مدخل:
إن المساحة الثقافية من خلال المنظور الإسلامي تمتد إلى حيث تمتد التركيـبة الإنسانية نفسها، وهذا يعني شمولها للجوانب الإنسانية الثلاثة:
الأول: الجانب التصوري والعقائدي: بما يشمل كل المفاهيم التي يملكها الإنسان عن الكون والحياة والإنسان، وبالشكل الذي يتناول السنن التاريخية والقوانين الحاكمة كلها.
الثاني: الجانب الإحساسي العاطفي: بما يشكل الغرائز والميول الأصيلة والمعدلة تبعاً للتربية الخاصة، وتكوين المصاديق المتعالية، كتحويل حب الذات الضيقة إلى حب للذات المتسعة الخالدة، من خلال الإيمان بالآخرة.
الثالث: الجانب السلوكي العملي: وهو بطبيعة الحال يشمل كل موقف يتخذه الإنسان، حتى فيما بينه وبين نفسه، كما أنه متأثر بالجانبين السابقين تمام التأثر، وخصوصاً بالجانب الثاني، حيث فسر المحللون النفسيون الإرادة الإنسانية بالشوق المؤكد، بالرغم من أن الشوق المؤكد هو المرحلة الأخيرة التي تسبق تصميم الإنسان على العمل، كما نعتقد، فإن الإنسان يـبقى يمتلك الحرية في أحرج الضغوط العاطفية.
الترابط بين المساحات الثلاث:
وإذا قبلنا هذه الحقيقة فعلينا أن نؤمن بالكل الثقافي المترابط، وأن نعتبر أي انفصال بين الأجزاء آنفة الذكر عملية مؤقتة، وأي قول بالفصل الدائم بين المساحات مجازفة يكذبها الوجدان والنصوص الشريفة. كما أن هذا الإيمان والقبول يفتح أمامنا باباً تربوياً وإعلامياً واسعاً، نـنفذ من خلاله إلى المقصود أولاً، ونكتشف أيضاً عبره التآمر الإعلامي على الوجود الثقافي ثانياً.
وإننا إذا تأملنا واقعنا الوجداني رأينا حقيقتين مهمتين:
الأولى: هي هذا الترابط المحكم بين أبعاد الكل الثقافي الإنساني، بما يمكن أن يرجع كل الإنسان إلى المحور الواحد المسيطر، وهو النفس الإنسانية، فهي التي تـتـثقف في الواقع، وإن كانت المسارب أو المظاهر متفاوتة.
الثانية: أنه ونتيجة لهذا الترابط وهذه الوحدة الوجدانية، فإن أي تـنافر بين جزئين منها يعد أمراً طارئاً على التركيـبة الطبيعية الإنسانية سرعان ما تـتغلب عليه لتحقيق الانسجام الكامل.
وفي ضوء هاتين الحقيقتين علينا أن نعالج ثقافتنا على كل الصُّعُد، ونلاحظ مدى النفوذ الغربي فيها.
العدو يستهدف كل الجوانب:
ويبدو أن العدو في حملته الثقافية، استهدف الجوانب الثلاثة بشكل عرضي، وفي آن واحد، إدراكاً منه لهذا الترابط، وتحقيقاً لمهمته الرئيسة، وهي قتل الشخصية الإسلامية في وجود الفرد والأمة، وبالتالي تحقيق الأرضية السهلة لعملية الاستغلال الكبرى.
فعلى الصعيد التصوري، عمل الإعلام الغريب، والأفضل أن يسمى بالإعلام الإستكباري العالمي، نظراً لطبيعته ودوافعه الحقيقية الكامنة في طغيان الحيوانية والمادية في وجوده، على التغريب الثقافي عن العقيدة والتصورات الأصيلة مستغلاً فترات الجهل، والاتجاهات القشرية الخالية من روح الإسلام، والمركزة على جوانب جزئية عابرة، مكبرة إياها، وجاعلة هذه الجوانب هي محور الصراع وتضارب الآراء، عاملة بالتالي على نسيان التصورات الإسلامية التغيـيرية الكبرى، وترك الميدان الاجتماعي لكل المبادئ المدعية للعدالة والإصلاح، وهي في الواقع ضد ذلك.
