دابة الأرض

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
270
0

من المفاهيم القرآنية التي اختلف المفسرون في تحديد المقصود منها مفهوم دابة الأرض المذكور في قوله تعالى:- (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ )[1]. ولم ينحصر خلافهم في شرح المفهوم وتحديد المقصود منه ببيان مصداقه، بل تعدى ليقع الخلاف بينهم في جملة من خصوصيات هذا المفهوم، مثل بيان ما لها من مواصفات، وفي أي زمان يكون خروجها، وكيف يكون هذا الخروج، وما هو الهدف من خروجه، أو ما هي الوظيفة التي تناط بها، ولأجلها قد خرجت، وغير ذلك.

زمان خروجها:

ولا يخفى أنه قد يعمد إلى تحديد المقصود منها من خلال الاستفادة من بعض القرائن سواء الداخلية الموجودة في الآية الشريفة المتعرضة للمفهوم المذكور، أم من خلال القرائن الخارجية المحيطة بالآية المباركة، فإنه لو أمكن مثلاً تحديد زمان خروجها، فإن ذلك قد يعين كثيراً على تحديد المقصود منها.

ويمكن تحديد الزمان الذي سوف تخرج فيه دابة الأرض من خلال الاستناد إلى قرينة تساعد على ذلك، ونقصد بتلك القرينة ملاحظة ما جاء في صدر الآية الشريفة، وهو قوله تعالى:- (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ)، فإن تحديد المقصود من القول الذي ذكر قد يساعد على تحديد الزمان الذي سوف يكون فيه هذا الحدث، والسر في ذلك هو أن المستفاد من الآية الشريفة أن خروج دابة الأرض إنما يكون بعد تحقق القول المذكور في الآية، فإذا وقع القول عليهم، كان ذلك موجباً لأن تخرج إليهم دابة من الأرض. وهذا واضح في الترتب، فحصول الأول وهو القول، ليتحقق الثاني، وهو إخراج دابة الأرض إليهم، فلاحظ.

هذا وللمفسرين في تحديد المقصود من القول في الآية الشريفة رأيان:

الأول: أن وقوع القول عليهم يشير إلى وقوع وتحقق يوم القيامة من خلال حلول وقته خارجاً، أو من خلال بدء علاماته وأشراطه، والأمران يؤلان لباً إلى مؤدى واحد، وهو انقضاء وقت التوبة، وانتهاء فترة العمل، وحلول وقت الحساب والجزاء، ليستحق كل إنسان جزاء ما عمل وقدم.

الثاني: أن لا يكون التعبير المذكور مشيرا إلى حلول وقت يوم القيامة، ولا ظهور بعض أشراط الساعة، وإنما هو يشير إلى صدور أمر الله سبحانه وتعالى لجنوده بحلول ما وعد الخلق من العقاب والجزاء، وذلك بدنو وقت حلول الوعد الإلهي، وهو يوم القيامة.

ولا يخفى أن القول الثاني وإن كان يتفق مع القول الأول في انقضاء مرحلة العمل، وإغلاق باب التوبة، إلا أنه لا يشير إلى حلول يوم القيامة، ما يعني أنه ربما يكون هذا إشارة إلى وجود حياة أخرى ما بين الحياة الدنيا والحياة الآخرة، وأن انقضاء مرحلة العمل وإغلاق باب التوبة، لا يعني باللزوم قيام الساعة وحلول يوم القيامة.

وكيف ما كان، فلو بني على القول الأول، للزم أن يبنى على أن خروج دابة الأرض إما من علامات حلول القيامة، ووقوعها خارجاً، أو هو أحد أشراطها، وقد أشير إلى هذا في بعض الكلمات بدعوى وجود نصوص تساعد على ذلك. بخلافه لو بني على القول الثاني، فإنه لن يكون خروج دابة الأرض من علامات القيامة وأشراطها، فضلاً عن أن يكون كاشفاً عن تحقق وقوعها خارجاً، فلاحظ.

ومن خلال ما ذكر يتضح مدى الأثر المترتب على تنقيح أي القول هو المعتمد، والذي يقبل، لما يترتب عليه من اثر كما عرفت.

