن القرشي،قال:حدثنا بن مسلم،قال:حدثنا إبراهيم بن محمد الفزاري،عن عطاء بن السائب،عن الشعبي،قال:قدم وفد نجران…أخبرنا عن عيسى…قال:فأصبح رسول الله(ص)وغدا حسن وحسين وفاطمة وناس من أصحابه،وغدوا إلى رسول الله(ص)فقالوا:ما للملاعنة جئناك،ولكن جئناك لتفرض علينا شيئاً نؤديه إليك[9].
وقد كان الشعبي أمين آل مروان،وقاضي الكوفة في زمانهم،وكان نديماً لعبد الملك بن مروان،مقرباً إليه كما ذكر ذلك في ترجمته،وهذا يكشف لنا منشأ التحريف الوارد عنه،لكونه معروفاً بنـزعته الأموية وكفى ذلك لحجب فضائل علي(ع).
خاتمة:
بقي أن نشير في ختام الحديث حول هذه الآية الشريفة،إلى الحديث الموضوع على لسان الإمام الصادق(ع)يرويه عن أبيه الإمام الباقر(ع)،في ذكر نزول الآية بحذف (فاطمة)زيادة(أبي بكر وولده وعمر وولده وعثمان وولده،وقد ذكر ذلك ابن عساكر فقط،في ترجمة عثمان بالذات[10].
وهذا من الأحاديث الموضوعة على لسان أئمة الهدى وما أكثرها،في الأبواب المختلفة من التفسير والفقه والفضائل.
وحين وقوفنا مع ما رواه ابن عساكر،نجد أنه لم يخرجه أحد من أرباب الصحاح والمسانيد والمعاجم،وهو بحسب قواعد القوم لا يقاوم ما أخرجه أحمد ومسلم والترمذي،وغيرهم،خصوصاً وقد نص الحاكم على تواتر حديث المباهلة،ونص غيره على ثبوته.بل حتى ابن تيمية الذي يتشبث بكل شيء لم يلتفت لهذا الحديث.
ثم إن هذا حديث كذب محض،باطل سنداً ومتناً،ونشير مختصراً لأثنين من رواته:
1-سعيد بن عنبسة الرازي:
ليس من رجال الصحاح والسنن ونحوها،وهو كذاب،ذكره ابن أبي حاتم،في الجرح والتعديل،فراجع ما قال فيه[11].
2-الهيثم بن عدي:
وقد اتفقوا على كونه كذاباً،فراجع الجرح والتعديل لأبن أبي حاتم،وابن حجر الحافظ في لسانه[12].
——————————————————————————–
[1] عيون الأثر في المغازي والسير ج 2 ص 244.
[2] تاريخ الإسلام-المغازي-ص 695.
[3] صحيح البخاري ج 5 ص 217،ط دار إحياء التراث العربي،بيروت.
[4] فتح الباري شرح صحيح البخاري ج 8 ص 77.
[5] البحر المحيط ج 2 ص 479-480.
[6] فتوح البلدان ص 75-76.
[7] زاد المعاد في هدي خير العباد ج 3 ص 39-40.
[8] البداية والنهاية ج 5 ص 53.
[9] تاريخ المدينة المنورة ج 1 ص 581-582.
[10] تاريخ دمشق ص 168-169،ترجمة عثمان.
[11] الجرح والتعديل ج 4 ص 52.
[12] الجرح والتعديل ج 9 ص 85،لسان الميزان ج 6 ص 209