نتفق جميعاً على ضرورة امتلاك كل واحد منا ثقافة فقهية ترتبط ببيان ما يحتاج إليه في الجانب الديني، سواء في الناحية العبادية، أم الناحية المعاملاتية بكافة نواحيها، خصوصاً إذا توجهنا إلى ما ينص عليه علماء السير والسلوك من أن أحد القنوات المؤدية للوصول إلى الله سبحانه وتعالى ونيل القرب منه، معرفة المكلف وإحاطته بالشأن الديني، وما يحتاج إليه في المجال الفقهي.
ولا يختلف اثنان-في الجملة-في شعور شبابنا المؤمن بأهمية هذا الجانب، واعتنائهم به، إلا أن ما يلحظ على تلك الثقافة الموجودة عند بعضهم غلبة العنصر السماعي عليها عوضاً عن الجانب المقروء، بمعنى أن الغالب في ثقافتهم الفقهية كونها ثقافة مسموعة، وليست ثقافة مقروءة، ومصدرها يتحدد في جهات معينة، يمكن حصرها في الغالب في التالي:
1-المساجد، نتيجة ما يلقى فيها من بحوث ليلية، أو أسبوعية، أو بأي صورة أخرى، وإن كانت تعاني من قلة الحضور، وعزوف الشباب عن الاستفادة منها.
2-المنابر، ونعني بها المنابر الحسينية، ويغلب أن يكون لعرضها الثقافة الفقهية مواسم خاصة تبرز فيها هذه الناحية بصورة أكثر من بقية الأوقات الأخرى، كأيام شهر رمضان المبارك على سبيل المثال.
3-بعض المحاضرات التي تلقى بين فينة وأخرى والندوات التي تعقد وما شابه.
4-محاولة تحصيل المسألة الفقهية بصورة شخصية من خلال الرجوع لأحد المختصين، كالاتصال به هاتفياً، أو اللقاء به شخصياً في أحد الأماكن العامة، أو الخاصة، وهكذا.
ورغم اتفاق الجميع على أن الثقافة السماعية ليست بالثقافة الدقيقة بصورة تامة في هذا المجال، لما يحتمل فيها من الاشتباه والخطأ، سواء من الملقي نفسه، إذ ربما يواجه الخطأ في النقل فضلاً عن الفهم، أم من المتلقي، لاحتمال عدم استيعابه ما يلقى إليه، فضلاً عن خطأه في فهمه، هذا بعد عن كونه قد استمعه، ولم يكن غافلاً عنه.
ولحاصل، إن الثقافة المسموعة ليست بمستوى الدقة التامة التي تجعل المكلف يعتمد عليها اعتماداً كلياً، ويكتفي بها عن الثقافة المقروءة في تحصيل الثقافة الفقهية، مع كون هذا هو حالها.
وعلى أي حال، ما يعنينا في البين، هو محاولة السعي لمعرفة السبب الموجب لاقتصار الفئة الشبابية من أبنائنا في ثقافتهم الفقهية على البعد السماعي، وعدم إقدامهم على البعد المقروء في تحصيل هذه الثقافة. مع أننا نجد أنه لا يوجد بيت من بيوتنا إلا وتوجد فيه الرسالة العملية، بل ربما وجد في البيت الواحد نسخاً متعددة لها، بل ربما لو كانت للفقيه أكثر من رسالة، تتفاوت من حيث الاختصار والتوسعة، فإننا نجدها جميعها موجودة فيه، فضلاً عن الاستفتاءات الخاصة والتي تكون بصورة السؤال والجواب. ومع كل ذلك نجد أن شبابنا وبمجرد أن تعترضهم مسألة فقهية لا يعمدون للرجوع للرسالة الموجودة في متناول أيديهم، بل يعمدون لسماع جوابها من خلال أحد الأشخاص المختصين في ذلك، بالاتصال به أو ما شابه.
منشأ عدم التعامل مع الرسالة العملية:
ونعود لنسأل: ما هو السبب المانع لهؤلاء الشباب مع ما هم عليه من المؤهل العلمي والمستوى الدراسي، لكون أغلبهم شباباً جامعياً، بل وفي أعلى مستويات الدراسة الأكاديمية، إذ هم ما بين طبيب، أو مهندس، أو معلم، لا يرجعون للرسالة العملية بأنفسهم للتعرف على حكم المسألة التي اعترضتهم، وما هو المانع لهم عن ذلك؟
يمكننا أن نعرض في البين عنصرين رئيسيـين، قد يكونا السبب في ذلك:
الأول: الإحجام عن القراءة، وعدم الرغبة فيها بما في ذلك المجالات الفكرية، والثقافية العامة، فما بالك بالمجال الفقهي.
الثاني: عدم ثقة المكلف في قدرته على استيعاب الرسالة العملية، بل اعتقاده عدم قدرته على فهمها، وقد يساعده على ذلك كثرة سماعه كلاماً من قبل المختصين في هذا المجال من أن الرسائل العملية لم تكتب من أجل عامة المكلفين، وإنما كتبت من أجل الفقهاء والمجتهدين، وأنه لا يملك كل أحد القدرة على فهمها، فضلاً عن الإحاطة بدقائقها وموضوعاتها[1].
وقد لا يكون للسبب الأول كثير أولوية في المقام، لأنه لا يختص بهذا المجال، بل هو جارٍ بصورة عامة في أمور أخرى، مع أنه يمكن القول أنه في خصوص هذا المجال لا يعدّ مانعاً خصوصاً مع الالتفات والتوجه إلى أهمية الثقافة الفقهية ومدخليتها في المجال الحياتي اليومي للمكلف، مما يحدو به لتحصيلها، وبالتالي قد يعمد للقراءة فيها دون غيرها من المجالات.
إلا أننا نتصور أن السبب الثاني يعدّ المانع الأساس، ولا أقل الأكثر في هذا الجانب من السبب الأول، وهذا يعني أن هناك ثقافة مضادة تزرع في الوسط الشبابي تحضر عليه الاستفادة من الرسالة العملية بصورة مقروءة، وتساعده على حصر ثقافته في خصوص البعد السماعي، مع ما فيه مما تقدمت الإشارة إليه.
لنقرأ الرسالة العملية:
وعلى أي حال، أياً ما كان الموجب والداعي لإحجام الفئة الشبابية من أبنائنا عن التعامل والتعاطي مع الرسالة العملية من خلال قراءتها، ولا أقل محاولة قراءتها والعمد إلى فهم ما جاء فيها، والقيام بتحصيل المكلف جواب المسألة التي تصيبه منها، دون حاجة منه للرجوع في كل مسألة مسألة إلى أهل الاختصاص، فإننا نتصور أن الطريق لحصول الثقافة الفقهية المقروءة يتحقق من خلال الإحاطة بمفاتيح الرسالة العملية، بحيث يمكن للمكلف متى ما أصابته مسألة ما من المسائل أن يتمكن من الوصول إلى جوابها بنفسه ومن خلال مراجعته للرسالة العملية، دون رجوع منه للمختصين[2].
تحصيل المسألة من الرسالة العملية:
ولنوضح ذلك بمثال: لو أن شخصاً سافر إلى مدينة الرياض، وكان يعمل أساساً في السفر، ويقطع في كل يوم مسافة شرعية امتدادية، فما هي وظيفته والحال هذه، هل يصلي في الرياض تماماً لانطباق عنوان كثير السفر عليه، أم يصلي قصراً، لعدم صدق عنوان كثير السفر عليه؟
من الطبيعي لو أراد المكلف أن يجيب على هذه المسألة من خلال قراءته للرسالة العملية، فأول ما ينبغي عليه فعله هو الرجوع للباب الذي تقع المسألة الفقهية فيه، لأن الفقهاء وكما نعلم قد وضعوا الرسالة الفقهية على شكل أبواب، فجعلوا لكل باب من أبوابها عنواناً معيناً، أدرجوا تحته أغلب المسائل المرتبطة به، فهناك باب الطهارة، وهناك باب الصلاة، وهناك باب الصوم، وهناك باب الخمس، كما أن الباب الواحد ربما كانت تحته فصولاً، فهناك فصل أجزاء الصلاة، وهناك فصل صلاة الجماعة، وهناك فصل صلاة المسافر، هكذا.
وعليه فعندما يود المكلف أن يعرف حكم مسألته التي عرضنا، عليه أن يرجع لكتاب الصلاة، فصل صلاة المسافر من الرسالة العملية، وعندما يعود لهذا الفصل، يجد أن الفقهاء قسموا هذا الفصل إلى أقسام، فهناك شرائط التقصير، وهناك أحكام عامة عن السفر، وصلاته، وهكذا، وبالتالي عليه أن يحدد أن مسألته ذات ارتباط بشرائط التقصير، أم أنها ترتبط بالمسائل والأحكام العامة المرتبطة بصلاة المسافر، أم غير ذلك مما له ربط بفصل صلاة المسافر.
إن النظر الأولي يكشف عن أن هذه المسألة مرتبطة بالشروط المعتبرة لتحقق التقصير، وعليه فعندها يحتاج المكلف إلى أن يراجع تلك الشروط، ليعرف في النهاية حكم مسألته، وأنه هل ينطبق عليه عنوان كثير السفر، أم أنه لا ينطبق عليه ذلك، وهكذا في كل مسألة تصيبه عليه أن يلاحظ هذا الجانب، ويعمد إلى التعاطي مع المسألة بهذه الكيفية.
والحاصل، إن أول ما يحتاج إليه المكلف في قراءته للرسالة العملية عندما يود التعامل عها الإحاطة الإجمالية بالهيكلية التنظيمية للرسالة العملية، وأنها بأي نحو وضعت، وما هي الأسس الأولية التي صيغت على وفقها، فيعرف أنها عبارة عن أبواب متعددة وضع لكل باب منها عنوان، وقد نشأ عنوان الباب لكونه يمثل فرعاً من فروع الدين، أو لكونه يمثل جانباً من جوانب المعاملات الحياتية اليومية للإنسان، وكل باب من تلك الأبواب تحته فصول، وهكذا، وهذا ما يمكن أن يعبر عنه اليوم في الأسلوب الأكاديمي بالتشجير في مقام العرض.
التفريق بين الحكم والموضوع:
هذا وبعد الفراغ عن تحديد موضع المسألة الفقهية التي أصابت المكلف، وقدرته على الوصول إليه، يحتاج أن يتوجه للمفتاح الثاني من مفاتيح الرسالة العملية ليتمكن من قراءتها، ويتمثل في معرفته إلى ما تنقسم له المسألة الفقهية، إذ أنها تنقسم إلى شيئين، وهماك
1-الحكم.
2-الموضوع.
ولا يتحقق ذلك إلا بمعرفته بالمقصود بكل واحد منهما، وما هي وظيفته تجاه كل منهما، وهل أنه يتبع الفقيه في كليهما، أم أنه إنما يتبعه في أحدهما دون الآخر، أو أنه لا يتبعه في شيء منهما أصلاً.
ونقصد بالحكم هو أحد الأحكام الشرعية الخمسة المعروفة، الوجوب والاستحباب، والحرمة والكراهة، والإباحة، فمتى ما انطبق واحد منها على شيء خارجاً عبرنا عن ذلك بالحكم الشرعي، مثلاً عندما نقول: الغناء حرام، فإننا نقرر أن هذا حكم شرعي، لأنه قد انطبق عنوان الحرمة على شيء خارجي، وعندما يقال: الصلاة واجبة، فإن هذا حكم شرعي، لأنه تضمن الوجوب.
ويقابله الموضوع، ونقصد به ما يقع الحكم الشرعي عليه، ففي مثالنا الأول، عندما قلنا الغناء حرام، قد جعلنا الحكم منصباً على عنوان الغناء، ولذا يعبر عن الغناء بالموضوع، لأنه ينصب الحكم الشرعي عليه، فلابد من معرفة الغناء الذي وصف بكونه محرماً، وتحديد ما هو.
ومن الطبيعي أن معرفة المسألة الشرعية والإحاطة بها من خلال الرسالة العملية لن تحصل ما لم يتمكن المكلف من التفريق بين هذين الأمرين، بين الحكم والموضوع، وقد أوضحناهما بصورة موجزة.
انقسام الموضوع:
وبعدما عرفنا الموضوع، نحتاج أن نعرف وظيفتنا تجاههه، فهل يجب علينا أن نكون فيه مقلدين للفقيه، وهذا يعني أنه لابد من إحراز الموضوع من خلال الرسالة العملية، وعليه فالفقيه هو الذي يتولى تحديد الموضوع بالنسبة إلينا، أم يختلف الأمر، فليس للفقيه مدخلية في ذلك، أم في البين تفصيل؟
اختلاف طلبة العلوم الدينية في بيان المسائل الشرعية:
وقبل أن أجيب عن ذلك أود أن أنبه على نقطة جديرة بالاهتمام كثيراً ما يثيرها الأحبة من الشباب، وهي كثرة وقوع الاختلاف بين المختصين من طلبة العلوم الدينية في بيان المسائل الشرعية، فقلّ أن نجد اثنين منهم يتفقان على بيان مسألة شرعية واحدة، ومن المعلوم أن هذا يوجب وقوع المكلفين في الحرج والحيرة.
وما ذكر وإن كان صحيحاً في الجملة، لكنه ليس بالنحو الذي أشير إليه من لزوم وقوع المكلفين في الحرج والحيرة، ضرورة أن الخلافات الحاصلة بينهم، ولا أقل جلها تعود للاختلاف في تشخيص موضوعات الأحكام، وليست ناجمة من الاختلاف في بيان الأحكام، وتنتفي أهمية هذا الاختلاف متى عرفنا كيفية التعامل مع موضوعات الأحكام الشرعية، كما سيتضح.
وعلى أي حال، لنعود لتقسيم الموضوع، فإنه ينقسم إلى قسمين:
الأول: الموضوعات المستنبطة، أو عبر عنها بالموضوعات الشرعية المخترعة من قبل الشارع المقدس، ونقصد بها المفاهيم الشرعية التي اخترعها الشارع المقدس، سواء في باب العبادات مثل الصلاة والصوم، والحج والخمس، أم في باب المعاملات، مثل الغناء، وما شابه ذلك.
ويتفق الفقهاء على أن المكلف ملزم في هذه الموضوعات بتقليد الفقهاء كما هو ملزم بتقليدهم في الأحكام الشرعية، وهذا يعني أنه يكون متبعاً للفقيه في تحديده لحقيقة الغناء، وبيان معناه، كما يكون مقلده له في تحديد حقيقة الصلاة وبيان معناها.
الثاني: الموضوعات الصرفة، وهي التي يتفق على بيان معناها أهل اللغة والعرف، وليس للشارع تصرف أو تحديد في بيان المقصود منها وراء ما جاء في تحديدها من قبلهم، مثل التراب، والرجل، والمرأة، وما شابه ذلك.
ويتفق الفقهاء على أن هذا القسم من الموضوعات لا يجب على المكلف أن يتبع فيه قول الفقيه ولا يكون مقلداً له، بل يسوغ له أن يعتمد على ما يشخصه هو، وإن كان في تشخصيه مخالفاً لتشخيص الفقيه، لأنهما يكونا حينئذٍ بمرتبة واحدة من حيث كونهما يمثلان العرف، ولنقرب ذلك بمثال، لو شككنا في أن السجادة التي بين أيدينا، طاهرة هي أم نجسة، لا يمكن في هذه الحالة أن نرجع للفقيه ليحدد لنا طهارتها من نجاستها، بل المقام من صغريات تشخيص الموضوع الذي يتخذ المكلف فيه قراراً بنفسه، وهكذا.
ووفقاً لما قدمنا يحتاج المكلف في كل مسألة مسألة عند قراءته لها أن يحدد الحكم الشرعي، ويحدد موضوعه، وأيضاً يحتاج تحديد أن هذا الموضوع موضوع مستنبط، أم أنه موضوع عرفي، ومما ذكرنا يتضح ما رمنا ذكره قبل قليل عند الحديث عن اختلاف المختصين من طلبة العلوم الدينية في بيان المسائل الشرعية، إذ أنه اختلاف في تحديد الموضوعات العرفية ليس إلا، فأحدهم يشخص مثلاً أن الغسالة الأوتوماتيكية ذات الغسلات الثلاث تحقق التطهير ويمكن الاعتماد عليها في حصول الطهارة، بينما يشخص الآخر خلاف ذلك، ولو تأملنا وجدنا أنهما اختلفا في تشخيص الموضوع، وليس هذا من مسؤولياتهما، بل إن مسؤوليتهما تتبلور في بيان الحكم الشرعي، وليس تشخيص موضوعه العرفي، لأن تحديد الموضوع كما عرفنا بيد المكلف نفسه.
ومما ذكرنا تتضح أهمية التركيز على قراءة الرسالة العملية من شبابنا، لأن في ذلك تقليلاً للاختلافات الواقعة بين طلبة العلوم الدينية في تشخيص الموضوعات وحل لما يتصوره الشباب من اختلاف في المسائل الشريعة، لأن الشاب عندما يعمد هو بنفسه لتشخيص الموضع، لن يترك مجال للاختلاف بيم المختصين من أهل العلم.
انقسام الحكم الشرعي:
وكما أن موضوع الحكم الشرعي منقسم لما عرفت، فكذلك الحكم الشرعي نفسه له عدة تقسيمات، وما يهمنا منها في المقام انقسامه إلى حكم أولي، وحكم ثانوي.
ونقصد بالحكم الأولي: هو الحكم الذي جعل دون نظر لما يطرأ من أمور خارجية وظروف خاصة، مثل حرمة أكل لحم الميتة، أو وجوب السجود على ما يصح السجود عليه، فإن الأول لم يلحظ فيه الاضطرار والحاجة لحفظ النفس من الهلاك، والثاني لم يلحظ فيه ترتب الضرر والخوف، وحصول حالة التقية.
وأما الحكم الثانوي، فيراد منه: الحكم الذي يجعل للشيء بلحاظ ما يطرأ عليه من عناوين خاصة تستدعي تغيــــير الحكم الأولي عما كان عليه، فحرمة أكل لحم الميتة تتغير لوجوب أكلها إذا كان في تركها هلاك للإنسان، ووجوب السجود على ما يصح عليه يتحول إلى حرمة السجود إذا كان يترتب على ذلك ضرر على الإنسان، وهكذا.
ولا يخفى أن الرسالة العملية قلّ أن تتضمن الأحكام الثانوية، بل يغلب عليها اشتمالها على الأحكام الأولية، وهذا لا يعني عدم اعتناء الفقهاء بالأحكام الثانوية حتى يتصور البعض عدم مراعاتها، فإن ذلك من الخطأ بمكان، بل لابد لمن يود قراءة الرسالة العملية أن يحدد أن الحكم الذي يقرأ حكم أولي، أم حكم ثانوي، ومن ثمّ لو كان حكماً أولياً فما هي حدود تطبيقه، ولو كان حكماً ثانوياً فمتى يرتفع، ومتى يبقى، وهكذا.
ولا يخفى أن منشأ جعل الفقيه الرسالة العملية تحتوي الأحكام الأولية غالباً، لأنه يقرأ الناس من واقع نفسه، فلأنه رجل متدين بعيد كل البعد عن المعصية، أو الوقوع في الخطيئة أفتى بجواز فتح الوجه للمرأة مثلاً،لأنه لن ينظر لامرأة أياً ما كانت بريبة أو بتلذذ وشهوة، ولهذا لو سأل عمن كان لا يمكنه إلا أن ينظر لها بهذه الكيفية، فلا إشكال في أنه سوف يفتي بحرمة النظر، وهذا يعني أن مجرد الفتوى في الرسالة العملية لا يعني أنه يقتصر في معرفة الحكم على خصوص ما جاء فيها دون غيره، فلاحظ.
ومع أننا لم نعمد لعرض جميع المفاتيح التي يحتاجها المكلف لقراءة الرسالة العملية، إلا أنني أتصور أن ما أشرت إليه هو أهم ما ينبغي معرفته ليتسنى للشاب التمكن من قراءة الرسالة العملية، والإحاطة بشيء مما جاء فيها، إن لم يكن أغلبه، وما أود أن أنوه له في ختام هذه الكلمة أن الرسالة العملية ليست لغزاً محيراً، ولا عقدة مستحيلة الحل، ولا مغارة يخاف الإنسان الدخول إلى غياهبها، إن الرسالة العملية وضعت من أجل المكلفين، نعم ربما كانت لغة الخطاب الذي كتبت بها تختلف شيئاً ما عما اعتاده الناس، لكن ذلك لا يعني أنها مستحيلة الفهم، ولا يمكن لأحد أن يفهمها. بل إن من الممكن جداً للشباب المؤمن فهم أكثرها، بل جلها، ولذا ندعو شبابنا المؤمن أن يكونوا لهم ثقافة فقهية من خلال عقدهم جلسات حوارية حول المسائل الفقهية في الرسالة العملية، ويمكنهم عند توقفهم في مسألة ما مراجعة أهل الاختصاص لإيضاح ما التبس عليهم فهمه.
[1] قد يلتـزم بصحة شيء مما ذكر في الجملة، فيقال: إن بعض المسائل الواردة في الرسالة العملية لا يمتلك كل أحد القدرة على فهمها، حتى بعض المنتسبين للحوزة العملية، لأن فهمها يتوقف على الإحاطة بالدليل المستند إليه الفقيه في فتواه، إلا أن ذلك لا يجري في كل مسألة مسألة، فلاحظ.
[2] لا ينبغي أن يفهم كلامنا بصورة خاطئة بحيث يتصور البعض أننا ندعو إلى عدم الاستفادة من أهل الاختصاص، وتهميشهم في هذا الجانب، فإن هذا كلام لا نعتقده، ولا نرى صحته، بل إننا ندعو إلى تطوير مستوى الوعي والإدراك الفقهي عند الشباب، وبالتالي يمكنهم نتيجة ذلك الاستفادة من رجال الدين وطلبة العلم بصورة أكثر، لأنه لن يكون دورهم عندها منحصراً في خصوص التلقي فقط، بل سوف يطمح الشباب إلى تحصيل ثقافة أوسع، بعدما يكتشفون قدرتهم على فهم الرسالة العملية، فليلاحظ.