ترجيح أحد القولين:

هذا وقد يبنى على ترجيح القول الثاني دون القول الأول، ويستند في ذلك إلى ملاحظة الآية التي تلي الآية محل البحث، فإنه يقول تعالى:- (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ)[2]. فإن مما لا ريب فيه أن الحديث فيها ليس عن يوم القيامة، وذلك لأنها تتحدث عن حشر فئة خاصة من الناس، لتعبيره تعالى بكلمة(فوج)، ومن الواضح أن هذا يشير إلى جماعة خاصة، ومن المعلوم أن الحشر في القيامة لن يكون لفئة خاصة، كما أن تفسير ذلك كما في بعض الكلمات بأن المقصود بذلك هم رؤساء القوم، وكبارهم، لا نجد له وجهاً يعول عليه، لأن الحشر لا يفرق فيه بين كبير وصغير، ورئيس وغيره.

وبالجملة، فإن مقتضى التعبير بكلمة الفوج يكشف عن أن الحشر المقصود في الآية الشريفة حشر يسبق يوم القيامة، ما يجعل الحديث في الآية التي قبلها، وهي الآية محل البحث حديثاً عن ما قبل القيامة أيضاً، فيثبت المطلوب.

نعم قد يمنع من الاستناد إلى هذه القرينة، كونها تعتمد بشكل أساس على إحراز وحدة السياق، بحيث تكون الآية محل البحث سابقة فعلاً في النـزول على الآية التي تليها، وأن الآية التالية قد نزلت مباشرة بعدها، بحيث يبنى على نزولهما معاً في وقت واحد، لا أن وضع الآيتين بالحال الذي هما عليه كان وفقاً لما هو الثابت من أن جمع القرآن الكريم كان بأمر من الله تعالى لنبيه(ص)، وأنه جعله وفقاً لذلك الأمر، ما يعني أنه ربما تكون الآية محل البحث متأخرة نزولاً عن الآية التي تليها، فلاحظ.

والإنصاف، أنه لم يشر في شيء من الكلمات التي تعنى بمثل هذه البحوث إلى عدم اتحاد الآيتين سياقاً، ما يعين أنهما وردتا في سياق واحد، وبالتالي تكون القرينة المقصودة محرزة، فيكون زمان خروج دابة الأرض قبل حلول يوم القيامة، وأن ذلك في حياة أخرى قبل حياة القيامة، فتأمل.

دابة الأرض:

ثم إنه بعد الفراغ عن تحديد الزمان الذي سيكون فيه خروج دابة الأرض، وأنه قبل حلول القيامة، يسعى لتحديد المقصود من دابة الأرض.

والظاهر أنه لا يمكن أن يعمد إلى تحديد المقصود من المفهوم المذكور من خلال الرجوع لآيات القرآن الكريم، ذلك لأنه لم يرد في آياته المباركة ما يشير إلى تحديد المقصود منها، حتى لو عمد إلى استقصاء الآيات الشريفة التي تضمنت الحديث عن هذا المفهوم، فإن ذلك لا يوجب الوصول إلى تحديد المقصود منه.

وعليه، يلزم أن يلحظ الاستعمال اللغوي لهذا المفهوم، ومن ثم يلحظ هل أن للشرع الشريف استعمالاً آخر يغاير ما هو الثابت في المعنى اللغوي، ما يكشف عن وجود نقل في اللفظ، وتحوله حقيقة في المعنى الاصطلاحي، أو أن الشرع الشريف قد استعمل اللفظ في خصوصه معناه اللغوي.

ثم إنه لو حكم بأن المعنى اللغوي يفيد مفهوماً كلياً، فهل أن الشرع قد بنى على تخصيصه في أحد مصاديقه، أم أنه أبقاه بحسب ما هو عليه من معنى كلي.

الدابة لغة:

هذا وبالرجوع إلى المعاجم اللغوية، فإن المستفاد منها أن الدابة عبارة عن كل ما يدب على الأرض، ويتحرك من دون فرق بين كونه إنساناً أو حيواناً، نعم وقع الخلاف بينهم في شمول مثل هذا التعريف للطير، فإنه لا يدب على الأرض، ولا يتحرك، وفي الأسماك أيضاً، لنفس النكتة، ولا يخفى أننا لسنا معنيـين بتنقيح ذلك، فإنه خارج عن محل بحثنا.

