ورد عن الناحية المقدسة أنه قال: ولي في أبنة رسول الله أسوة حسنة[1].
مدخل:
خلق الله الإنسان وأودع فيه بعدين أساسيـين، بعداً ملوكتياً رحمانياً، وبعداً حيوانياً.
ويتمثل البعد الحيواني في مجموعة من الغرائز والشهوات التي تنطوي عليها شخصية الإنسان، سواء في ذلك شهوة البطن، أم شهوة الفرج.
وقد جعل البعد الملكوتي في شخصية الإنسان بمثابة الرقيب والمنظم لهذه الشهوات، والمدير لها لتكون بصورة تـتناسب مع الغاية التي خلق الإنسان من أجلها، فلا ينجر فيها ليكون في حضيض الحيوانية، بل يرتقي ليـبلغ درجات الملائكة المقربين.
الإنسان مادي ومعنوي:
من هنا يمكن القول بأن الإنسان له شخصيتان، مادية ومعنوية، ونعني بالشخصية المادية: جسمه الذي يحدد وجوده الخارجي من خلاله، فوزنه وطوله وعرضه، وكل ما تناله يد التشريح يعبر عنه بالشخصية المادية للإنسان.
أما شخصيته المعنوية، اللامادية، فهي نفسه وطبيعته التي تعرف بالأثر لا بالعين، وبالفعل، وليس بواسطة قياس أو وزن.
ولكل واحدة من الشخصيتين خصائص تميزها عن الأخرى، فتـتميز الشخصية المعنوية بوجود الأهلية والقابلية فيها لقبول الدين والأخلاق، وذلك يعود لإدراكها أسرار الكون، مضافاً إلى أنها تشعر بقيمة الفعل والسلوك، سواء كان ذلك خيراً أم كان ذلك شراً.
هذا وقد اعتنى الإسلام بكلا الشخصيتين، والبعدين الموجودين عند الإنسان، فلم يعمد إلى الاعتناء بأحدهما دون الآخر، بل سعى إلى إرضاء كليهما، فكما أن الشخصية المعنوية الملكوتية تحتاج إلى رعاية وعناية من خلال شحنها بما يجعلها نشطة وقوية أمام كافة التيارات الأخرى، لابد من إرضاء الشخصية المادية الحيوانية من خلال إشباع الرغبات والغرائز.
أهمية القدوة:
ومن الواضح أن هناك عدة عوامل تساعد على تنظيم الشخصيتين الموجودتين في الإنسان بحيث يتسنى له أن يكون في معرض الاعتدال وعدم الإفراط والتفريط.
ومن أهم العوامل التي تساعد على ذلك وجود عامل القدوة والأسوة، فإن هذا الأمر يمثل عنصراً فعالاً في هذا المجال، خصوصاً في هذا الزمان الذي غلبة فيه الشخصيات المادية على الشخصيات المعنوية، وطغى البعد الحيواني على البعد الملكوتي الرحماني، فلابد من وجود شخصيات تمثل النبراس الذي يقتدى به ويسار على وفق منهجه وهديه.
لماذا نحتاج إلى قدوة:
ومن خلال ما ذكرناه تنشأ الحاجة إلى القدوة في حياة الشعوب مضافاً إلى عدة عوامل تدعو إليها، نحاول الإشارة إلى بعضها:
منها: إن أي عمل من الأعمال، لكي يتم تطبيقه في الخارج من قبل الأفراد، لابد من وجود قناعة عندهم به حتى يقوموا بامتثاله خارجاً، وطريق إقناعهم به يتم من خلال إبراز شخصيات امتلكت القدرة على تطبيقه وإيجاده خارجاً، فمثلاً لو أخذنا نموذج الصيام مثلاً، فإن الإنسان لو طلب منه إيقاعه في الخارج لتعلل بأنه أمر شاق أن أقوم بالامتناع عن الطعام من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، وأنه لا طاقة لي على ذلك وما شابه، لكن لما أخبره الله سبحانه، بأن هذا التكليف كان موجوداً في الأمم السابقة، كان هذا بمثابة الحافز له على ترك التعلل والامتناع، وصارت الأمم السابقة بمثابة القدوة له على إيجاد هذا العمل.
ومنها: إن وجود القدوة يمثل عامل التربية والتوجيه للأفراد في مقام العمل، لأن وجودهم يؤكد قناعتهم بالعمل الذي يقومون به، فيكون إتيانهم به منبثقاً من خلال إيمانهم العميق به، فيكون الفرد حين إتيانه به مجسداً لأقواله وأفعاله وأفكاره التي يتبناها.
ومنها: إن القدوة بمثابة التجربة التي يعتمد عليها الإنسان في نجاح العمل الذي يقدم عليه من عدمه، وقدرته على إيجاده من عدمه، ومن الواضح أن الإنسان بطبعه يخلد إلى القضايا المادية والحسية الملموسة، وهذا يستوجب وجود قضايا حسية مادية ملموسة يشعر بها، ويعتمد عليها في إقدامه على أي عمل من الأعمال.
لا فرق بين رجل وامرأة:
هذا ويجدر بنا ونحن نتحدث عن القدوة وما ينبغي أن تتصف به، أنه لا فرق عندنا بين أن تكون الشخصية المقتدى بها رجلاً أم امرأة، بل تمام المدار عندنا على توفر الصفات المطلوبة فيها، وكونها جديرة بالإقتداء، فلا مانع من أن تـتخذ النساء الرجال قدوة لها، كما لا مانع من اتخاذ الرجال النساء قدوة لهن، ما دام الرجال، وكذا النساء مستجمعين لما يعتبر في شخصية المقتدى به من مواصفات.
وهذا المعنى يمكننا استكشافه من خلال قوله تعالى:- ( ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط كانت تحت عبدين من عبادين صالحين فخانتاهما فلم يغنيا عنهما من الله من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين* وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأت فرعون إذ قالت رب ابنِ لي عندك بيتاً في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين)[2]. إذ من الواضح أن ذكر هذين النموذجين في القرآن الكريم لا يختص بالنساء، بحيث يكون ضرب المثل لهن فقط دون الرجال، بل من الواضح أن ضرب المثل موجه لكافة أفراد البشرية رجالاً، ونساءاً، من دون فرق بينهما، مما يثبت ما ذكرناه من أنه يمكن أن تكون المرأة قدوة للرجل، كما لا مانع من كون الرجل قدوة للمرأة.
ومن الواضح أن في هذا نظرة إكبار وإجلال من الإسلام للمرأة، وكثير احترام وتقدير لها، ويكشف عن شيء من مكانة المرأة في الأطروحة الإسلامية، فلا معنى للإصغاء للأبواق الجوفاء التي ينادي بها أصحاب النوايا السيئة، من أن الإسلام ظلم المرأة وهضمها حقها، وما شابه.
من هو القدوة:
يمكننا أن نتعرف القدوة التي ينبغي الإقتداء به واتخاذه منهجاً يسار على وفق سبله من خلال بعض الآيات القرآنية الكريمة التي تعرضت لمثل ذلك.
ففي قوله تعالى:- (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر)[3].
لقد أعطت الآية الشريفة نموذجاً للقدوة التي ينبغي إتباعه، فذكرت النبي الأكرم محمد(ص)، ونحن عندما ندرس سيرة رسول الله(ص) نجدها مليئة بأمور عديدة، تمثل النموذج الأكمل للحياة البشرية، من دون فرق بين مجال وآخر، بل تمثل سيرته العطرة النموذج الكامل للسالك إلى ربه.
ومن الواضح أن هذا يشير إلى بيان الصفات التي ينبغي توفرها في الشخص المقتدى به، لكي يتضح لنا من هو القدوة، لأننا حينما نقدم على قراءة السيرة العطرة للمصطفى(ص) نجد مجموعة من المواصفات، تمثل الشخصية المباركة له(ص)، وهذه المواصفات هي في الحقيقة الصفات التي ينبغي توفرها في الشخصية التي يقتدى بها، ولا أظنني بحاجة لتعداد مواصفات رسول الله(ص)، بل هي من الواضحات عند المسلمين، بل غير المسلمين، وهذا يعني وضوح الأمور التي ينبغي توفرها في من يقتدى به.
وبكلمة، لا ريب أن الإقتداء بالرسول الأكرم(ص) والتأسي به لن يكون إلا بعد استجماع هذه الشخصية المقتدى بها لكافة الجوانب المطلوبة للمنهج الحياتي المتكامل، فالقرآن حينما يدعو المسلمين للإقتداء برسول الله(ص) وجعله الأساس في سلوكهم، يقرر أن شخصية رسول الله(ص) قد استجمعت اتحاد القول والفعل، بحيث لا يوجد فيها شيء من الازدواجية، وقول ما لا يفعل.
وهذا أهم ما ينبغي في الشخصية المقتدى بها، أن تكون محققة لكل ما تقول، لا أن هناك مقالة وهناك فعلاً آخر يختلف عن تلك المقالة.
وقد أشار القرآن الكريم لهذا المعنى، قال تعالى:- ( يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون* كبر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون)[4].
وكذا وردت النصوص عن المعصومين(ع) تفيد أنه لا ينبغي أن يكون الإنسان في معرض التعليم والنصح والإرشاد لغيره، وهو أحوج ما يكون إلى ذلك، بل ذمت كل من جعل نفسه في هذا المجال.
فإذن مقوم القدوة المندوب لاتخاذه، هو إتحاد منهجي القول والعمل، بحيث لا تلحظ ازدواجية بينهما.
ويشير القرآن الكريم إلى نموذج آخر للإقتداء، وهو شخصية خليل الرحمن إبراهيم(ع)، قال تعالى:- ( لقد كانت لكم أسوة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا براءوا منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء حتى تؤمنوا بالله وحده)[5]. فإنه يمثل نفس المعنى الذي أشرنا له في سيرة رسول الله(ص) من اتحاد منهجي القول والعمل، ويتضح هذا في سيرة خليل الرحمن(ع) ومن معه من خلال تجسيدهم لمبدأ الانتماء، حيث قد تجاوز عند هؤلاء الأطر الخاصة من روابط نسبية أو صلات عائلية، أو أطر مادية، وما شابه، ليكون منشأ الانتماء يدور مدار الروابط الدينية، فالإطار العقدي هو الذي يحكمها، وتدور في مداره، فمتى توفر فرد من الأفراد على وحدة المنهج والمسلك كان ذلك داعياً إلى الارتباط، وثبوت العلاقة معه، وإلا فلا.
ومن الواضح أن الآية الشريفة عندما تدعونا للإقتداء بالخليل إبراهيم، تريد أن تقدم لنا نموذجاً في معيار الحب والبغض، وأنهما لا يكونا إلا في الله، وأن أعمق رباط يربط البشر بعضهم ببعض، هو الرابط العقدي.
مواصفات القدوة:
يمكننا تقسيم المواصفات التي ينبغي أن تتصف بها القدوة إلى قسمين كما ذكر ذلك غير واحد، وهما:
الأول: الصفات التي تعبر عن الارتباط بين الشخصية التي يقتدى بها، وبين الباري سبحانه وتعالى، ويمكننا أن نعبر عنها بالبعد الديني في شخصية القدوة.
الثاني: الصفات التي تعبر عن ما تملكه الشخصية المتخذة قدوة من سلوك متميز في علاقاته الاجتماعية، وهو ما يمكننا التعبير عنه بالبعد الاجتماعي في شخصية القدوة.
البعد الديني:
وينطوي تحت هذا القسم العديد من الصفات التي ينبغي أن تنطوي عليها الشخصية التي سوف تتخذ قدوة، خصوصاً ملاحظة أن هذه القدوة سوف تكون أول الركائز التي يعتمد عليها في بناء المجتمع الصالح.
ومنه يتضح أهمية هذه المواصفات التي ينبغي أن يمتلكها القدوة، والحديث عن هذه الصفات في الحقيقة يرتبط بالبحوث الأخلاقية، والبحوث التي تكون مرتبطة بجهاد النفس، إلا أنه ينبغي الإشارة إلى ذلك بصورة موجزة كما ذكر ذلك غير واحد من الأعلام.
اليقين بالله:
ولا ريب أنه متى امتلك القدوة اليقين، فإن ذلك سوف يكون ناجماً عن شدة توكله على الله سبحانه، وهو في نفس الوقت يكشف عن قوة ارتباط بالباري سبحانه وتعالى، وقرب من حضرة القدس الإلهية، وفي هذا إشارة إلى قوة العلاقة بالله عز وجل، ومن الواضح أن هذا سوف يترك أثراً بيناً وواضحاً على كافة سلوكياته وأفعاله.
وعلى أي حال، فإذا توكل الإنسان على ربه، بلغ مرحلة اليقين، التي تمثل حدّ التوكل، ومتى بلغ الإنسان اليقين، فلن يرضي المخلوقين بمعصية الخالق.
حسن الظن بالله:
من دون فرق بين حياة الدنيا وحياة الآخرة، ولا يخفى أن لهذه الصفة العديد من الآثار في الدنيا، وكثير النعيم في الآخرة.
ولهذه الصفة مجموعة من المردودات في العلاقات الاجتماعية، لأن سوء الظن من أقصر الطرق لقطع أي وشيجة من الوشائج والعلاقات الاجتماعية، ومتى اتصف شخص بهذه الصفة كانت سبباً رئيسياً لفصم علاقاته الاجتماعية، لأنه سوف يظن السوء في كل من هم حوله، وهذا كفيل بعدم ثبات علاقة بينه وبين أي واحد منهم.
حب الله:
إن العلاقات الاجتماعية متى قامت على هذا المبدأ أعني الحب في الله سبحانه، والبغض في الله سبحانه، كان ذلك كفيلاً بنجاح المجتمع، خصوصاً وقد تضمنت بعض النصوص أن حقيقة الدين هي الحب في الله والبغض في الله.
الرجاء والخوف من الله:
فمتى ضاقت بعبدٍ السبل، وانقطع عليه الطرق، فإنه لا ينقطع عليه طريق الله سبحانه وتعالى، بل يـبقى يرجو الله عز وجل، ويأمل عفوه وفضله ورحمته وعطائه.
وكذا كلما أحس الإنسان من نفسه الغرور، وظن أنه لا ينافس منافس ولا يتلوه تالٍ، رجع إلى نفسه، وخاف ربه، وخشى عقابه.
البعد الاجتماعي:
وهي القسم الثاني من الصفات التي ينبغي توفرها في شخصية القدوة، وقد ذكرت صفات عديدة نشير لبعض منها:
الصبر:
فإن الإنسان أثناء سيره الحياتي في المجتمع يبتلى بمجموعة من المصاعب والإحن، وهذا يجعله بحاجة إلى صفة يواجه بها هذه المصاعب، ويتحمل بها الآلام، وليس ذلك إلا الصبر، وهو من الأمور الواضحة المعلوم التي لا تحتاج بياناً ولا برهاناً، فلا حاجة بنا لإطالة الحديث حوله، خصوصاً وقد تضمن القرآن الكريم الحديث عنه ووصف المتصفين به، كما أشار لعظمة أنبيائه من خلال تحمله للمصاعب وصبرهم عليها، وكذا تحدثت عنه النصوص الصادرة من المعصومين(ع)، كما أنه قد ذكرت له عدة أقسام، يمكن لمن يريد الإحاطة بها مراجعة الكتب الأخلاقية.
الزهد:
فإنه خير وسيلة يقف بها الإنسان أمام الهوى والدنيا، ويتمكن من خلاله كبح جماح النفس الأمارة، ويسيطر على الغرائز، ويحكم كبح جماح البعد المادي في شخصيته.
ويعجبني هنا أن أشير إلى أن حقيقة الزهد ليس في قلة الطعام والشراب، وترك اللباس الحسن الجميل، وإنما الزهد هو أن لا يملكك شيء، وأن تملك كل شيء.
القناعة:
وهي صفة مترتبة على الزهد، فمن كان زاهداً ملذات الدنيا وشهواتها، لا ريب في أنه سوف يكون قانعاً بما قسمه الله سبحانه له، راضياً بما أعطاه إياه، شاكراً له على هذه النعمة التي يعيش فيها.
الورع عن محارم الله:
فإنه يمثل العنصر الوقائي المكمل للعلاقة مع الله سبحانه، لأنه كلما ورع الإنسان عن معصية ربه، كان ذلك دافعاً له في طاعته، وامتثال أوامره.
الحياء:
وهي الصفة التي تمنع الإنسان من الاندفاع في الشهوة، ومتابعة الغريزة، وتعطي العقل قدرة على التحكم والتصرف في الإنسان، خصوصاً في النساء.
نماذج للقدوة:
هذا وقد تضمنت نصوص أهل البيت(ع) نماذج تمثل القدوة التي ينبغي لنا أن نتبع نهجها غير ما ذكرنا، وذلك من خلال بيان ما ينبغي أن يتصفوا به من مواصفات، ومن ثمّ السعي للتخلق بتلك الصفات.
وفي الحقيقة ليست تلك النماذج إلا المثال الكامل لمن يتبع أهل البيت(ع)، لأنها كلها تصب في بيان ووصف الشيعة، ومن الواضح أنها تشير إلى المواصفات التي يطلبها أهل البيت(ع) في شيعتهم، ويدعون من كانت متبعاً له أن يتصف بتلك المواصفات ليحقق الانتماء الحقيقي لهم(ع).
فعن أبي بصير قال: قال الصادق(ع): شيعتنا أهل الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة، وأهل الزهد والعبادة، أصحاب إحدى وخمسين ركعة في اليوم والليلة، القائمون بالليل، الصائمون بالنهار، يزكون أموالهم ويحجون البيت، ويجتنبون كل محرم[6].
وروي عنه(ع) أيضاً أنه قال: والله ما شيعة علي(ع) إلا من عفّ بطنه وفرجه، وعمل لخالقه، ورجا ثوابه وخاف عقابه[7].
وعنه(ع) أيضاً قال: كان علي بن الحسين(ع) قاعداً في بيته إذا قرع قوم عليهم الباب، فقال: يا جارية انظري من بالباب؟ فقالوا: قوم من شيعتك، فوثب عجلاً حتى كاد أن يقع، فلما فتح الباب ونظر إليهم رجع، فقال: كذبوا فأين السمت في الوجوه؟ أين أثر العبادة؟ أين سيماء السجود؟ إنما شيعتنا يعرفون بعبادتهم وشعثهم، قد قرحت العبادة منهم الاناف، ودثرت الجباه والمساجد، خمص البطون، ذبل الشفاه، قد هيجت العبادة وجوههم، وأخلق سهر الليالي وقطع الهواجر جثـثهم، المسبحون إذا سكت الناس، والمصلون إذا نام الناس، والمحزنون إذا فرح الناس، يعرفون بالزهد، كلامهم الرحمة، وتشاغلهم بالجنة[8].
وفي رواية عن أمير المؤمنين(ع) مع نوف، قال: هل تدري من شيعتي؟ قال: لا والله، قال: شيعتي الذبل الشفاه، الخمص البطون، الذين تعرف الرهبانية والربانية في وجوههم، رهبان بالليل، وأُسد بالنهار، الذين إذا جنهم الليل اتزروا على أوساطهم، وارتدوا على أطرافهم، وصفوا أقدامهم، وافترشوا جباههم، تجري دموعهم على خدودهم، يجأرون إلى الله في فكاك رقابهم، وأما النهار فحلماء علماء كرام نجباء أبرار أتقياء.
يا نوف، شيعتي الذين اتخذوا الأرض بساطاً، والماء طيباً، والقرآن شعاراً، إن شهدوا لم يعرفوا، وإن غابوا لم يفتقدوا، شيعتي الذين في قبورهم يتزاورون، وفي أموالهم يتواسون، وفي الله يتباذلون، يا نوف درهم ودرهم، وثوب وثوب، وإلا فلا. شيعتي من لا يهر هرير الكلب، ولا يطمع طمع الغراب، ولم يسأل الناس وإن مات جوعاً، إن رأى مؤمناً أكرمه، وإن رأى فاسقاً هجره، هؤلاء والله يا نوف شيعتي، شرورهم مأمونة، وقلوبهم محزونة، وحوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، اختلف بهم الأبدان، ولم تخـتلف قلوبهم[9].
وهذا أمير المؤمنين(ع) يصف شيعة أهل البيت لهمام، فيقول: ألا من سأل عن شيعة أهل البيت الذين أذهب عنهم الرجس وطهرهم في كتابه مع نبيه تطهيراً، فهم العارفون بالله، العاملون بأمر الله، أهل الفضائل والفواضل، منطقهم الصواب، وملبسهم الاقتصاد، ومشيهم التواضع، بخعوا لله تعالى بطاعته، وخضعوا له بعبادته، فمضوا غاضين أبصارهم عما حرم الله عليهم، واقفين أسماعهم على العلم بدينهم، نزلت أنفسهم منهم في البلاء كالذي نزلت منهم في الرخاء رضى عن الله بالقضاء، فلولا الآجال التي كتب الله لهم لم تستقر أرواحهم في أجسادهم طرفة عين، شوقاً إلى لقاء الله والثواب وخوفاً من العقاب.
عظم الخالق في أنفسهم، وصغر ما دونه في أعينهم، فهم والجنة كمن رآها فهم على أرائكها متكئون، وهم والنار كمن اُدخلها فهم فيها يعذبون، قلوبهم محزونة، وشرورهم مأمونة، وأجسادهم نحيفة، وحوائجهم خفيفة، وأنفسهم عفيفة، ومعونتهم في الإسلام عظيمة، صبروا أياماً قليلة فأعقبتهم راحة طويلة، وتجارة مربحة، يسرها لهم رب كريم، اُناس أكياس، أرادتهم الدنيا فلم يريدوها، وطلبتهم فأعجزوها.
أما الليل فصافون أقدامهم، تالون لأجزاء القرآن يرتلونه ترتيلاً، يعظون أنفسهم بأمثاله، ويستشفعون لدائهم بدوائه تارة، وتارة مفترشون جباههم وأكفهم وركبهم وأطراف أقدامهم، تجري دموعهم على خدودهم، يمجدّون جباراً عظيماً، ويجأرون إليه جل جلاله في فكاك رقابهم، هذا ليلهم،فأما النهار فحلماء علماء بررة أتقياء، براهم خوف باريهم فهم أمثال القداح، يحسبهم الناظر إليهم مرضى وما بالقوم من مرض، أو قد خولطوا، وقد خالط القوم من عظمة ربهم، وشدّه سلطانه أمر عظيم.
طاشت له قلوبهم، وذهلت منه عقولهم، فإذا استقاموا من ذلك بادروا إلى الله تعالى بالأعمال الزاكية، لا يرضون له بالقليل، ولا يستكثرون له الجزيل، فهم لأنفسهم متهمون، ومن أعمالهم مشفقون، ن زكى أحدهم خاف مما يقولون، وقال: أنا أعلم بنفسي من غيري، وربي أعلم بي، اللهم لا تؤخذني بما يقولون، واجعلني خيراً مما يظنون، واغفر لي ما لا يعلمون، فإنك علام الغيوب، وساتر العيوب[10].
والرواية المباركة طويلة، وهي جديرة بالدراسة والتأمل لما تنطوي عليه من المطالب الشريفة، التي يجدر بالإنسان المؤمن المنتمي لمذهب أهل البيت(ع) أن يسعى لتطبيقها، من خلال اتصافه بها.
فاطمة القدوة:
هذا وخير نموذج إسلامي يمكن للإنسان أن يقتدي به لكونه يمثل مدرسة سيارة في كافة الجوانب، هي سيدتنا ومولاتنا الطاهرة فاطمة الزهراء(ع)، فسيرتها لعمري نماذج فريدة في كل شيء أراد الإنسان أن يستنطقها كيما يستفيد منها.
ففي جانب الامتحان والابتلاء، قد امتحنت هذه السيدة العظيمة مرة في مكة ومرة في المدينة، فبعد رحلة أمها السيدة خديجة(ع) قامت بالدور الذي كانت تقوم به أمها في الوقوف جنباً إلى جنب مع رسولها(ص) تؤازره وتعاضده، وتقويه على تبليغ رسالة ربه، وتقف من خلفه، تخفف عنه ما كان يلاقيه من قريش وطغاتها.
وفي المدينة، لها موقفان أيضاً في تحمل الصبر والبلاء، فيوم أن رسول الله(ص) حي ويلاقى الأذى من الأعراب والمنافقين، كانت بأبي وأمي هي السلوة لرسول الله(ص) يلجأ إليها لتخفف عنه آلامه وأحزانه، وتزول تلك المتاعب عنه بنظره(ص) إلى وجهها الإيماني(ع).
والموقف الثاني يوم رحل النبي(ص) عن هذه الدنيا الفانية، فصبرت صبراً، وأي صبر هذا الذي صبرته، فمع أن القوم غصبوها حقها، وسلبوها نحلتها من أبيها(ص)، وهجموا على دارها وأسقطوها جنينها، وكسروا ضلعها، وضربوها، إلا أنها أبت إلا أن تمثل منهاج رسول الله(ص) وتقتدي بسيرته، فخرجت تدافع عن رمز الإمامة والإسلام، عن أمير المؤمنين(ع) لعلمها أن في بقائه بقاء الإسلام، ورسالة السماء التي جاء بها رسول الله(ص).
وتعال نقرأ فاطمة الزوجة، لنـتعلم منها الخلق الزوجي الذي ينبغي أن يكون عليه الزوجان مع بعضهما البعض، فانظر بيتها وبساطته، وانظر لبسها، فهل تجده على أحدث الموضات، أو آخر الموديلات، لا والله.
تعيش الزهراء بأبي وأمي، في بيت متواضع، لكنها تحقق فيه كافة الشؤون المطلوبة منها كزوجة، وكربة بيت تناط بها مجموعة من الواجبات عليها القيام بأدائها، فهاهي تعنى بشؤون منـزلها، تقوم بإدارة أمور بيتها من دون الاستعانة بخادمة، بل من خلال جهدها الشخصي، وحتى يوم كان لها من يعينها على العمل المنـزلي، اقتسمت معها العمل يوماً عليها، ويوماً يكون على الخادم.
وإن من أجمل الصور التي صورتها روحي فداها أخلاقها العائلية، سواء مع زوجها، أم مع أطفالها، حتى لقد نقل التاريخ أنها يوم رحلتها عن الدنيا، مع ما كانت تعانيه من آلام الضرب والإسقاط، والمرض، وآلام الفراق للأحبة، إلا أنها قام بدورها كأم وكزوجة، فغسلت للحسنين(ع) وألبستهما لباساً جديداً، وأعدت لهما ولأمير المؤمنين(ع) الطعام. ولو أردنا أن نقرأ الزهراء(ع) الأم، وكيف كانت مدرسة روحية وثقافية وإيمانية بما تحويه هذه الكلمات من مضامين، لطال بنا الحديث ونحن نقف عند هذه المحطة من سيرتها العبقة، لأنها بأبي وأمي قد جسدت هذا الدور بكافة مضامينه ومعانيه، وقامت بمسؤوليتها في هذا المجال خير قيام، وأدت المطلوب منها.
وأخيراً، وليس بآخر، لو أردنا قراءة الزهراء(ع) ليقتدى بها في أبعادها الإيمانية والروحية، وكيف كانت علاقتها مع ربها، فكيفينا أن نشير إلى نقطة واحدة تبين مدى هذه العلاقة، ومقدار الارتباط الوثيق الذي تقوم عليه، فهذه الزهراء(ع) كما تنقل أسماء بنت عميس قبل رحلتها من الدنيا بدقائق، تدخل إلى مصلاها بعدما اغتسلت وليست ثياباً جدياً، تقوم بمناجاة ربها، والألم يعتصر قلبها على فراق أحبتها، وقلبها يطير فرحاً لملاقاة ربها، ولقائها بأبيها، فالزهراء بآلامها ما انقطع عن المناجاة، ولا كان ذلك مانعاً عن الابتهال والسؤال.
فجدير بنا نحن الذين نرغب الإقتداء بها(روحي لها الفداء) أن نستفيد من سيرتها العطرة، وأن نتخذها منهاجاً نستفيد منه في حياتنا اليومية، وفي كافة مجالاتها.
——————————————————————————–
[1] بحار الأنوار ج 53 ص 180.
[2] سورة التحريم الآيتان رقم 10-11.
[3] سورة الأحزاب الآية رقم 21.
[4] سورة الصف الآية رقم 2-3.
[5] سورة الممتحنة الآية رقم 4.
[6] بحار الأنوار ج 65 ح 23 ص 167.
[7] المصدر السابق ح 26.
[8] المصدر السابق ح 30.
[9] المصدر السابق ح 47.
[10] المصدر السابق ح 48.