اعتبر العقلاء العائلة مؤسسة إنسانية قامت في جميع المجتمعات على مرّ التاريخ، وأنها وجدت مع وجود النشأة الأولى للحياة عندما وجد آدم وحواء(ع). نعم وقع الخلاف بين المفكرين حول الأهداف والدواعي التي تشكل عادة هذه المؤسسة من أجلها.
وقد قسم علماء الاجتماع العائلة إلى قسمين:
1-العائلة البسيطة، وهي التي لا يزيد عدد أفرادها عن جيلين، هما الأبوان والأطفال.
2-العائلة المركبة، وهي التي تتكون من أجيال متعددة، فيوجد فيها الأجداد، الأقارب، بالإضافة إلى الأبوين، والأولاد.
ومن الواضح أنهم قد جعلوا المعيار في التقسيم المذكور، ملاحظة عدد الإفراد الذين تتكون العائلة منهم.
وتنتشر العائلة البسيطة بشكل كبير جداً في أنحاء المعمورة، إلا أن ذلك لا ينفي وجود القسم الثاني، وهو العائلة المركبة، بل لعل الكثير من المجتمعات ترغب أن يكون وجود عوائلها بهذا النحو، وهو ما يعبر عنه بالقبائل الصغيرة.
هدف تشكيل العائلة:
وقد حدد علماء الاجتماع دواعي الإنسان وأهدافه في تشكيل العائلة في أمرين:
الأول: سعيه إلى توفير ملجأ يلتجئ إليه، يوفر له مستلزمات الاستقرار النفسي والجسدي بعد عناء العمل.
الثاني: تربية الجيل الجديد من الأطفال في قضايا المعرفة، والدين، والتقاليد، والشرع والثقافة، وغير ذلك.
وقد أوجب هذا وجود اختلاف حيوي بين الإنسان والحيوان في تشكيل العائلة، ذلك أن الحيوان أيضاً يسعى أيضاً إلى تشكيلها، إلا أن الدافع عنده في حركته إلى ذلك يكمن في خصوص الغريزة، أما الإنسان فإن الذي يدفعه إلى ذلك مضافاً إلى الغريزة العقل، ومن المعلوم أن الطريق لتنميته لا يكون إلا من خلال التربية والثقافة والتفكير.
ولا ريب أن خير ما يتعلمه الطفل في الوسط الأسري، هو تعلم قوانين الحياة، والمجتمع، من فنون الآداب، وأساليب التعامل، والاهتداء إلى تحصيل المعرفة، والتوجه نحو طلب الرزق، وهكذا.
وبالجملة، إن الوجود العائلي، وجود أساسي بالنسبة للإنسان، لا يمكن أن يستغني عنه في أية مرحلة من مراحله تاريخه، لأن العامل العاطفي والإحساس الذي يحركه، ومنطق الأشياء هو الذي يدفعه للدخول في بناء العائلة وتثبيت أركانها.
ومع ما جرى على الوسط الحياتي من تغير نتيجة التقدم الحضاري، وتبدل المستوى المعيشي للأفراد، إلا أن المفهوم العائلي لم يتأثر بذلك، نعم قد وقعت بعض التغيرات في القيم والمفاهيم والتقاليد المرتبطة به. فلا زال الرجل هو صاحب الكلمة الأولى في هذا الوسط، وعلى الزوجة والأبناء الانقياد إليه والسير وفق أوامره.
ولم تكن العائلة على مرّ التاريخ بكيانها الموجود في الأمم السابقة تعيش تنظيماً وحفظاً لحقوق أفرادها، بل كانت السمة الموجودة فيها غالباً تسلط أحد الأطراف فيها على البقية، فكان الرجل يحمل طابع السلطة العليا، مع ضياع كافة الحقوق التي للمرأة، حتى أنها في بعض الأمم والحضارات ما كانت ذات احترام أو قيمة فضلاً عن أن يكون لها مكانة ورأي.
وقد جعل منشأ الاضطراب والخلل العائلي في الحضارات والأمم السابقة أمرين:
الأول: عدم كون الدين هو الحاكم لتلك الحياة العائلية، وإنما جعل النظام الذي يسيرها التجارب البشرية، فتخضع الحياة العائلية لمجموعة من التجارب البشرية المتلاحقة.