ومقتضى ما ذكر، لا يكون لتصور اختصاص لفظ الدابة في خصوص الحيوان الذي يركب، وجه أبداً. فإن استعمال العرب لذلك لا يعني أنه مختص به، بل قد عرفت سعة المفهوم، وإن كان الاستعمال في هذا المعنى أكثر، ومع ذلك لم يتضح أنه بنحو يوجب الانصراف، أو التبادر.

وبالجملة، إن المتصور أنه لا زال اللفظ باقياً على سعته وشموليته كما عرفت من كلام أهل اللغة، فتدبر.

والظاهر أن الاستعمال القرآني لم يخرج عن المعنى اللغوي، فقد استعمل لفظ الدابة فيه في معناها الواسع، قال تعالى:- (وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )[3]، فإن التعبير بالدابة في الآية الشريفة لا يختص بالحيوان الصامت، بل هو شامل لكل ما يدب على الأرض ويتحرك، كما لا يخفى.

وأوضح منها دلالة في المدعى قوله تعالى:- (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ )[4]، إذ مقتضى كون الحديث عن الظلم البشري يستوجب أن يكون العقاب الواقع شاملاً لهم كما هو واضح. ولاحظ أيضاً قوله تعالى:- (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِن مَّاء فَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَّن يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاء إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )[5].

نعم وفقاً لما جاء في كلمات أهل اللغة من السعة في المفهوم كما عرفت، سوف يحتاج استعماله في أي واحد من مصاديقه ليختص به دون غيره من المصاديق قرينة توجب تعينه فيه، فلاحظ.

وبناءً على ما عرفت من كلمات اللغويـين، فهذا سوف يكون مانعاً من الاستفادة منهم في تحديد المقصود من لفظ دابة الأرض في الآية المباركة، فإن سعة المفهوم المذكورة للمقصود من الدابة، تكون مانعة من تحديد المقصود منها، فلاحظ.

كلمات المفسرين:

وعند العود لكلمات المفسرين، فإن الموجود فيها قولان:

الأول: أن الدابة المذكورة في الآية حيوان غير مألوف، ومن غير جنس الإنسان، له شكل عجيب. وقد نقلوا له عجائب شبيهة بما يخرق العادات والمعاجز، وأنها تخرج في آخر الزمان، وتتحدث عن الإيمان والكفر، وتتولى فضح المنافقين.

ولا يذهب عليك أن هذا القول، قد يكون مستنداً في تحديد المقصود منها إلى أحد أمرين:

الأول: أن يكون قد استفيد تحديد جنسها وأنها حيوان،و ليس أنساناً من خلال النصوص الشريفة.

الثاني: أن يكون مستند التحديد المذكور مستفاداً من كلمات أهل اللغة، ولا أقل اعتماداً على كثرة استعمال المفهوم المذكور في الحيوان الصامت دون الحيوان الناطق.

وقد عرفت عند الحديث عن معنى الدابة لغة شمولية المعنى لكل ما يدب ويتحرك على الأرض، ما يمنع من اختصاصها بالحيوان الصامت، فيبقى خصوصا لأمر الأول، وهذا يستوجب ملاحظة النصوص، وستأتي الإشارة إلى ذلك إن شاء الله تعالى.

الثاني: إن دابة الأرض الذي ذكر في الآية الشريفة، هو إنسان متحرك وفعال، وأحد أفعاله تميـيز المؤمنين عن المنافقين، ووسمهم.

ولا يبعد أن يكون القائلون بهذا القول اعتمدوا على أحد الأمرين السابقين في القول الأول، إما المعنى اللغوي، أو النصوص، والأول وإن كان ممكناً لما عرفت من سعة المفهوم، لكن قد عرفت أيضاً أنه يحتاج قرينة صارفة لانحصاره في هذا المصداق دون غيره، وبالتالي سوف يكون الأمر منحصراً في خصوص الأمر الثاني وهو النصوص، فإن كانت دالة على ذلك، وإلا فإنه سيبقى المفهوم المذكور من المتشابهات.

ويلاحظ وجود اختلاف بين القولين، في المقصود من دابة الأرض، فبينما يجعلها القول الأول من الحيوان الصامت، جعلها القول الثاني حيواناً ناطقاً، لكنهما يتفقان في وقت خروجها وأنه آخر الزمان،و في الوظيفة المناطة بها، ولأجلها تخرج، وهيا لتفريق بين المؤمنين والمنافقين، من خلال قيامها بعملية الوسم للمؤمن بإيمانه، وللكافر والمنافق بكفره ونفاقه.

نعم حكي عن الرازي قوله، بأنه ووفقاً للنصوص الواردة إلينا عن طريق أصحابنا، فإن دابة الأرض كناية عن الإمام المهدي(روحي لتراب حافر جواده الفداء)[6]. لكنني لم أحرز النسبة المذكورة، عند المراجعة لنسخة تفسير مفاتيح الغيب المعروف بتفسير الرازي الموجودة لدي، والله أعلم بحقائق الأمور.

ملاحظة النصوص:

وأما النصوص:

فمنها: ما ذكره في مجمع البيان روى كعب القرظي، قال: سئل علي(ع) عن الدابة؟ فقال: أما والله ما لها ذنب، وإن لها للحية[7]. ومن الواضح أنه لا دلالة لها على القول الأول، بل دلالتها على القول الثاني واضحة، ضرورة أن التعبير بنفي الذنب عنها، وإثبات اللحية إليها إشارة جلية إلى أنها إنسان، وليست حيواناً صامتاً، كما لا يخفى.

وحملها على أنها حيوان صامت، ونفي وجود الذنب، وإثبات وجود اللحية من باب الإعجاز، كما هو أصل خروجها، يحتاج مؤنة زائدة، فلاحظ.

ومنها: عن حذيفة عن النبي(ص) قال: دابة الأرض طولها ستون ذراعاً ولا يدركها طالب ولا يفوتها هارب، فتسم المؤمن بين عينيه، ويكتب بين عينيه مؤمن، وتسم الكافر بين عينيه وتكتب بين عينيه كافر، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتجلوا وجه المؤمن بالعصا، وتحطم أنف الكافر بالخاتم حتى يقال: يا مؤمن، ويا كافر[8].

وقد يتمسك القائلون بالقول الأرض بهذا الخبر، لأنه تضمن التعبير بأن طولها ستون ذراعا. إلا أنه لم يتعرض إلى بيان أنها من الحيوان الصامت أم الحيوان الناطق، ما يوجب إجمالا فيه من هذه الناحية. على أن تحديد الطول، لا يبعد حمله على نحو من أنحاء المبالغة، غايته منه التأكيد على وقوع هذا الأمر، لا أن الحديث أساساً عن أمر خارق للعادة لم يعتد عليه البشر، فلابد وأن يكون محاطاً بأمور تساعد على القبول به، فلو أقتصر(ص) على ذكر أنه إنسان عادي، فلن يكون ذلك مقبولاً، فجيء بصيغة المبالغة للتأكيد على الإيمان بالموضوع، فتأمل.

وعليه، فلن يكون في الحديث إجمال، بل سوف يكون الحديث موافقاً للخبر الأول، ويكون الخبران دالين على القول الثاني، فلاحظ.

ومنها: ما رواه أبو الصامت الحلواني عن أبي جعفر(ع) قال: قال أمير المؤمنين(ع): ولقد أعطيت الست: علم المنايا والبلايا والوصايا وفصل الخطاب، وإني لصاحب الكرات ودولة الدول، وإني لصاحب العصا والميسم والدابة التي تكلم الناس[9].

ودلالة النص المذكور على القول الثاني صريحة، مضافاً إلى تحديده في خصوص أمير المؤمنين(ع).

ومنها: ما رواه أبو بصير عن أبي عبد الله(ع) قال: انتهى رسول الله(ص) إلى أمير المؤمنين(ع) وهو نائم في المسجد قد جمع رملاً ووضع رأسه عليه فحركه برجله، ثم قال: قم يا دابة الأرض. فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله، أيسمي بعضنا بعضاً بهذا الاسم؟ فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة، وهو الدابة الذي ذكره الله في كتابه، فقال عز وجل:- (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ )ثم قال: يا علي إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة ومعك ميسم تسم به أعداءك، فقال رجل لأبي عبد الله(ع): إن العامة يقولون: إن هذه الآية إنما تكلمهم[10]؟فقال أبو عبد الله(ع): كلمهم الله في نار جهنم، إنما هو يكلمهم من الكلام[11].

