براءة الشيعة من قتل الحسين(2)

لا تعليق
محرم الحرام 1425 هـ
221
0

من خلال ما تقدم منا استعراضه أتضح لنا عدة جوانب جديرة بالملاحظة والمتابعة، وأن المجتمع الكوفي عبارة عن خليط سكاني، فلا يمكن أن ينسب القتل لخصوص الشيعة، والمجتمع يتركب من خلال الفئات التي أشرنا لها، مضافاً إلى وجود عدة عوامل أدت إلى الحيلولة بين المجتمع الكوفي الشيعي وبين نصرة الإمام الحسين(ع).

ولا زال حديثنا مستمراً حول هذه المعطيات، وقد قدمنا ستة اعتبارات، وبقية اعتبارات أخرى.

السابع: إن ما وصلنا من روايات لا يعطينا صورة واضحة عما حدث في الكوفة خلال الفترة الزمنية التي سبقت وصول الإمام الحسين(ع)، كما أن هذه الروايات بحاجة إلى تمحيص ودقيق.

خصوصاً وأن هناك كثيراً من الحلقات المفقودة التي ما لم نجدها لا نستطيع أن نفهم حقيقة ما جرى في الكوفة آنذاك من مثل: عدم قيام مسلم بن عقيل بالقضاء على ابن زياد قبل أن يثّبت نفسه، وقد مكنه الله منه في بيت هاني بن عروة، فإن لم يكن يرى مشروعية قتله، فلماذا لم يـبادر إلى وضع القيد في يده وحبسه إلى حين الانتهاء من تنفيذ خطة الثورة؟…

ثم ما هو سر بقاء أربعة آلاف مقاتل يحيطون بقصر الأمارة من الصباح حتى المساء؟…فما الذي منعهم من دخوله في أول ساعة، وماذا كانوا ينـتظرون وليس في القصر سوى خمسين نفراً كما تنص على ذلك النصوص؟…

ومن هم الرجال الثلاثون الذين بقوا معهم، ولماذا تفرقوا عنه؟…هل كان تفرقهم عنه بأمره بعد أن تبين له فشل الحركة وخشية تعرض الجميع للإبادة، أو أن ذلك كان جبناً وخوفاً من الانتقام؟…

ثم أيعقل أنه لا يوجد في الكوفة رجل واحد يملك الشجاعة للبقاء مع مسلم؟…وما سرّ انفضاض الناس من حوله(ع) وبمثل هذه الصورة؟…وما سر عدم تحرك عشيرة هاني بن عروة لاستنقاذه من يدي ابن زياد؟…وغير ذلك من الحلقات المفقودة.

إن المؤرخين دأبوا وبصورة لا يـبعد أنها مدروسة ومحسوبة وموجهة على الغمز من أهل الكوفة لغايات وغايات، إذ نراهم دائماً يتحدثون عن الألوف المؤلفة، التي بايعت مسلماً، والألوف المؤلفة التي حاصرت دار الأمارة، والألوف المؤلفة من عشيرة هاني بن عروة(رض) الذين أحاطوا بقصر الأمارة، وآلاف الأشخاص الذين أرسلوا الرسائل، وهذا التضخيم والمبالغة أسلوب ماكر وخبيث يقصد منه الإيحاء للآخرين بأن عناصر القوة كانت كاملة وكافية، وأن أهل الكوفة ورغم كل ما يملكونه من هذه العناصر فإنهم قد خانوا وغدروا وجبنوا عن نصرة الحق وهم قادرون.

ولعل السر في هذا التهويل السعي إلى محاولة النيل من هذا المذهب الشريف، وهو مذهب أهل البيت(ع) من خلال تشويه صورة المنـتسبين إليه، وتصويرهم بأنهم مرتزقة، أو أصحاب مصالح خاصة، وهذا المعنى غير بعيد بملاحظة أن أغلب كتبة التأريخ إنما هم من الأُجراء الممثلون للخط الحاكم وسلطة الدولة، فلا يـبعد أن يكون ذلك من مصاديق الإعلام المضاد الذي اتخذ في مقابل مذهب أهل البيت(ع)، فضلاً عن النهضة الحسينية المباركة.

ولا يتصور بأن ما احتملناه بعيد، بل إن أدنى ملاحظة للأسلوب الإعلامي الرخيص الذي عمد له الأمويون وغيرهم من السلطات في الوقوف أمام المذهب الحق، يؤكد ما ذكرناه، فلاحظ كيف غمز في أمير المؤمنين علي(ع) ومن خلال عدة زوايا، حتى قيل بأن أباه وهو الحامي الأول للرسول الأكرم(ص) والمحتضن لرسالته المباركة، وهو مؤمن قريش بكونه كافراً.