ومن هنا رأينا اتجاه كثير من جيلنا الشاب نحو المبادئ المادية التي احتلت زوراً موقع البطولة، والمطالبة بالقضاء على الظلم بعد أن أخلَت هذه الآراء القشرية ذهنية جيلنا المسلم من المبادئ الإسلامية، وأبعدت المسلمين عنها، لسبب أو لآخر، متغافلة أن الإسلام هو دين الصراع ضد التفرعن والفراعنة والطغاة، وهو دين الجهاد المتواصل ضد أي نمط من أنماط الظلم والاستبداد والاستغلال.
ثم إن العدو، وتأكيداً لعملية التغريب الآنفة، راح يزرع الشبهات تلو الشبهات في النفوس تجاه الإسلام عقيدة ونظاماً، وتجاه امكان تطبيقه، وهو دين المجتمع القبلي-كما يدعون- فكيف يمكن تطبيقه في مجتمع القرن الواحد والعشرين؟!!!
ولم تكن الشبهات عادية، وإنما هي تشمل الحقول الفلسفية والمنطقية، تماماً كما تشمل الجوانب العلمية، وهذه الشبهات عندما تصب في روح الشباب الفارغ، فإنها تعصف برؤيته ومفاهيمه، وإذا تم ذلك ضمن الاستكبار انحراف الإحساس فالعمل بلا ريب.
وإذا تمهد السبيل للنفوذ الغريب جاء دور بث الفكر الإلحادي المسموم، لتحقيق المرحلة النهائية من العملية ليصوغ الإنسان المسلم مبشراً للماركسية بقيمها الواطية، والرأسمالية بجشعها ولؤمها. فيغدو عدواً للأمة وعميلاً للأجانب الأعداء.
وأما على الصعيد العاطفي: فإن خطتة الخبيثة، يمكن أن تـتخلص بعمليتين:
الأولى: عملية إضعاف الروح الأخوية الإسلامية، روح إحساس المسلم أينما كان بألم المسلم الآخر، وإحلال الروح المحلية، والقطرية، والقومية، وأمثال ذلك.
الثانية: عملية توجيه العواطف والدوافع نحو المادية السلوكية، الأمر الذي يترك أثره على الجانبـين العقائدي والعملي بكل قوة، فتـتحول المادية العاطفية إلى مادية عقائدية.
وقد استغل الاستكبار الغربي كل الوسائل لتحقيق هذا الهدف، وما زال يستخدمها حتى يومنا هذا في أرضنا الإسلامية، ونذكر منها: النماذج الخلقية المنحطة، والمجلات والصحف الإباحية، والإذاعة المسموعة والمرئية بما تحويه من برامج منحطة، وغير هادفة، والتشجيع على استهلاك وسائل التجميل، والتشجيع على ارتكاب الجريمة، ودفع المجتمع نحو المخدرات، وتربية المجتمع على تقليد الغرب الخليع في مخـتلف الشؤون كاللباس، والسكن، والسلوك.
وأما على الصعيد العملي: فقد كان هدفه المرحلي، هو إبعاد النظام الإسلامي عن توجيه الحياة الإنسانية، وإحلال النظم الغربية المادية محله، بشكل كلي، أو في غالب الأحوال، وقد تنوعت الأفكار التي استخدمها ومهدها لهذه العملية، فشملت:
فكرة فصل الدين عن السياسة، وقصر الحياة الدينية على الشؤون الشخصية العبادية، وترك الشؤون الاجتماعية للفكر التنظيمي الغربي.