ومنها: ما روي عن أبي عبد الله(ع) قال: قال رجل لعمار بن ياسر: يا أبا اليقظان إن آية في كتاب الله أفسدت قلبي وشككتني؟ قال: وأية آية هي؟ قال: قوله عز وجل:- (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ ) فأية دابة هذه؟ قال عمار: والله ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها، فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين(ع)، وهو يأكل تمراً وزبداً، فقال(ع): يا أبا اليقظان هلم، فأقبل عمار وجلس يأكل معه، فتعجب الرجل منه فلما قام قال الرجل: سبحان الله إنك حلفت أن لا تأكل ولا تشرب ولا تجلس حتى تريني الدابة! قال: أريتكها إن كنت تعقل[12].

ومنها: ما في بصائر الدرجات عن أبي جعفر(ع) قال: قال أمير المؤمنين(ع) في خطبة طويلة: أنا دابة الأرض، وأنا قسيم النار، وأنا خازن الجنان، وأمنا صاحب الأعراف.

ومنها ما في كتاب سليم بن قيس عن أبي الطفيل، قال: سألت أمير المؤمنين(ع) عن الدابة؟ فقال: يا ابا الطفيل إلهُ عن هذا. فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرني به جعلت فداك! قال: هي دابة تأكل الطعام وتمشي في الأسواق وتنكح النساء، فقلت: يا أمير المؤمنين من هو؟ قال: رب الأرض الذي يسكن الأرض. قلت: يا أمير المؤمنين من هو؟ قال: الذي قال الله(ويتلوه شاهد منه)، والذي(عنده علم من الكتاب)، والذي(صدق به). قلت: يا أمير المؤمنين فسمه لي، قال: قد سميته لك يا أبا الطفيل.

ولا يقصر الخبر المذكور عما تقدمه من النصوص في النص على أن المقصود بدابة الأرض إنسان، له امتيازات خاصة، وأنه خصوص أمير المؤمنين(ع)، فإن الآيات التي استشهد بها(ع) في مقام الإشارة إليه في حديثه السابقة كلها مختصة به(ع)، كما أن التعبير برب الأرض، إشارة إلى ما أطلق عليه من مسمى أبي تراب، فلاحظ.

على أنه لو أريد الاستقصاء لطال المقام، خصوصاً إذا لوحظت النصوص التي وردت في أن مما جعل لأمير المؤمنين(ع) أنه صاحب العصا والميسم، ويراد بالعصا عصى موسى(ع)، ويراد من الميسم خاتم سليمان(ع)، والذي يتم بواسطته وسم المؤمن بالإيمان، ووسم الكافر والمنافق بالكفر والنفاق، وقد عرفت في ما تقدم أن هذه هي الوظيفة المناطة بدابة الأرض عندما تخرج، فإنها تتولى عملية التفريق بين المؤمنين والكفار والمنافقين، وان ذلك يتم من خلال عملية الوسم المذكورة، فتدبر.

وبالجملة، لا مناص وفقاً للنصوص المتقدمة، أن يلتـزم بأن المقصود من دابة الأرض هو خصوص أمير المؤمنين(ع). إلا أن هناك خبراً نقله الشيخ الطبرسي(ره) في مجمعه عن ابن عباس، يمكن أن يركن إليه أصحاب القول الأول، وهو أن دابة الأرض دابة من دواب الأرض لها زغب وريش ولها أربع قوائم[13].

ولا ريب في أن الخبر المذكور لا يصلح لمعارضة ما تقدم من النصوص، لا لكونها مستفيضة، بل قد تبلغ حد التواتر إجمالاً، وإنما لكون الخبر المذكور يحكي مقولاً لابن عباس، وليس قولاً صادراً عن المعصوم(ع)، وبالتالي لا يصلح لمعارضة ما صد عن المعصومين(ع)، فتدبر.

وبالجملة، إن المتحصل مما تقدم وفقاً لملاحظة النصوص السابقة، هو البناء على أن المقصود بدابة الأرض، هو أمير المؤمنين(ع)، وأنه خروجه ورجوعه إلى عالم الحياة يكون في آخر الزمان، وقبل حلول يوم القيامة.