حقيقة ما جرى على مسلم:

والآن ما هي حقيقة ما جرى على مسلم(ع) وحركته قبل وصول الإمام الحسين(ع)، هل كان هناك خلل في أسلوب قيادة سيدنا مسلم بن عقيل(ع) للناس في هذه المواجهة المصيرية والفاصلة؟…هل يمكننا أن نحمل مسلم(ع) بعض المسؤولية فيما حصل؟…

فمع تبدل المعطيات وانقلاب المواقف، يتساءل الباحث فيما لو كان لموفد الإمام الحسين(ع) دور في الإخفاق الذي انتهت إليه مهمته على مدى ذلك النحو المأساوي المدمر للثورة الشيعية بالكوفة، وعلى المدى البعد من ارتباطها بالإمام الحسين(ع).

وإذا كنا لا نملك من الأخبار لمناقشة هذا الأمر فإنه من مسلمات القول أن الدور الذي تولاه الموفد الحسيني وهو سيدنا مسلم بن عقيل(ع) كان من أخطر أدوار الثورة وأكثرها دقة، ولو لا أهليته لهذا المنصب لما أختاره الإمام(ع) لذلك.

وأيضاً هل كانت رغبات الناس، وهم يدعون لنصرة الإمام(ع) لينصروه أكبر من حجم إرادتهم وأكبر من إمكانياتهم، وهم يواجهون القمع الأموي؟…هل كانت أساليب القمع والإرهاب أكبر وأقوى من حنكة القيادة ومن امكانيات الناس؟…هل هذا كله كان مجتمعاً؟…هل هناك أسباب أخرى غير منظورة؟…كل هذا لم يتعرض له المؤرخون إلا بصورة مشوهة ومبتورة.

الثامن: لقد قام الأمويون وطيلة فترة حكمهم للعراق وعلى مدى عقدين من الزمان، بتجربة مخـتلفة الأساليب لقتل الشخصية الشيعية العراقية المعارضة والمتمسكة بخط أهل البيت(ع)، فأمعنوا في أهل العراق قتلاً وتجويعاً وتشريداً وارهاباً.

وهذا الإمام أبو جعفر الباقر(ع) يتحدث عما جرى على شيعة العراق في تلك الفترة، فيقول: وقتلت شيعتنا بكل بلدة، وقطعت الأيدي والأرجل على الظنة، وكل من يذكر بحبنا والانقطاع إلينا سجن أو نهب ماله أو هدمت داره، ثم لم يزل البلاء يشتد ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين(ع).

وقد كان من أشد الناس بلاء حينـئذٍ هم أهل الكوفة لكثرة ما بها من شيعة علي(ع) فاستعمل معاوية عليهم زياد بن سمية، وضم إليه البصرة، فقتلهم تحت كل حجر ومدر، وأخافهم وقطع الأيدي والأرجل، وسملّ العيون وصلبهم على جذوع النخل، وطردهم وشردهم عن العراق، فلم يـبق بها معروف منهم.

ولم يكتف معاوية بذلك حتى قام بتهجير أكثر من خمسين ألفاً من أهل الكوفة إلى خراسان للقضاء على المعارضة الشيعية المستمرة والمتجددة.

وقد أشار لهذا المعنى بعض الباحثين: وقد أنزل من الكوفيـين وأسرهم، وكانوا أعظم الثوار تشيعاً خمسين ألفاً في خراسان، وبذلك حطم قوة المعارضة في الكوفة[o1] .

ولهذا قيل في بعض الكلمات أنه لقد ظن أن لا يـبقى بعد اليوم في الكوفة شيعياً، وذلك لكثرة ما جرى عليهم، فضلاً عن التـتبع الدقيق لهم والبحث عنهم في كل موطن وإعمال السيف فيهم.

ثم إن هذا الذي جرى على الكوفيـين يـبين لنا مقدار ما بقي من العدد الشيعي في هذه المدينة، وهل أنهم بالمقدار المقرر في الكلمات، وأنهم يمثلون ذلك العدد الهائل في تركيـبة الجيش الذي قاتل الإمام الحسين(ع)، فلاحظ.

ومع هذا كله فإن معاوية كان يتوقع انتفاض الكوفة على خليفته يزيد فيما بعد، فأعد للأمر عدته، وكتب عهداً قبيل وفاته يقضي بتعيـين ابن زياد والياً على الكوفة إضافة إلى ولايته على البصرة، وهو المعروف بقساوته وبطشه وحقده على أهل البيت(ع) وشيعتهم، وقد أودع العهد عند مستشاره سرجون الرومي، على أن يبرزه ليزيد كوصية واجبة التنفيذ في حال تمرد أهل العراق وخروجهم على الحكم الأموي بعد وفاته.

ثم أردف ذلك بوصية ليزيد يحذره فيها من أهل العراق، وينصحه بأن يعين لهم في كل يوم والياً إذا ما طلبوا ذلك تجنباً لثورتهم وتمردهم.