ومن الطبيعي جداً أن التجارب البشرية لا يكتب النجاح لها جميعاً، بل إن بعضها يكون عرضة للفشل وعدم النجاح، فيدفع الإنسان ثمن ذلك باهظاً في حياته الاجتماعية.
الثاني: إن الابتعاد عن أحكام الدين والشريعة، كانت بسبب وجود بعض الدوافع النفسية الخاصة، مثل هوى النفس، وحب الذات، وعبادة الشهوة، وهي أمور تفسد النظام الاجتماعي[1].
العائلة في الإسلام:
ولم يختلف الدين الإسلامي في نظرته للعائلة عن الحضارات السابقة، خصوصاً وقد عرفت أن هذا المفهوم من المفاهيم العقلائية، ولذا لا نجد للشرع الشريف تأسيساً جديداً فيه، بل قد سار على ما كان عليه العقلاء، ممضياً ما كان موجوداً عندهم، نعم قد أضاف إليه مجموعة من القوانين والضوابط والتي تكفل لهذا النظام النجاح والاستقرار، وتحقيق الأهداف الذي يشكل من أجلها.
وقد عرض القرآن الكريم نظريته في المفهوم العائلي وهي تقوم على توفر عنصرين أساسين:
الأول: مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة:
في مبدأ الحقوق، فكفل لكل واحد منهما حقوقه، ولم يسمح للطرف الآخر أن يتسلط عليه ليصادرها، لأنهما مخلوقان من مادة واحدة، قال تعالى:- (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ( [2]، وقد أكدت الآيات الشريفة هذا المعنى عند حديثها أن الذكر والأنثى سواء من حيث الآثار المترتبة على أداء الأعمال والطاعة لله سبحانه وتعالى، قال سبحانه:- (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ)[3]
وأن معيار التفاضل بينهما لا يكون إلا على أساس مبدأ التقوى قال تعالى:- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[4].
الثاني: مبدأ القانون الإسلامي:
وقد بناه الشرع الشريف على أمرين:
أحدهما: مبدأ الإدارة والتنظيم العائلي.
ثانيهما: القيام بالحقوق والواجبات. فلكل واحد منهما حقوق محفوظة، كما أن كل منهما مطالب بواجبات يلزمه أداءها والقيام بها، فهو لا يستحق شيئاً من حقوقه ما لم يقم بأداء ما عليه من واجبات ما يعني أن الحياة قائمة على مبدأ التعاون والتكافل في الاستحقاقات.
هذا ولسنا بحاجة للحديث عن العنصر الأول، فإن كل من له دراية بأطروحات الإسلام، وتشريعاته لا يتوقف للحظة في مصداقيته في هذا الجانب، وكيف أنه قد كفل الحق للطرفين، رجلاً كان أم امرأة، وعليه سوف نسلط الضوء على خصوص العنصر الثاني، وهو مبدأ القانون الإسلامي في الحياة العائلية، والأمران الذين يقوم عليهما، إذ أنهما يستفادان من قوله تعالى:- (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَالَّلاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا)[5]. قال السيد السبزواري(قده): بيان لأهم حكم نظامي، وقد صار مثلاً قرآنياً يتضمن حكماً تربوياً إرشادياً إلى النظام الأحسن، ومنه نظام العائلة والأسرة الذي نظم في الإسلام تنظيماً دقيقاً، وهذبت علاقاتها حتى تؤدي وظيفتها بأكمل وجه في المجتمع الإنساني[6].
مبدأ الإدارة والتنظيم العائلي:
قد عرفت في ما تقدم أن العائلة عبارة عن مؤسسة إنسانية، ومن الواضح جداً أن أي مؤسسة لا يمكنها أن تدير نفسها بنفسها، بل لابد لها من قيادة تتولى عملية الإدارة والتنظيم فيها، فلو لم يكن لها مسئول أو مدير وقائد، فسوف يؤدي ذلك إلى خلل فيها، وربما وقوع التناحر بين أفرادها، من هنا جاءت مسألة التنظيم والإدارة العائلية في القانون الإسلامي، وتحديد المسئول الذي توكل إليه هذه العملية، فكان مفهوم القوامة الذي ذكره القرآن الكريم، في الآية السابقة، وهذا يعني أن هذا المفهوم لا يعني الاستبداد والقهر، أو الإجحاف والعدوان على المرأة، بل المقصود منه كما عرفت الرئاسة، وجعل القيادة واحدة ومنظمة، بيد من يتحمل مسؤوليات العائلة.