إشكال وجواب:

هذا وقد يشكل على النتيجة المذكورة في بيان المقصود من دابة الأرض، وفقاً لما هو المستفاد من النصوص، بأن هذا من باب الجري والتطبيق، وليس من باب البيان والتفسير، ما يجعل الموضوع لا يخرج عن كونه ذكراً لمصداق من مصاديق دابة الأرض، وبالتالي لا وجه لتخصيصه وحصره في أمير المؤمنين(ع). ولو قيل: لمَ ذكرت النصوص أمير المؤمنين(ع) دون غيره. قلنا: بأن ذلك يعود لكونه الفرد الأكمل الذي يمثل هذا المفهوم.

والإنصاف، أن حمل النصوص المذكورة على الجري والتطبيق خلاف الظاهر جداً، بل لا مجال لأن يتأمل في كونها نص في التفسير، وتحديد للمفهوم بذكر المصداق الوحيد له، وهو خصوص الإمام أمير المؤمنين(ع)، و يشهد لذلك معتبر أبي بصير الذي رواه عن الإمام الصادق(ع)، عندما سمى النبي(ص) علياً(ع) بدابة الأرض، وقد سأله رجل من أصحاب، فإن جواب رسول الله(ص) تضمن حصر التسمية عليه(ع)، وأن هذا من مختصاته، فكيف يقال أن هذا جري وتطبيق، وكذا في حديثه(ع) هو مع أبي الطفيل، فإن ذكره(ع) للعلامات الكاشفة عن دابة الأرض، إنما هو إشارة إلى ما له من خصوصيات ذكرت له دون غيره من المسلمين. وكذا رواية عمار بن ياسر، فإن هذه النصوص كلها تأبى أن تحمل على الجري والتطبيق، فتدبر.

هذا وقد ذكر الشيخ الطبرسي(ره) مكان خروج دابة الأرض، حكاية عن أبي سعيد وابن عمر أنها تخرج بين الصفا والمروة[14]. إلا أن الجزم بذلك صعب جداً، لأنه لم يستند لدليل يركن إليه، فلاحظ. نعم ذكر شيخنا الصدوق(ره) في كتابه كمال الدين وتمام النعمة رواية تشير إلى أن خروجها من الصفا، فقد روى بإسناده إلى النـزل بن سياره عن أمير المؤمنين(ع)-في حديث طويل- قال فيه(ع) بعد أن ذكر الدجال ومن يقتله: ألا أن بعد ذلك الطامة الكبرى.

قلت: وما ذلك يا أمير المؤمنين؟

قال: خروج دابة من الأرض عند الصفا، معها خاتم سليمان، وعصا موسى، تضع الخاتم على وجه كل مؤمن فينطبع فيه: هذا مؤمن حقاً، وتضعه على وجه كل كافر، فيكتب هذا كافر حقاً، حتى أن المؤمن لينادى: الويل لك حقاً يا كافر، وأن الكافر ينادي: طوبى لك يا مؤمن[15].

خاتمة:

ولنختم الحديث حول دابة الأرض، بالإشارة على أن النصوص المتكثرة عندنا قد حددت الزمان الذي يكون خروجها فيه بزمان الرجعة الذي يكون في دولة الإمام الحجة المنتظر المهدي(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، فإن أمير المؤمنين(ع) أحد الذين يرجعون في ذلك الزمان.

[1] سورة النمل الآية رقم 82.

[2] سورة النمل الآية رقم 83.

[3] سورة هود الآية رقم 6.

[4] سورة النحل الآية رقم 61.

[5] سورة النور الآية رقم 45.

[6] الأمثل في تفسير القرآن المنـزل ج 12 ص129.

[7] مجمع البيان ج 5 ص 250.

[8] المصدر السابق.

[9] أصول الكافي ج 1 كتاب الحجة باب أن الأئمة هم أركان الأرض ح 3.

[10] يعني تجرحهم.

[11] نور الثقلين ج 5 ص 297.

[12] المصدر السابق.

[13] مجمع البيان ج 5 ص 250.

[14] المصدر السابق.

[15] كنز الدقائق ج 9 ص 586.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة