أهداف حركته ونهضته:
هذا ولنختم الحديث في هذه الدراسة الموجزة حول شخصية المختار الثقفي، بالتعرض للأهداف التي دعته إلى القيام بحركته، وهل أنها منحصرة فقط في خصوص طلبه الثأر من قتلة الإمام الحسين(ع) أم أن له أهدافاً أخرى؟
ولا يخفى انه يحسن أن يتعرض أيضاً إلى أن هذه الحركة هل كانت مباركة من قبل الإمام المعصوم(ع)، أم أنها لم تكن مؤيدة من قبله.
قد يتصور الكثيرون أنه لم يكن للرجل إلا هدف واحد، وهو الأخذ بثأر الإمام الحسين(ع) من قاتليه، ولذا قد تتبعهم وراء كل حجر ومدر، حتى ظفر بمن ظفر به منهم، وقام بالانتقام منه. إلا أن الرجوع للمصادر التاريخية يجد ذكر المؤرخين لأهداف أخرى غير هذا:
الأهداف الشخصية التي سعى لتحقيقها:
وهو ما يعبر عنه في كلمات بعض المؤرخين بالجانب النفسي الذي كان يعيشه المختار، وقد برر ذلك برغبيته الانتقام من عبيد الله بن زياد، عندما قام بضربه على وجهه وشتر عينه، بل زاد ابن زياد في إهانته عندما أمر مضافاً لذلك بحبسه. على أن رغبية ابن زياد كانت في قتله، لكن حال بينه وبين تحقيق هذه الرغبة بعض الظروف.
وقد يمنع البعض من أن تكون هذه الحركة وهذا العمل الكبير الذي قام به المختار غايته الانتقام من عبيد الله ابن زياد فقط، إذ لا يتصور أنه كان يهدف لهذا، على أنه لو كان راغباً في ذلك لانتفى بالنيل منه.
ويبدو أن عبيد الله ابن زياد لم يكن العنوان الأساس الذي قصده المختار للانتقام لنفسه، فإنه لم يكن يرى ابن زياد إلا واجهة لما وقع عليه نتيجة التسلط الأموي على الأمة، فهو كان يهدف إلى سلطان بني أمية، وهذا لا يعني أن رغبته في إزاحة هذا الملك تعني عدم وجود رغبة شخصية.
وبكلمة أخرى، لقد كان المختار يرى أن الإهانة التي وقعت عليه مصدرها الحكم الأموي، والذي طبق تلك الإهانة عاملهم عبيد الله بن زياد، وعليه فإذا أراد الانتقام فلابد وأن يكون من المصدر الأصل وهم الامويون، ويصيب عاملهم ما يصيبهم من أذى وانتقام.
ويتأكد الأمر في كون الرجل كان يسعى للتشفي والانتقام، ما ذكره المؤرخون من عملية التمثيل والتنكيل بمن يظفر به وإن كان مشاركاً في قتل الإمام الحسين(ع)، فإن هذا يؤكد رغبته في الانتقام، وأن ذلك كان أقرب إلى رد اعتبار النفس، وليس طلباً للثأر، إذ أن طلب الثأر يجعل العمل مقدساً يتوخى فيه قدر المستطاع البعد الديني، ومراعاة الضوابط الشرعية، على أن المنقول في هذا المقام، لا ينسجم والبعد الإنساني، فضلاً عن البعد الديني، فتأمل.
حب الملك والسلطة:
ولا يختلف اثنان في رغبية المختار في تحصيل الملك والسلطة، وأنه قد سعى إلى ذلك بقوة عازماً الوصول إلى ذلك. نعم قد يختلفون في أن الحصول عليها هل كان هدفاً أساسياً، أم أنه كان وسيلة سوف يسعى من خلاله تحقيق الأهداف التي أراد.
ولا يخفى مدى الفرق بين الأمرين، ضرورة أنه لو كان الملك هدفاً أساسياً، فلا ريب أن ذلك سوف يجعل الرجل من أهل الدنيا، وأبعد ما يكون من تصوير له في الوسط الشعبي. بخلاف ما لو كان الملك وسيلة سوف يسعى من خلالها لتحقيق الانتقام من قتلة الإمام الحسين(ع)، والطلب بثأره.
والذي يستفاد من المصادر التاريخية كتاريخ ابن أعثم، وما نقله من حوار بين الممختار وابن الزبير، وطلبه أن يستخلفه على أجل أعماله متى أظهره الله على يزيد، وتبريره هذا الطلب لكي يرد على أهل بيته شيئاً، صريح في كون السلطة كانت هدفاً له وليست وسيلة. بل تضمنت مصادر أخرى تصريحه بذلك كونه رأى الجميع يسعى إلى الملك، وإنما أمتاز هو عنهم بأنه قد طلب بثأر الإمام الحسين(ع)، فقد ذكر الطبري: إنما أنا رجل من العرب رأيت ابن الزبير انتزى على الحجاز، ورأيت نجدة انتزى على اليمامة، ومروان على الشام، فلم أكن دون أحد من رجال العرب فأخذت هذه البلاد فكنت كأحدهم، إلا أني طلبت بثأر أهل بيت النبي(ص) إذا نامت عنه العرب[1]. فإن الذين ذكروا في كلامه لم تكن السلطة لهم وسيلة، بل كانت هدفاً وغاية، وهو يقارن نفسه بهم، ويذكر أن دواعيه فيها هو نفس دواعي هؤلاء، إلا أنه قد أمتاز عنهم بما ذكر.
ويجد القارئ نصاً تاريخياً صريحاً في نفي هدفية الثأر، وأنه قد جعله وسيلة لتعيـين هدفية السلطة في حركته، فقد ذكر الدينوري في الأخبار الطوال: …فقال(المختار)للسائب بن مالك الأشعري، وكان من خاصته: أيها الشيخ اخرج بنا نقاتل على أحسابنا لا على الدين، فاسترجع السائب، وقال: يا أبا إسحاق لقد ظن الناس أن قيامك بهذا الأمر دينونة. فقال المختار: لا، لعمري ما كان إلا لطلب دنيا، فإني رأيت عبد الملك بن مروان قد غلب على الشام، وعبد الله بن الزبير على الحجاز، ومصعباً على البصرة، ونجدة الحروري على العروض، وعبد الله بن خازم على خراسان، ولست بدون واحد منهم، ولكن ما كنت أقدر على ما أردت إلا بالدعاء إلى الطلب بثأر الحسين[2].
إعطاء المكانة الاجتماعية والسياسية للموالي:
لقد استغل المختار وجود الموالي في الكوفة وبكثرة، في تقوية حركته، واستغل حالة الإهمال والتهميش التي عاشها هؤلاء من قبل الأمويـين، فقربهم إليهم، وسلمهم مناصب قيادية، وأوجد لهم أبعاداً اجتماعية وسياسية، وهو بهذا استطاع أن يحرك مشاعرهم تجاه عندما أعطاهم كرامتهم المفقودة، ما جعلهم يرون في الرجل المنقذ الحقيقي لهم في الحصول على حقوقهم المسلوبة.
وقد مثل الموالي بعد ذلك القوة العظمى في جيش المختار، واستفاد منهم كثيراً في الحصول على أهدافه، وهذا يوحي أن المختار لو كانت أهدافه واضحة المعنى لدى العرب الكوفيـين، لما كانوا يتركون الانضمام إلى حركته، كيف وقد عرفت الكوفة من الأصل بتشيعها لأهل البيت(ع)، وقد كانوا يرغبون في الانتقام من قتلة الإمام الحسين(ع)، والطلب بثأره.
وبالجملة، إن المختار قد عمد إلى الاستفادة من هؤلاء تقوية لسلطته، وتأكيداً لملكه، وكأنه عقد وإياهم صفقة رابحة أن يؤيدوه ويساندوه، وهو سوف يعطيهم ما افتقدوه من حرية وكرامة، ولهذا كافئ كل من قاتل معه منهم بالحرية، وهكذا.
طلب الثأر من قتلة الإمام(ع):
وقد اشتهر أن هذا هو الهدف الأساس الذي قام من أجله المختار بحركته، وقد عرفت مما تقدم أنه طريق لتحقيق الهدف المنشود أو الأهداف المقصودة، ويمكن عدّه أيضاً هدفاً مقصوداً له، لكنه ليس في مقدمة الأهداف، فيلتـزم بأن الأهداف المقصودة إليه لم تكن على مستوى واحد، وإنما بينها طولية، ويأتي هذا الهدف في المستوى الثاني أو الثالث مما كان يقصده.
مع أن الرجوع للتأريخ يثير حول جعل هذا الأمر هدفاً واضحاً له عدة تساؤلات، على رأسها:
ما هو السبب الذي منع المختار من الاشتراك في حركة التوابين، التي قام بها رؤساء الشيعة الخمسة، وعلى رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي، على أن بعضهم يعتبر أحد أسباب فشل هذه الحركة وعدم توفقها لتحقيق هدفها المنشود كان المختار نفسه.
والتساؤل الآخر، هو موقف المختار من مسلم بن عقيل لما جاء سفيراً للإمام الحسين(ع) في الكوفة، فإنه لم يشترك في الدفاع عنه.
والتبرير بكونه كان خارج الكوفة كما تضمنته مصادر عدة، لا ينفي السؤال، بل يأتي بسؤال آخر، كيف يترك المختار الكوفة وهي تمر بهذه النقلة النوعية، والمرحلة المهمة، وكيف يخرج في ظل هذه الظروف المهمة والحرجة جداً؟
ومجمل القول، أن ما لا يمكن إنكاره قيام الرجل بالثأر لقتل الإمام الحسين(ع)، وقد عرفت أن النصوص الشريفة نصت على ذلك، إلا أن عدّ ذلك هدفاً أساسياً ومطلباً أولياً، ليس من الوضوح بمكان، كيف وقد عرفت وجود تساؤلات مثارة.
شرعية حركته ودولته:
بقي أن نشير في الختام إلى مدى شرعية الحركة التي قام بها المختار، وهل أنها كانت مؤيدة من قبل الإمام السجاد(ع)، أم أنها لا تختلف عن بقية الثورات الأخرى، وأنها كانت تفتقد إلى الشرعية؟
أختار المحقق المامقاني(قده) شرعية حركته وحكومته، وأنه قد رخص له في ذلك من قبل الإمام علي بن الحسين(ع)، واستشهد لذلك:
1-بخبر ابن نما
2-رضا الأئمة الأطهار(ع) بأفعاله من قتل من بني أمية وسبيهم، وأسرهم، ونهب أموالهم، وتشكرهم(ع) لفعله وتجزيته خيراً، والترحم عليه[3].
وقد عنى بخبر ابن نما، ما نقله شيخنا غواص بحار الأنوار(ره) عن كتاب ابن نما: أنه اجتمع جماعة قالوا لعبد الرحمان بن شريح: إن المختار يريد الخروج بنا للأخذ بالثأر، وقد بايعناه ولا نعلم أرسله إلينا محمد بن الحنفية، أم لا، فانهضوا بنا إليه نخبره بما قدم به علينا، فإن رخص لنا اتبعناه وإن نهانا تركناه، فخرجوا وجاؤا إلى ابن الحنفية-إلى أن قال-فلما سمع-ابن الحنفية-كلامه_عبد الرحمان-وكلام غيره حمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي، وقال: أما ما ذكرتم مما خصنا الله فإن الفضل لله يعطيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وأما مصيبتنا بالحسين فذلك في الذكر الحكيم، وأما الطلب بدمائنا قوموا بنا إلى إمامي وإمامكم علي بن الحسين، فلما دخل ودخلوا عليه، أخبر خبرهم الذي جاؤا لأجله، قال: يا عم، لو أن عبداً زنجياً تعصب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد وليتك هذا الأمر فاصنع ما شئت، فخرجوا وقد سمعوا كلامه، وهم يقولون: أذن لنا زين العابدين(ع)، ومحمد بن الحنفية[4].
والإنصاف، عدم وضوح الأمرين الذين جعلا دليل الشرعية، لما عرفت في ما سبق عدم دلالة الثاني على أكثر من الدعاء، فكيف يستكشف منه الرضا بالعمل. ومع التسليم بكاشفيته عن الرضا بالفعل، إلا أن ذلك من الرضا المتأخر، وأين هذا من كونه يفيد الإجازة.
وأما خبر ابن نما، فقد نقل في كتابه أنه رواه عن والده، ومن قبله نقل عين الخبر من دون أن يكون مشتملاً على الزيادة التي استشهد بها، وهي قيام القوم مع ابن الحنفية إلى الإمام زين العابدين(ع). مع أننا لو سلم وجوده، فإن الإمام(ع) أوكل الأمر إلى عمه، لا أنه(ع)أجاز القيام والحركة.
وممن ألتـزم بشرعية حركة المختار أيضاً الإمام الخوئي(ره) فقد أشار إلى أن خروجه كان مرضياً عند الله سبحانه وتعالى ورسوله والأئمة الأطهار(ع).
وقد استند في ذلك إلى:
1-ما أخبره به ميثم عندما كان معه في سجن عبيد الله ابن زياد، من أنه سوف يفرج عنه، ويخرج ثائراً بدم الحسين(ع).
2-إن الذين خرجوا عليهم المختار كانوا في أعلى درجات النصب، الذي هو أعظم من اليهودية والنصرانية.
3-خبر ابن نما المتقدم[5].
ولا يختلف حال ما استند له سيدنا الخوئي(قده) عما ذكره المحقق المامقاني(ره)، فنصب الأمويـين، وأتباعهم، وأنهم أعظم من اليهودية والنصرانية، لا يفيد شرعية الحركة التي قام بها المختار. إلا أن يكون مراده(قده) أن هذا يعطي أذناً عاماً بالإقدام على قتل من كان متصفا بذلك، ولا أظنه يلتـزم بهذا.
وحال خبر ابن نما قد عرفت، فقد ذكر أن محل الاستشهاد هي زيادة منحصرة في ما رواه عن أبيه، ولا توجد في غيره من المصادر، وهذا ما يمنع من حصول الوثوق، والاطمئنان به.
ويبقى الأمر الأول، ولعله(قده) يريد أن هناك إذناً من أمير المؤمنين(ع)، عندما أخبر ميثماً بشيء من الملاحم المستقبلية، وكان هذا الأخبار بما سوف يجري يفيد رضاه(ع)، عند ذلك وإذنه في القيام فيه، وهو بعيد جداً عن ظاهر الخبر. بل إن الخبر لا يتضمن أكثر من إخبار ميثم المختار بأنه سوف يفرج عنه وأنه سيطلب بدم الإمام الحسين(ع)، فقد جاء فيه: فحبسه وحبس معه المختار بن أ[ي عبيدة، قال له ميثم: إنك تفلت وتخرج ثائراً بدم الحسين(ع)، فتقتل هذا الذي يقتلنا، فلما دعا عبيد الله بالمختار…ألخ..[6].
وبالجملة، ليس في أيدينا ما يساعد على أن الحركة التي قام بها المختار قد لقيت مباركة من إمام عصره(ع)، بل قد سمعت في النصوص السابقة امتناعه(ع) قبول هداياه، ما يعني عدم رضاه، ولا أقل من توقفه في حركته، فلاحظ[7].
[1] تاريخ الطبري ج 6 ص 107.
[2] الأخبار الطوال ص 280.
[3] تنقيح المقال ج 3 ص 206.
[4] بحار الأنوار ج 45 ص 365.
[5] معجم رجال الحديث ج 19 ص 109.
[6] معجم رجال الحديث ج 20 ص 111.
[7] يمكن للقارئ العزيز ملاحظة النصوص التي ذكرناها مادحة وذامة في شأن المختار في كتاب اختيار معرفة الرجال ج 2 ص 207.