ووفقاً لما ذكر، سوف يكون مبدأ القوامة بمثابة العمود الذي تتقوم العائلة به، كما أن فقدانه يؤدي إلى اختلالها، بل انفراط عقدها، وعدم تحقق الهدف الذي أسست من أجله.
الرجال قوامون على النساء:
ثم إنه بعد الفراغ عن بيان لزوم الحاجة إلى الناحية الإدارية والتنظيمية في الحياة العائلية، بقي تحديد من الذي يتولى هذه المسؤولية والقيادة، وقد أشارت الآية الشريفة إلى ذلك، عندما نصت على قيمومة الرجال على النساء، وقد صار هذا النص مادة دسمة لمن أراد النيل من قيم الإسلام ومبادئه، وحاولوا من خلاله رسم صورة مشوهة في تعاليمه تجاه المرأة.
وقد فات هؤلاء ما ذكر من هدفية القوامة، وبيان حقيقتها، ذلك أنك قد عرفت قبل قليل أنه لا يقصد منها أكثر من البعد الإداري والتنظيمي، وأنه لا ربط له بسلب الحقوق، أو السيطرة عليها، فلاحظ. مع أنه قد برر جعل القيومية للرجل ببعيدين، فسيولوجي، ونظمي.
أما الفسيولوجي، فبأنه يتمتع بخصوصيات معينة، مثل القدرة على ترجيح جانب العقل على جانب العاطفة والمشاعر، تعطيه القدرة على التفكير والتخطيط الجيد للعائلة، ومثل امتلاكه بنية داخلية وقوة بدنية أكبر، يستطيع بواسطتها الدفاع عن العائلة وحمايتها من كل خطر محدق بها.
وأما النظامي، فلأن الرجل هو الذي يتولى نفقات الأسرة ويقوم بها، سواء كانت نفقة الزوجة، أم كانت نفقة الأبناء.
ولا يعترض على ما ذكر من جعل القيمومة، بما يلحظ من نساء يمتلكن القدرة على تحقيق ذلك بصورة أفضل من أزواجهن، لأنه يدفع بأن القوانين الإلهية لا تسن على نحو الأفراد، وإنما تجعل على نحو القانون العام، أو الأعم الأغلب، فلاحظ.
وبالجملة، إن المقصود من القيمومة المجعولة للرجل، قيامه بتدبير شؤون الأسرة في النفقة والسكن، وتعليم الأولاد، وتربيتهم، وحمايتهم، ورعاية حقوقهم وأموالهم، وهكذا.
ومن الطبيعي أن هذا كله لا يعطيه حق الاستقلال بذلك عن المرأة، وإنما نقصد أنه حال حصول الخلاف والنزاع فإن الكلمة الفصل في ذلك تكون للرجل بمقتضى ما جعل له من سلطة تنظيمية وإدارية. نعم لابد وأن يكون ذلك كله في حدود الشرع، وثبوت المصلحة، وإلا فلا.
قال السيد السبزواري(قده): وذكر عز وجل أن هذه القوامة تتضمن من الأحكام والتبعات التي لابد من أن يكلف بها الأصلح من أفراد المجتمع، وليست هي قضية منافسة بين الرجل والمرأة، وجدال وصراع بينهما، كما تراه الجاهلية المعاصرة، فإن الإسلام إنما بنى العلاقات الاجتماعية على المودة والرحمة، لا على الشقاق والجدال[7].
القيام بالحقوق والواجبات:
ويظهر هذا الأمر من خلال تقسيم الآية الشريفة النساء إلى قسمين، وقد بنت هذا التقسيم على قيامهن بمسؤولياتهن وعدمه، فجعلت القسم الأول، لمن قامت منهن بمسؤولياتها، وأدت ما عليها من الواجبات، لتكون مستحقة للحقوق، بينما كان القسم الثاني يتعرض للاتي قصرن في أداء واجباتهن.
المرأة الصالحة:
وكيف ما كان، فأما القسم الأول، فقد ميزه الباري تعالى بسمات، وهي:الصلاح، والقنوت، والحفظ للغيب، والصلاح في الآية يفيد نفي الانحراف عنها، وهو عنوان عام لا ينحصر في خصوص الانحراف الجنسي كما لا يخفى.
والقنوت، هو دوام الطاعة والخضوع، الكاشف عن قيام الزوجة بمسؤولياتها، وأدائها لواجباتها المناطة بها في الوسط العائلي والأسري، فهي المرأة التي تؤدي كافة الحقوق الزوجية.
وحفظ الغيب فيها، لا يعني الإيمان بالقضايا الغيبية، فإن هذا ليس أمراً خاصاً بالنساء المتزوجات، بل هو قضية لازمة على كل مسلم ومسلمة، ما يكشف عن كون المقصود به في الآية معنى خاصاً، وهو حفظ الزوج في غيبته، ولا ينحصر ذلك بحفظه في بعدي الشرف والاقتصاد، من خلال حفظ المرأة نفسها عن الانحراف الجنسي، والخيانة له، أو من خلال تهاون المرأة في الإدارة المالية للأسرة، وتبذيرها لمقدراتها المالية، بل هو عنوان عام يشمل حتى الحفظ للحقوق الاجتماعية والمقامية للزوج، ما يعني أنه لا يسوغ للزوجة أن تتحدث عن الزوج في مجالسها الخاصة، سواء مع أسرتها، أو مع صديقاتها أو مع جارتها مثلاً، بما يكون مشيناً للزوج ومسقطاً لمكانته الاجتماعية، بأن تسمه بالبخل مثلاً، أو تصفه بالعصبية، أو تتحدث عن أنه شخص متهور، أو تقول عنه بأنه لا يحسن التصرف والتدبير، وأمثال ذلك من الأمور الموجبة لسقوطه في الوسط الاجتماعي.
وطبقاً للبيان السابق سوف تكون الآية الشريفة متضمنة لعرض صفات ثلاث للمرأة الصالحة، والتي يلزم توفرها فيها، ومن المحتمل قصر تضمنها على خصوص صفة واحدة، وهي الصلاح، وبالتالي يكون التعبير بالقنوت والحفظ بالغيب بيان لصلاحها، فيكون المقصود من الآية أنه لا تكون المرأة صالحة إلا إذا كانت مشتملة على هذين الوصفين.
وعلى أي المعنيين بني، فإن الآية الشريفة تتضمن الحقوق اللازم على الزوجة توفيرها كي ما تكون محلاً لاستحقاق الواجبات من الرجل، فتدبر.
ومن الطبيعي أن اللازم على الرجل تجاه هذا القسم من النساء التقدير والاحترام، وإعطاء جميع الواجبات المستحقة لهن، والآية القرآنية، وإن لم تتعرض لذلك، إلا أنه يفهم من خلال عرضها لما يلزم عمله من القسم الثاني من النساء، فلاحظ.
المرأة الناشز:
وقد جعل القسم الثاني للمرأة التي لا تقوم بمسؤولياتها الأسرية، فتقصر في أداء حقوقها الزوجية، أو لا تقوم بها أصلاً، وهذه التي يطلق عليها في المصطلح الفقهي بالمرأة الناشز، وهي كل امرأة خرجت عن حدود طاعة الزوج، وخالفت أوامره، وكل من لم تستقم مع زوجها في الأخلاق والمعاشرة.
ولا يحصل النشوز دفعة واحدة، بل له أمارت يظهر من خلالها، كأن تبدأ الزوجة في تغيـير عادتها التي كانت تستخدمها مع الزوج، فبعدما كانت تجيبه بكلام لين، أخذت تجيبه بكلام خشن، أو بعدما كانت تظهر له وداً صارت تلقاه بوجه عابس، وأخذت تقطب في وجهه، وتدمدم حال وجوده، وهكذا.
وقد ذكر أن للنشوز مراتباً يتحقق من خلالها، فيبدأ بالقول، والفعل حتى يصل إلى مرتبة شديدة تصل إلى عدم مراعاة حدود الله تعالى في الزوج.
وقد عرضت الآية الشريفة ميزاناً وقانوناً آخر لهذا القسم، يختلف عما قدم في القسم الأول، يلزم على الزوج تنفيذه تجاه هذا النوع من النساء، ويتمثل هذا القانون في ثلاثة أمور على نحو الطولية، فلا يصار إلى الثاني إلا بعد القيام بالأول، وهي فكرية، ونفسية وبدنية.