وترويج الاتجاه الليـبرالي المتحرر من التقيد بالتوجيهات الدينية. وتحبيـذ العلمانية في الحكم بكل صراحة، أو بشيء دستوري يذكر الإسلام كدين للدولة تمويهاً، في حين يحجر عليه أن يصوغ مجمل الحياة الاجتماعية، إلا بما لا يتعارض مع المصالح الغربية والشخصية الضيقة.
وقد مهدت لهذه الفكرة أفكار أخرى مخادعة، من قبيل: فكرة تعقد الحياة، ولزوم التطوير في كل مجالاتها، وعدم قدرة النظم الدينية على مواكبة هذا التطور، باعتبارها تؤمن بالمطلقات التشريعية، وهذه المطلقات التشريعية لا تـنسجم مع عملية التغيـير المستمر، وكذلك فكرة التخويف من الحكومة الدينية، أو ما يسمونه بالاستبداد الديني، مذكرين بما جرى في القرون الوسطى من ظلم الكنيسة، وكيف أنها وقفت إلى جانب الإقطاع المستبد، وأن هذا لا ينسجم مع الدولة الديمقراطية الحديثة، وغير ذلك من الأفكار التي مهدت للعلمانية، فإذا بنا نجد الأرض الإسلامية تضج من وجود الحكم العلماني المغلف، دون أن يشعر أكثر الأفراد بمدى الجريمة التي ترتكب عبر ذلك.
والأمرّ من ذلك، إن بعض الناس من عملاء الغرب ووسائله الإعلامية العميلة راحت تدعوه لإعادة النظر في الإسلام!!!
فهناك من يدعي أن الإسلام قد استنفذ أغراضه التاريخية.
وهناك من يرفع نداءه طارحاً فكرة(البروتستانتية الإسلامية).
وهناك من يطرح النظم الغربية أساساً يجب أن يحور الإسلام نفسه، بحيث ينسجم معها، فتجد شيوع تعبيرات: الديمقراطية الإسلامية، والاشتراكية الإسلامية…الخ…
ولما لم يجد أذناً صاغية، راح بعض الأفراد يطرح الأفكار التلفيقية التي تأخذ من هذا ضغـثاً، ومن ذاك ضغـثاً، وتقدمه على أساس أنه الإسلام المواكب لمسيرة التطور!!
وهذا القسم الأخير هو أشد الأقسام خطورة على جيلنا الإسلامي الناشيء.
خطوط المواجهة الإعلامية للغزو الثقافي:
ونستطيع أن نميز في مجال مواجهة الغزو الثقافي الآنف على الصعيد الثقافي والإعلامي، خطوطاً، أهمها خطان:
الأول: الخط الإعلامي البناء: ويمتاز هذا الخط بميزات:
منها: وعيه للإسلام وعياً نافذاً، وإدراكه العميق الأصيل لنظرته الحياتية التغيـيرية الشاملة.
ومنها: إدراكه لأبعاد الغزو الثقافي ومساربه ومظاهره.
ومنها: تركيزه على محور المشكلة، دون إهمال جوانبها وفروعها وتفصيلاتها، وبالتالي دعوته للتغيـير والإصلاح في آن واحد.
ومنها: تقديمه الطروحات الإسلامية للجيل، وبعث حركة ثقافية جديدة.
ومنها: تحريك الحس الإسلامي، وعدم الاكتفاء بالتـنظير الفكري الجاف.
الثاني: طرح الإسلام شعاراً براقاً، والتـذكير بالأمجاد.
الإعلام القرآني جوهر النهوض:
ومتى أردنا أن نـنهض في مجال الإعلام المواجه والمربي في آن واحد، فليس لنا من سبيل إلا سبيل القرآن الكريم، والدعوة القرآنية، لأننا مسلمون قبل كل شيء، ولنا تصوراتنا، ونماذجنا الخاصة بنا، والمستقاة من خالق الكون العليم بما يصلحه، ونموذجنا الأسمى في شتى المجالات، هو القرآن الكريم، فهو الكتاب المسطور، والنور الساطع، والضياء اللامع، وهو ناطق لا يعيى لسانه، وبيت لا تهدم أركانه، وعز لا تهزم أعوانه، وهو كتاب الله، تبصرون به وتنطقون به، وتسمعون، فعلينا أن نعطف الرأي على القرآن إذا عطفوا القرآن على الرأي، فهو البحر الذي لا يدرك قعره.
إنه كتاب التوعية، والتوعية في الإسلام تسبق أية خطوة أخرى، لأن الإسلام دين التوعية والتربية، وهو بمقتضى واقعيته وفطريته يقرر لزوم أن ينفذ إلى عمقه، أنه يعرض جوهرته الثمينة، لأنه يعلم أن قيمتها ستنكشف بكل وضوح للجميع، ولذا فهو يرفض أي تقليد في العقيدة، ويدعو للبحث والبرهنة، قال تعالى:- ( قل هاتوا برهانكم)، وهو يرفض أية عملية إكراه عقائدي( لا إكراه في الدين)، كما يريد من الأمة أن تكون من أولي الأيدي والأبصار، قوية بـبصرها وبصيرتها.
وفي مجال التعامل مع الآخرين يأمر الإسلام بالدعوة البينة الواضحة قبل كل شيء، يقول تعالى:- ( ادعوا إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو اعلم بالمهتدين)[o1] .
ولهذا المعنى أشار الشهيد السعيد السيد الصدر(قده) في كتابه اقتصادنا: والأمر الآخر: أن يـبدأ الدعاة الإسلاميون- قبل كل شيء- بالإعلان عن رسالتهم الإسلامية، وإيضاح معالمها الرئيسية ، معززة بالحجج والبراهين، حتى إذا تمت للإسلام حجته، ولم يـبق للآخرين مجال للنقاش المنطقي السليم، وظلوا بالرغم من ذلك مصرين على رفض النور، عند ذلك لا يوجد أمام الدعوة الإسلامية-بصفتها دعوة عالمية تـتبنى المصالح الحقيقية للإنسانية- إلا أن تشق طريقها بالقوى المادية، بالجهاد المسلح[o2] .
وقد ورد في كتاب شيخنا الكليني(ره) عن أبي عبد الله الصادق(ع) قوله: قال أمير المؤمنين(ع): بعثني رسول الله(ص) إلى اليمن، فقال: يا علي لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي[o3] .
إنه أسلوب القرآن قبل كل شيء، الذي علمه الله سبحانه وتعالى لموسى وهارون(ع)، قال عز من قائل:- ( اذهبا إلى فرعون إنه طغى* فقولا له قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى)[o4] .
إنها الدعوة حتى عند مواجهة الطواغيت، عسى أن يهتدوا إلى الحق، ويتبعوه.
وهاهنا نجد الرسول العظيم يكرر عبارة: أدعوك بدعاية الإسلام، في رسالته إلى كسرى أنو شيروان، وقيصر إمبراطور الروم، تطبيقاً لهذا التعليم الإسلامي السامي، وهكذا راح الدعاة يـبثون الدعوة إلى الأقطار.
الهدف الرئيس والأهداف المرحلية للإعلام:
الهدف الرئيس بكل اختصار، هو تعبيد الأرض لله تعالى، وإيجاد المجتمع المؤمن العابد المحقق لخلافة الله في الأرض، فإذا وجد مثل هذا المجتمع، فإنه ستكون الأمة الوسط التي تطمح الأمم للوصول إلى مستواها، والأمة الشاهدة على البشرية جمعاء، باعتبار ما لها من علو حضاري، نفسي ومادي، وحينئذٍ سيكون الدين كله لله سبحانه وتعالى، ويتحقق هدف الخلقة الإنسانية:- ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)[o5] .
ويجب أن تصب كل التشريعات والسلوكات والأقوال والأفعال بهذا الهدف الكبير، وتسترخص الغوالي لتحقيقه، لأنه عظيم ترخص في قباله دماء الأنبياء ولطاهرين، وجهود الصالحين عبر التاريخ.
نعم هناك أهداف مرحلية تنـتهي إلى ذلك الهدف الكبير، يعمل الإعلام الإسلامي على الوصول إليها بشتى الوسائل الممكنة، يمكننا ذكرها ضمن النقاط التالية:
الأولى: ترشيد إنسانية الإنسان: ذلك أن للإنسانية خصائص ومعالم إذا رشدت ونميت ضمنت للإنسان مسيرة متوازنة، أما إذا تلاشت من على سطح الوجود الإنساني، فحينئذٍ يكون الفسق عن السبيل القويم، وحينئذٍ تكون المسيرة المكبة على وجهها، وعندئذٍ يتوقع الإجرام كله، وهذه المعالم باختصار هي: التعقل السليم، والإرادة الحرة، والخلقية الفطرية، والدوافع المنضبطة.
وإذا لم نكن هنا بصدد عرض البرنامج الإسلامي الواسع الأبعاد، لترشيد هذه الجوانب فإن من الطبيعي الإشارة إلى بعض مكوناته حينما نـتحدث عن الأساليب الإعلامية.
الثانية: التوعية بالإسلام عقيدة ومفاهيم وتشريعاً: باعتباره السبيل الوحيد للوصول إلى ذلك الهدف الكبير، وكلما تعمق وعي الأفراد بهذه الرسالة، وطروحاتها وخططها وحلولها للمشاكل الإنسانية، واتضحت معالم الفرق بينها وبين المبادئ الوضعية، وبانت خصائصها الرئيسة، استطاع المجتمع المسلم أن يخطو على طريق الهدف الكبير خطى أسرع وأثبت في نفس الوقت.
الثالثة: التوعية بكل ما يحيط بالأمة من أحداث وظواهر ومؤمرات: وتفاعلات لها كلها أثرها على تعيـين المواقف المبدئية والمتحركة.
الرابعة: إيجاد الأرضية الصالحة لتطبيق الإسلام: في كل الأرض الإسلامية، وبالتالي في شتى أنحاء العالم، ويشمل هذا الجانب أموراً في الأساليب التفصيلية.
الخامسة: تحقيق معالم الفرد المسلم والأمة المسلمة.
العدة المطلوبة والأسلوب الأمثل:
أما العدة المطلوبة للإعلام الإسلامي العامل على النهوض والمقاومة، فيمكن تلخيصها بما يلي:
الأول: القدرة العلمية والثقافية إلى الحد المستوعب لكل جوانب الإسلام وأهدافه العامة، فليس من المعقول أن يطلب من الإعلام تحقيق الأهداف السالفة الذكر دون أن يكون مزوداً بمثل هذه القدرة، ويمكنـنا أن نرد الكثير من نقاط الضعف الإعلامية إلى افتقادها، وتواجد السطحية في الفهم.
الثاني: الاستيعاب اللازم للفهم الاجتماعي العام، ومعرفة التحرك العالمي السياسي والاجتماعي ومحاوره، وتوفر الخبراء الهادفين والمحققين بكل جدارة.
الثالث: معرفة أساليب العرض، أو ما يمكن أن يطلق عليه فن الإعلام المناسب، وهو بالضبط ما كان قدماؤنا يطلقون عليه اسم (معرفة حال المخاطب)، فيجب أن نعرف من نخاطب، وكيف نخاطب، وأنى يتم ذلك، وهذا هو مضمون التحلي بالحكمة في مجال الدعوة إلى الله.
الرابع: الإيمان العميق الواعي بالإسلام وأهدافه الكبرى، وتأصل ذلك في نفوس الإعلاميـين إلى الحد الذي يحملهم على التضحية بكل غالٍ ورخيص في سبيل بلوغ الهدف السامي.
الخامس: التخلص من كل تبعية، أو ضيق أفق، أو مصلحة شخصية، والتجرد من كل ذلك لصالح الحقيقة.
والواقع أننا نعتقد أنه يكمن في هذه النقطة أحد أهم شروط النهضة الإعلامية، وإن إعلامنا الإسلامي اليوم مبتلى في الكثير من مقولاته بالتبعية للحكومات المتسلطة على شعوبها بالحديد والنار، فهو لا يعدو أن يكون دمية تـتحرك بإرادة الحاكم، وباتجاه تحقيق مصالحه، وإلا فماذا نسمي إعلاماً ينـتسب للإسلام وهو يسكت عن كل أنماط الخيانة الأخلاقية، أو الخيانة الاقتصادية، أو الانحراف السياسي والعمالة المفضوحة، أو الاستسلام للعدو الصهيوني الغاشم، أو يردد نفس تهم الاستكبار العالمي ضد أبطال المقاومة الإسلامية، أو يدعو للتستر على الجرائم.
السادس: التمتع بالخصائص القرآنية الإعلامية: وهذه الخصائص واسعة الأبعاد، قد لا يمكن الاحاطة بها إلا من خلال دراسة تحقيقية عميقة، ومن هنا فإننا نكتفي الإشارة لبعضها بما يتناسب وحجم هذا الحديث، وما نذكره يتلخص فيما يلي:
1-استحضار النظرة الغيـبية إلى جانب الحسابات المادية، وذلك في كل تحليل أو توقع مستقبلي والابتعاد عن النظرة المادية الحسابية الجافة، فإن التصورات القرآنية المعاطاة تؤكد أن المسيرة المنسجمة مع العدل تنسجم معها القوى الطبيعية القائمة في خلقتها على الأساس نفسه، في حين لا يتوفر الانسجام المطلوب مع الانحراف، وهو ما تلخصه الآيات الكريمة:- ( فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب)[o6] .
(استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً)[o7] .
وكذلك كل النظرات الإسلامية في التاريخ والحياة والإنسان، ومن ذلك ما قلناه من الترابط بين أجزاء التركيـبة الإنسانية.
2-الموضوعية والاتصاف بروح التبعية للحقيقة أياً كانت، وحتى لو خالفت مصلحة شخصية، أو استدعت التضحية الغالية، ويـبالغ القرآن الكريم في تحقيق الروح الموضوعية، وعدم النظر إلى الواقع الموضوعي من خلال رؤية مسبقة إلى الحد الذي يدعو فيه الخصم إلى افتراض نقطة الصفر في الحوار، وعدم الإيمان بشيء والانطلاق منها إلى الحقيقة الموضوعية، فيقول مخاطباً الكفار:- ( وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين)[o8] .
3-الهدفية في كل خطوة، ذلك أن الهدفية لا تـتنافى مطلقاً مع الموضوعية في التصور الإسلامي، لأن المؤمن مطمئن تمام الاطمئنان أن الحقيقة الموضوعية مهما كانت، تشكل آية من آيات الله تعالى، وهدى إليه سبحانه.
وإذا انعكست الهدفية على حياة الداعية العامل، صرف النظر عن أنماط اللهو السخيف، والتضيـيع الوقتي فيما لا طائل تحته، وبالتالي لا نجد في نماذجنا الإعلامية ما يهدر هذا الوقت الثمين.
إننا نلحظ الهدفية القرآنية في كل قصة، وفي كل مثل، وفي كل عبارة، ففي كل موضوع عبرة، ومع كل حديث اعتبار، وفي كل شيء يعبر عن مادة للدراسة وخدمة الهدف من خلالها، قال تعالى:- ( لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب)[o9] .
——————————————————————————–
[o1]سورة النحل الآية رقم 125.
[o2]اقتصادنا ج 1 ص 275.
[o3]وسائل الشيعة ج 11 ص 30؟
[o4]سورة طه الآيتان رقم 43-44.
[o5]سورة الذاريات الآية رقم 56.
[o6]سورة الفجر الآية رقم 12-13.
[o7]سورة نوح الآيات 10-12.
[o8]سورة سبأ الآية رقم 24.
[o9]سورة يوسف الآية رقم 111.