لا زال كلامنا منصباً على الهلال وطرق إثباته،وقد تحدثنا في المرة السابقة عن طريقين وكان ثانيهما شهادة الآخرين،وذكرنا أن شهادة الآخرين يعتبر فيها توفر أمرين،ذكرنا أولهما وحان الآن الحديث عن الثاني.
تواجد البينة في الشهود:
ويتحقق ذلك بأن يشهد على الهلال رجلان عادلان برؤية الهلال،فلا تكفي شهادة الرجل الواحد،ولا النساء وإن كن عادلات.
ويعتبر في تمامية شهادة البينة أن لا يقع بين الشاهدين في شهادتهما اختلاف على نحو يعني أن ما يفترض أحد الشاهدين أنه رآه غير ما رآه الآخر.
ولابد أن لا تجتمع قرائن قوية تدل على كذب البينة أو وقوعها في خطأ،كأن ينفرد اثنان بالشهادة من بين جمع كبير من المستهلين،لم يستطيعوا أن يروا الهلال مع اتجاههم جميعاً إلى نفس النقطة التي اتجه إليها الشاهدان في الأفق وتقاربهم في القدرة البصرية وكان الجو صافياً نقياً،وصالحاً للرؤية.
مضي ثلاثون يوماً:
هذا هو الطريق الثالث لإثبات الهلال،وذلك بأن يمضي ثلاثون يوماً من هلال الشهر السابق،لأن الشهر القمري الشرعي لا يكون أكثر من ثلاثين يوماً،فإذا مضى ثلاثون يوماً ولم ير الهلال الجديد اعتبر الهلال موجوداً ويـبدأ بذلك شهر قمري جديد.
حكم الحاكم الشرعي:
هذا الطريق الرابع من طرق ثبوت الهلال وقد وقع مورد خلاف بين علمائنا،حيث قال بعضهم بأنه إذا حكم الحاكم الشرعي بثبوت الهلال فإن حكمه نافذ ويجب اتباعه،وقال آخرون بأن حكم الحاكم لا يجب اتباعه في ثبوت الهلال حتى لو حكم بثبوته.
س:ما هو المراد من حكم الحاكم بثبوت الهلال؟…
ج:نريد من حكم الحاكم بثبوت الهلال اتخاذه قراراً بثبوت الشهر،أو صدور أمر منه إلى المسلمين بالعمل على هذا الأساس.
أما إذا حصلت لدى الحاكم الشرعي قناعة بثبوت الشهر،ولكن لم يتخذ قراراً بذلك،ولم يصدر أمراً للمسلمين بتحديد موقفهم العملي على هذا الأساس،فلا تكون هذه القناعة التي حصلت له ملزمة إلا لخصوص من اقتنع على أساسها،وحصل لديه الاطمئنان الشخصي بسببها.
س:بناء على القول بثبوت الهلال بحكم الحاكم،هل يقتصر لزوم تنفيذ حكمه على خصوص مقلديه؟…
ج:في حالة إصدار الحاكم الشرعي الحكم بثبوت الهلال يجب اتباعه حتى على غير مقلديه،ممن يؤمن بتوفر شروط الحاكم الشرعي فيه.
طرق أخرى:
بنى بعض علمائنا على ثبوت الهلال بطرق أخرى،نحاول أن نشير لبعضها بنحو الإجمال:
التطويق:
وقد بنى عليه بعض علمائنا الأبرار،وقالوا بأنه يثبت الهلال بذلك.
س:ما هو المراد من التطويق؟…
ج:حين يكون الهلال موجوداً ولم يقترب نحو التربيع،كما في الليلتين الثانية والثالثة،فإن له شكلين من النور:
الأول:النور الأساسي وهو الذي يشكل الهلال نفسه،ويكون عادة منحرفاً إلى الشمال من الأسفل وزاويته إلى الأعلى،ويكون الجرم الأسود للهلال ممكن الرؤية أيضاً.
الثاني:أن هذا الجرم الأسود محاط من الجانب الآخر لنور الهلال بخيط رفيع من النور وخفيف إلى حد يـبدو ثم يختفي ثم يـبدو ثم يختفي،وقلما يوجد بشكل واضح مستمر.
فهذان الشكلان من النور لو جمعنا بينهما في الفكرة،كان الحاصل أن الجرم الأسود واقع في وسط دائرة من النور تشبه الطوق حوله،ومن هنا سمي القمر مطوقاً وسميت الظاهرة بالتطويق.
وحدة الأفق:
ومن الطرق التي وقعت مورداً للخلاف بين علمائنا مسألة اتحاد الأفق واختلافه ودخالة ذلك في ثبوت الهلال.
س:ما هو المراد من الأفق؟…
ج:الأفق هو الموقع المتقارب للبلدان المتعددة الواقعة على خط واحد،بحيث يكون غروب وشروق واحد متقارب جداً.
ولما كانت الأرض كروية والبلاد منـتشرة عليها فإن البلدان تختلف في آفاقها باختلاف مواقعها.
ولما كان ظهور الهلال بعد ولادته مرتبطاً بغروب الشمس فإن اختلاف الغروب في البلدان قد يمنع من رؤية الهلال في بعضها.
س:هل يكون الشهر القمري في كل منطقة من مناطق الأرض مرتبطاً بإمكان الرؤية فيها بالذات،فيكون لكل أفق شهره القمري الخاص،فيـبدأ في هذا الأفق الغربي في ليلة متقدمة،وفي أفق شرقي في ليلة متأخرة؟…
أو أن الشهر القمري له بداية واحدة بالنسبة إلى الجميع،بحيث إذا رؤي الهلال في جزء من العالم كفى ذلك للآخرين؟…
وبتعبير آخر:هل أن حلول الشهر القمري أمر نسبي يختلف فيه أفق عن أفق،فيكون من قبيل طلوع الشمس،فكما أن الشمس قد تطلع في سماء بغداد ولا تطلع في سماء ميتشغن،فيكون الطلوع بالنسبة إلى بغداد ثابتاً والطلوع بالنسبة إلى ميتشغن غير متحقق،أو أن بداية الشهر القمري الشرعي أمر مطلق وظاهرة كونية مستقلة لا يمكن أن تختلف باختلاف البلاد؟…
ج:تقدم وذكرنا أن الشهر القمري الشرعي يتوقف في بدايته على أمرين:
1-أحدهما كوني وهو الخروج من المحاق.
2-والآخر أن يكون الجزء المنير المواجه للأرض ممكن الرؤية.
هذا ويمكن أن يأخذ إمكان الرؤية بنحو نسبي فيختلف بحسب اختلاف المواقع في الأرض،وذلك بأن يقصد من إمكان الرؤية إمكان رؤية الإنسان في هذا الجزء من الأرض وفي ذاك.
ومن الواضح أنه على هذا سيترتب أن الشهر القمري الشرعي يـبدأ بالنسبة إلى كل جزء من الأرض إذا كانت رؤية هلاله ممكنة في ذلك الجزء من الأرض،ومنه يتضح أن من المعقول جداً أن تكون بداية الشهر القمري الشرعي نسبية.
هذا كله بحسب ما يقرره علماء الهيئة والفلك،في مثل هذه الموارد،ولابد في تحقيق ثبوت الهلال من عدمه من الرجوع للشريعة الغراء،لمعرفة الرأي في المسألة،فنقول:
لقد ربطت الشريعة شهرها القمري الشرعي بإمكان الرؤية،فمتى تحققت ثبت الهلال،ومتى انتفت انتفى ثبوته.
من هنا اختلف علمائنا فيما هو المستفاد من الأدلة،ففهم منها بعضهم أن المستفاد هو أنه متى تحققت الرؤية في منطقة في أي موضع كان، كفى ذلك لكافة المناطق،وهذا هو المعبر عنه أنه لا يعتبر في ثبوت الهلال اتحاد الأفق.
فلو ثبت الهلال في قم المقدسة،كان معنى ذلك ثبوت الهلال في كافة مناطق العالم.
وقال آخرون بأنه لابد في ثبوت الهلال في منطقة من إمكان الرؤية في تلك المنطقة،أو في إحدى المناطق التي تكون معها على نفس الأفق.
إذا ثبت في المشرق:
من الطرق التي يعول عليها بعض فقهائنا أيضاً في ثبوت الهلال،أنه إذا ثبت الهلال في البلاد الشرقية كإيران وسائر دول الخليج مثلاً،لزم من ذلك ثبوته في البلاد الغربية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا.
نعم لو ثبت الهلال في الغرب فإن ذلك لا يقتضي ثبوته في الشرق،إلا أن يحرز ذلك ولو من جهة بقائه في أفق المكان الأول مدة أطول مما يختلف به مع المكان الثان من طلوع الشمس وغروبها.
أحكام مترتبة:
س:ما هي الأمور المترتبة على ثبوت الهلال؟…
ج:إذا ثبت هلال شهر رمضان وجب على المكلفين الصيام،وإذا ثبت هلال شهر شوال وجب عليهم الإفطار.
س:إذا لم يثبت هلال شهر رمضان بأحد الطرق التي تقدم ذكرها فما هي وظيفة المكلف حينئذٍ؟…
ج:إذا لم يثبت هلال شهر رمضان بأحد الطرق السابقة،بأن حلت ليلة الثلاثين من شهر شعبان ولم يمكن إثبات هلال شهر رمضان لم يجب صيام نهار اليوم التالي،بل لا يجوز له أن يصومه بنية أنه من شهر رمضان ما دام شهر رمضان لم يثبت شرعاً،فله أن يفطر في ذلك النهار وله أن يصومه بنية أنه من شعبان
مستحباً،أو غير ذلك كما سبق تفصيله في يوم الشك.
س:إذا حلت الليلة الثلاثين من شهر رمضان ولم يثبت هلال شوال بطريقة شرعية،فما هي وظيفة المكلف حينئذٍ؟…
ج:إذا حلت ليلة الثلاثين من شهر رمضان ولم يثبت هلال شوال بطريقة شرعية وجب صيام النهار التالي،وإذا صامه وانكشف له بعد ذلك أنه كان من شوال،وأنه يوم العيد الذي يحرم صيامه،فلا حرج عليه في صيامه ما دام قد صامه وهو لا يعلم بدخول شهر شوال