الأول: الموعظة:
وهو يمثل الناحية الفكرية، ذلك أن الزوج يعمد إلى تذكيرها بعذاب الله سبحانه وتعالى لكل امرأة آذت زوجها، وما تلقاه المرأة التي لا تقوم بحقوق الزوجية، وبيان ما تعطاه المرأة الصالحة المطيعة لزوجها من الأجر والثواب، وما تناله من التوفيق، وغير ذلك.
وبالجملة، تكون موعظتها من خلال عرض أسلوب الترغيب والترهيب، ومحاولة السعي إلى إيضاح ما هي عليه من الخطأ والاشتباه، ومحاولة ثنيها عما هي فيه.
الثاني: الهجران في المضجعة:
فإذا لم تنفع الموعظة والكلمة الحسنة معها، ينتقل إلى العمل بالأمر الثاني، وهو العنصر النفسي، بأن يهجرها في المضجع، ولا يذهب عليك أن هذا من العناوين المشككة التي تكون لها مراتب، يمكن للزوج أن يتدرج فيها وفقاً للحالة التي أمامه، فيبدأ بإعراضه عنها وقت المنام، وعدم إقباله عليها بوجهه.
وقد يتصور البعض أن ترك الحديث إليها، مع إقباله عليها بوجهه أثناء المنام يحقق عنوان الهجران في المضاجعة، وهو تصور خاطئ، والصحيح أن ترك الكلام لا يحقق الهجران، بل هو مضاجعة كما لا يخفى، خصوصاً عند التوجه إلى أنه قد يترك الزوج الكلام مع زوجته لداعٍ آخر غير الهجران من كسل أو نعاس أو ما شابه.
الثالث: الضرب:
وآخر مراحل العلاج هو الانتقال للعقوبة البدنية، ولا يصار إليه إلا بعد تعذر الصلاح من خلال الأمرين السابقين كما عرفت، ولا مجال للاعتراض عليه، بأنه كيف يدعو الإسلام لضرب المرأة وهو دين السلام، ودين احترام المرأة وتقديرها، فإنه يجاب عنه بما قرر في العلوم الحديثة من أن الضرب أحد الوسائل التأديبية والتربوية التي يصار إليها، بل قد حكي عن بعض علماء النفس أنه وسيلة علاجية لحالة مرضية تصيب بعض النساء تسمى المازوشية، فإن المرأة المصابة بها ترتاح عند ضربها.
ويلزم الالتفات إلى أن الشرع الشريف وإن أذن للزوج تأديباً للزوجة الناشز بضربها، إلا أنه قيد ذلك بعدم كونه مبرحاً، ولا موجباً لإيذائها.
وما تضمنه القانون القرآني بياناً لعلاج النشوز عند الزوجة، هو ما يفتي به الفقهاء، فقد ذكر المرجع الديني الأعلى للطائفة السيد السيستاني(أطال الله في بقائه): إذا نشزت الزوجة جاز للزوج أن يتصدى لإرجاعها إلى طاعته، وذلك بأن يعظها أولاً، فإن لم ينفع الوعظ هجرها في المضجع إذا احتمل نفعه، كأن يحول إليها ظهره في الفراش، أو يعتـزل فراشها إذا كان يشاركها فيه من قبل، فإن لم يؤثر ذلك أيضاً جاز له ضربها إذا كان يؤمل معه رجوعها إلى الطاعة وترك النشوز، ويقتصر منه على أقل مقدار يحتمل معه التأثير، فلا يجوز الزيادة عليه مع حصول الغرض به، وإلا تدرج إلى الأقوى فالأقوى ما لم يكن مدمياً ولا شديداً مؤثراً في اسوداد بدنها أو احمراره، واللازم أن يكون بقصد الإصلاح لا التشفي والانتقام[8].
مشاكل أسرية معاصرة:
هذا ووفقاً لوجود حالة النشوز التي تكون عند الزوجة، فإن ذلك سيكون سبباً إلى وجود الشقاق الأسري، والتمزق العائلي، وتطفو على السطح العديد من المشاكل الأسرية، والتي تزداد يوماً بعد آخر، حتى أنه قد أصبحت اليوم بمثابة الظاهرة التي يخشى على المجتمع منها، ومن المعلوم أن الحديث في هذا المجال سيال لتعدد المشاكل من ناحية، وتعدد الأسباب الموجبة لحصولها من ناحية، أخرى مضافاً إلى الحاجة لدراستها، ومحاولة الوصول إلى حلول ومعالجات تساعد على القضاء عليها، أو لا أقل من الحد من ازديادها. إلا أننا نسلط الضوء بصورة موجز على ظاهرتين:
الأولى: ظاهرة فقدان السعادة في الحياة العائلية والأسرية، إذ أننا نجد المثير من الأزواج ينفرون من أجواء الأسرة، ويطلبون السعادة خارج حدودها، فلا ترى الرجل يرغب الاستقرار في المنـزل، بل إنه يسعى جاهداً إلى أن يقضي أغلب أوقاته خارج عش الزوجية، وكأنه يرى أن وجودها فيه بمثابة إدخاله السجن الذي عليه أن يتخلص منه، ويتوسل بشتى الوسائل للخروج منه.
الثانية: ظاهرة انتشار الطلاق، وازدياد العدد بصورة مهولة وكبيرة جداً، ونحن لا ننكر أن الطلاق أحد الأحكام المشرعة من قبل الباري سبحانه وتعالى، وأنه أحد الحلول والعلاجات في بعض الموارد، إلا أننا نتحدث عن حالة الازدياد، والسرعة في وقوعه وكثرته، ومن الطبيعي أن لهذا أسباباً، لسنا بصدد تسليط الضوء ليها بأكملها، بل نقصر الأمر على ما يكون داخلاً تحت إرادتنا كما هو واضح.
أسباب الفشل في الحياة الأسرية:
لو أردنا أن نسلط الضوء على معرفة الأسباب التي تؤدي إلى فشل الحياة الأسرية، ما يوجب إما فقدان السعادة فيها، أو ما يؤدي إلى انهيارها بوقوع الطلاق، نجد أمامنا أسباباً عديدة، نشير لسببين منها:
الأول: الثقافة الخاطئة:
إذ أن الغزو الثقافي والفكري الذي يعانيه المجتمع جعل الثقافة الموجودة عند الفتيات غالباً ثقافة مستوردة، يتحصلن عليها من خلال متابعتهن للمسلسلات التلفزيونية، والتي تعرض مفاهيم خاطئة لا تتناسب والقيم والتعاليم الدينية من جهة، أو تعرض قصصاً غير واقعية يحوكها خيال كاتب، أراد أن يشغل مساحة على الشاشة الفضية.
ولا ينحصر الأمر في خصوص ما ذكر، بل إن عرض الثقافة الدينية بصورة خاطئة كان سبباً في حصول هذه المشاكل، فإن قصر بعض الخطباء الحديث على بيان عدم وجوب قيام المرأة بالطهي والغسيل في الوسط الأسري مثلاً، دعى أن تتمرد الكثير من الفتيات على ذلك، وفات هذا المتحدث أنه لا يجب على الزوج أيضاً أن يبذل للزوجة نفقة ماء غسلها من حيضها أو جنابتها، فهل نتصور أن تدفع الزوجة مقابلاً لتغتسل من الجنابة أو الحيض، أو لتتطهر للصلاة؟! وغير ذلك من المفاهيم التي تعرض بصورتها القشرية، ويفوت هؤلاء التوجه إلى النصوص الشريفة التي تحث على البعد الأخلاقي والتربوي في العلاقة الأسرية، ذلك أننا عندما نتأمل في النصوص التي تتعرض للحديث عن صبر الزوجة مثلاً على أذى زوجها، لا نحصر الفهم فيها على المعاناة في جانب الضرب، بل إننا نتعدى لنفهم منها صبرها على جشب العيش وخشونة الحياة، وحبذا لو أن هؤلاء المتحدثين عن هذه الأمور ركزوا على ذكر النصوص التي تظهر ما للزوجة من أجر وثواب جراء قيامها بخدمة زوجها وأبنائها، كما يعرضون أيضاً ما يكون للزوج من ذلك في هذا المجال.
وبالجملة، إن هذا العرض المجرد من قبل بعض هؤلاء الذين يرغبون أن يطلق عليهم عنوان التجديد من جهة، أو يعبر عنهم بأنهم أنصار المرأة أوجد العديد من المشاكل في الحياة الأسرية، وكان سبباً أساسياً لتمزقها وانهيارها.
ولهذا كلنا أمل ممن يود الحديث عن هذه الموضوعات أن يشير إلى الأبعاد الأخلاقية والمعنوية التي تترتب على قيام كل من الزوجين تجاه الآخر.
الثاني: فقدان الموجه:
ذلك أنه لم يعد للأب اليوم دور في عملية انتخاب الزوج لابنته، بل المعروف أنه تتم جميع العملية المتعلقة بالخطبة والانتخاب بعيداً عنه، ولا يكون له في الختام إلا الدور الشرفي، عند اللقاء للاتفاق على بعض الحيثيات والتفاصيل لو لم يتم الاتفاق عليها مسبقاً في الوسط النسائي، ومن الطبيعي أن لا تكون النساء على دراية وإحاطة كاملة بالشخص المتقدم، فقد يكون هذا الشاب متديناً لا ينقطع عن المسجد مثلاً، إلا أنه سيء الخلق مع أبويه، أو مع أخوته وأخواته، وقد يكون هذا الشخص بخيلاً، كما ربما يكون شخصاً غير منضبط مع زملائه في العمل، كل هذه الأمور لا يمكن للنساء أن يطلعن عليها، ما يعني أنها مسؤولية الأب، وأنه هو الذي يلزمه أن يقوم بمتابعة هذه الأمور كلها، وأن يحيط بها ومن ثم يقرر أهلية هذا المتقدم لابنته، من عدمه.
ولا ينحصر غياب دور الأب في بداية الحياة الزوجية، بل يتعدى ليكون دوره سلبياً أيضاً عندما تأتيه ابنته تشتكي زوجها، فعوضاً عن أن يقوم بمحاولة الإصلاح والتوجيه، ويسعى لحل المشكلة نجده يتعصب لابنته وإن لم تكن محقة، ويعمد إلى تقوية شوكتها على زوجها، ويغفل عن أنه قد يكون سبباً في انهيار حياتها، ودمارها.
حلول مقترحة:
لا ريب أنه لا يمكننا أن نقدم حلولاً كافية في هذه العجالة، بل إننا نعتقد أن كل قضية وحادثة قد تحتاج حلاً مستقلاً يختلف عن القضية الأخرى، إلا أننا ومن خلال ما نصت عليه الشريعة السمحاء، يمكن أن نستخلص أموراً موجزة تعين كثيراً على توفير الاستقرار الأسري، والجو العائلي السعيد:
منها: اتخاذ العدل والإحسان والتقوى مبدأ تقوم عليه الحياة الأسرية، سواء من طرف الزوج، أم من طرف الزوجة، فيراقب كل واحد منهما نفسه وفقاً لهذا الميزان، وهو الذي نصبه الشرع الشريف، وتقاس المسؤوليات وأدائه عليه.
ومنها: الصبر من كلا الزوجين على الآخر، ذلك أن هذه علاقة جديدة تنشأ بين طرفين بينهما عادات مختلفة، وأساليب تفكيرية متغايرة، فمن الطبيعي جداً أن لا يكون الانسجام متحققاً بينهما سريعاً بل يحتاج وقتاً، فيلزم من كل واحد منهما أن يصبر على الآخر، بل حتى مع تطاول الأيام يحسن بالزوجة والزوج الصبر على الآخر، حتى تستمر هذه الحياة، وقد تضمنت النصوص الحديث عن ثواب من صر على أذى الآخر.
ومنها: العفاف بين الطرفين، ولا ينحصر في خصوص البعد الطبيعي المرتبط بالعلاقة الطبيعية بينهما، بل حتى في التعامل، فيعف الزوج لسانه عن السباب والشتم، والكلمات النابية، كما تعف الزوجة لسانها عن ذلك، ويعف الزوج يده عن الإساءة للزوجة، فضلاً عن ضربها، كما تعف الزوجة يدها عن ذلك، وهكذا.
[1] الأخلاق القرآنية ج1 ص 129-138(بتصرف).
[2] سورة آل عمراة الآية رقم 195.
[3] سورة النحل الآية رقم 97.
[4] سورة الحجرات الآية رقم 13.
[5] سورة النساء الآية رقم 34.
[6] مواهب الرحمن ج 8 ص 174.
[7] مواهب الرحمن ج 8 ص 174.
[8] منهاج الصالحين ج 3 مسألة رقم 353.