ومع كل هذا:

ومع كل ما جرى على الشعب العراقي والمجتمع الكوفي، نراهم بدلاً من أن يسالموا الحاكم الظالم ويذعنوا له، يراسلون الإمام الحسين(ع) ليقودهم في ثورة لا يمكن وصفها بكل المقايـيس إلا بأنها ثورة استشهادية، علماً بأنها ليست المرة الأولى التي يدعون فيها الإمام الحسين(ع) لقيادتهم، فهم حين ضرب معاوية باتفاقية الصلح مع الإمام أبي محمد الحسن(ع) عرض الجدار هبوا إليه يدعونه لرفع راية الثورة والمواجهة من جديد، لكنه(ع) لم يجبهم إلى ذلك، فذهبوا إلى الإمام الحسين(ع) وطالبوه بنفس الشيء وكان جوابه(ع) لهم: صدق أبو محمد، فليكن مل رجل منكم حلساً من أحلاس بيته ما دام هذا الإنسان حياً، فإن هلك نظرنا ونظرتم ورأينا ورأيتم[o2] .

ولم يقل لهم: إنكم أهل غدر، ولا نستطيع الثقة بكم، بل حتى أنه لم يقل لهم سنرى ونـنظر، بل قال: نظرنا ونظرتم، ورأينا ورأيتم. وهذا هو منتهى الثقة والتقدير، حيث يجعلهم الإمام(ع) شركاء له في اتخاذ القرار المناسب وهو المعصوم المفترض الطاعة.

وقد تكررت هذه الدعوات والوفود على مدى عشرين عاماً، وفي كل مناسبة، وعند كل أزمة.

التاسع: لقد عزز الأمويون قوتهم الذاتية في الكوفة، لا سيما وأن هذه الأخيرة كانت دائماً مركزاً للمعارضة الأكثر خطورة في المشرق الإسلامي، وكان هذا الواقع مصدر قلق للسلطة منذ قيامها، معبرة عن ذلك باختيار شخصيات غير عادية لأهل العراق، ولم تكن تلك الشخصيات قادرة على القيام بمهماتها العسيرة دون قوة رادعة من القبائل العراقية الموالية للنظام.

ولا ننسى في هذا السبيل أن القوة المقاتلة، وهي الجيش في العهد الأموي من الدولة كانت لا تزال منصرفة بثقلها نحو هذا الدور الأمني، بعد انطفاء وهج الدور الجهادي التوسعي الذي كان أيام الخلفاء الثلاثة الأول، أي أنه كان يوجد في الكوفة حامية عسكرية قوية وجهاز أمني عتيد، مضافاً إلى وجود قوات شامية على حدود العراق مستعدة للدخول بسرعة للقضاء على أي محاولة للتمرد.

هذا كله فضلاً عن أنه كان للأمويـين شبكة واسعة من العيون والشرطة والمخبرين والعرفاء والجنود والمرتزقة الذين كانوا يحصون على الناس أنفاسهم.

النـتيجة:

إن من السذاجة أن نتصور أن الأمويـين قد تركوا الكوفة من غير عيون وإرصاد وقوات جاهزة للطوارئ، وهي التي تمثل عاصمة المعارضة، وقاعدة أهل البيت(ع)، كما أن من السذاجة أيضاً أن نتصور أن الحكم الأموي الذي كان يرصد حركة الإمام الحسين(ع) وبكل دقة وتـتبع، أن يـبقى ساكناً ولا يأخذ للأمر أهبته، بل على العكس من ذلك فإن سير الأحداث يؤكد بأن الحكم الأموي كان يخطط لاستدراج الإمام الحسين(ع) إلى العراق للإجهاز عليه باعتباره خارجاً على الخليفة، بدليل الرسالة التي أرسلها يزيد إلى ابن زياد بعد وصول رأسي مسلم وهاني(ع) إلى دمشق، حيث يقول فيها: بلغني أن الحسين بن علي قد فصل عن مكة متوجهاً إلى ما قبلك، فأدرك العيون عليه وضع عليه الإرصاد على الطريق، وقم أفضل القيام، واكتب إلي الخبر كل يوم[o3] .

خلاصة الأمر:

إن النـتيجة التي نصل إليها بعد هذا الاستعراض كله، أن شيعة الكوفة كانوا أبرياء من تهمة الغدر والخذلان والخيانة، وإنهم لم يشاركوا في قتل الإمام الحسين(ع) حتى يقال بأن قتلة الحسين(ع) هم شيعته الذين دعوه، ومن ثمّ خذلوه.

بل إن الذين ساهموا بطريقة وأخرى في حرب الإمام الحسين(ع) هم بقية أهل الكوفة من غير الشيعة، وهم الذين حالوا بينه(ع) وبين شيعته، ولأسباب نفعية وسياسية.

وأما حالة التقلب في المواقف عند بعض أهل الكوفة من الشيعة، فهو نتيجة طبيعية لحالة الظلم والإرهاب الطويلة والسائدة في المجتمع، وما تولده في نفوس بعض الناس من تداعيات وتصدعات وانهيارات تكون حصيلتها وجود شخصيات من هذا النوع المنافق المتلون الساعي وراء مصالحه وغاياته فقط.

——————————————————————————–

[o1]ثورة الحسين ص 74 للشيخ شمس الدين.

[o2]الأخبار الطوال للدينوري ص 221.

[o3]الأخبار الطوال للدينوري ص 242.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة