قال الإمام زين العابدين(ع):اعلم أن لله عليك حقوقاً محيطة بك في كل حركة تحركتها أو سكنة سكنتها، أو حال حلتها، أو منـزلة نزلتها، أو جارحة قلبتها، أو آلة تصرفت فيها، فأكبر حقوق الله تبارك وتعالى عليك ما أوجب عليك لنفسه من حقه الذي هو أصل الحقوق، ثم ما أوجب الله عز وجل عليك لنفسك من قرنك إلى قدمك على اختلاف جوارحك.
مدخل:
لقد هدف الإمام الحسين(ع)في نهضته الإصلاحية المباركة التي قادها، إلى تغيير كل مواطن الفساد التي خلفها الحكم الأموي في الأمة، فلم يقتصر الدور الإصلاحي الذي كان يسعى له الإمام الحسين(ع)في خصوص الجنبة السياسية، بل شمل الناحية الاقتصادية، والناحية الأخلاقية، والناحية الروحية المرتبطة بالله سبحانه وتعالى، وهكذا.
ولما قام الإمام زين العابدين(ع)بالمسؤولية في الأمة لكونه الامتداد الطبيعي للإمامة بعد الإمام الحسين(ع)، واصل العمل الإصلاحي الذي بذر بذرته الإمام الحسين(ع)، ولهذا وسار على نفس النهج الذي كان عليه أبوه(ع)بما يتوافق والظروف المحيطة به، فسعى للإصلاح السياسي بمنهج آخر، وسعى أيضاً لإصلاح الجانب الروحي من خلال ما خرج منه من تراث ضخم وهائل في هذه الناحية، سواء من خلال عبادته المتميزة بالعلاقة الخاصة بالله سبحانه وتعالى، أم من خلال أدعيته المتمثلة في زبور آل محمد، أو في المناجياة الخمسة عشر.
وقد عمد الإمام زين العابدين(ع)إلى الإصلاح في الناحية الخلقية والقيم والتعاليم الإسلامية، والإنسانية، إلى تأليف منهج متكامل يمكن للأمة الرجوع إليه والاستفادة منه في تغيـير وضعها السيئ، فكانت رسالة الحقوق.
وعلى هذا يمكننا أن نقول بأن الدافع إلى قيام الإمام(ع)بتأليف الرسالة، هو الاستمرار والإكمال للمنهج الإصلاحي والتربوي للأمة الذي ابتدأه الإمام الحسين(ع)، حيث أن الأمة كانت تعيش في حالة من الانحراف والفساد، وتأرجحت القيم الإنسانية حتى أوشكت على السقوط، لأن الحكومة الأموية عمدت إلى تميـيع المجتمع وتجريده من صبغته الإسلامية، وتغطيته بصبغة بعيدة عن القيم والتعاليم السماوية.
في مثل هكذا ظروف عمد الإمام(ع)إلى تعريف الأمة بالحقوق والواجبات التي عليها تجاه الآخرين، في محاولة منه لإصلاح واقعها وللوقوف أمام الهدف الأموي في إلغاء الوجود الإسلامي وإلغاء قيمه ومبادئه.
فعرف الأمة أن الله قد فرض حقوقاً للناس، كما فرض عليهم حقوقاً سواء في المستويات العامة أم الخاصة.
فهناك حقوق للأب، وللأم، وللأولاد، وللجار، ولذي المعروف، وللمعلم، كما هناك حقوق أخرى غير ما ذكر.
وفي طرح منه للإصلاح السياسي، وبيان الخلل في الحكومة الأموية وعدم صلاحيتها للمنصب الذي هي فيه، ذكر(ع) حق الرعية على الحاكم، بعدما ذكر حق الحاكم على الرعية، والمتأمل في ذلك يعرف عدم مصداقية الخلافة الأموية لما ذكر، لعدم تحقيقها لما عليها من حقوق تجاه الشعب، وبالتالي فلا تستحق على الشعب حينها حقاً، وهكذا.
منهج الإمام(ع) القيادي:
وبالجملة فقد كان ضمن المنهج الإصلاحي الذي يسعى الإمام(ع)لتحقيقه امتداداً للخطة الإلهية الموضوعة وابتدائها النبي(ص)وسار عليها الأئمة(ع)حتى وصلت إلى الإمام الحسين(ع) ومن ثم الإمام زين العابدين(ع)توعية الأمة وإصلاحها من خلال المنهج التربوي، الذي يجعل المجتمع يطبق القانون الإسلامي بأدائه الواجبات المطلوبة منه، وإعطائه الحقوق التي له.
ولذا عمد(ع)إلى إعداد مجتمع يحمل في ثقافته وعياً حقوقياً تجاه الآخرين، من خلال الشعور بالمسؤولية الموجهة له، والمطلوب منه أدائها.
رسالة الحقوق:
وقد أثمر هذا المنهج الإصلاحي التربوي تأليف الإمام(ع)كتابه القيم، الموسوم بـ(رسالة الحقوق)التي تعتبر دستوراً في السياسة، ومنهجاً عاماً في الأخلاق الاجتماعية، ومقايـيس محكمة في القيم.
وقد سبق الإمام(ع)فيما نعلم العلماء والقانونيين جميعاً في دنيا الإسلام، بل في دنيا الإنسان في هذا المضمار الذي على أساسه ترتكز أصول الأخلاق والتربية ونظم الاجتماع.
وقد عرض(ع)هذه المعاني، ببيان عذب، وتعبير سهل، مع قوة في العرض، واتساع في الأفق، وقد احتوت الرسالة العظيمة على فنون من العلم، ودقائق من السياسة ونفائس من المعارف.
هذا وإن كان الوضع الاجتماعي والعصر الذي عاش فيه الإمام زين العابدين(ع)هما السبب المباشر في تأليف رسالة الحقوق، فإن مضامينها ستبقى المنهاج السديد والقانون السامي لكل الأزمنة والأجيال.، لأنها تنطوي على أفكار عامة، ومادة قانونية تبقى القاسم المشترك لتلبية حاجات مختلف العصور.
رسالة الحقوق تعني المسؤولية:
هذا والنقطة الأساسية التي تعبر عنها رسالة الحقوق والتي أراد الإمام زين العابدين(ع)إيصالها للأمة هي المسؤولية المحيطة بالإنسان من كافة النواحي والجهات، فهي تقرر أن الإنسان مسئول، وأن المسؤولية تحيط به من بين يديه ومن خلفه، وعن يمينه وشماله، وفي موقفه بين يدي ربه.
وهذا يعني أننا بحاجة لدراسة رسالة الحقوق، دراسة متأنية وقراءتها قراءة استيعابية، حتى نعيش معنى المسؤولية في كل حياتنا.
فالإنسان مسئول عن نفسه، وعن عينه، وعن يده، وعن رجله، وعن لسانه، وعن سمعه، وعن كافة أعضاء جسده، كما أنه مسئول عن رحمه من خلال أبيه وأمه وولده وأخيه وهكذا.
وبكلمة فقد تكفلت رسالة الحقوق تنظيم أنواع العلاقات الفردية والاجتماعية للإنسان في هذه الحياة بنحو يحقق للفرد والمجتمع سلامة العلاقات ويجمع لهما عوامل الاستقرار والرقي والازدهار.
فمن يفهم بعمق هذه الرسالة ويدرس بدقة حقوق الخالق وحقوق المخلوقين بعضهم تجاه بعض، يتسنى له أن يفهم أسرار التشريع الإسلامي، وفلسفة الأحكام التي جاءت بها الشريعة الإسلامية لتنظيم حياة الإنسان فرداً ومجتمعاً.
الحقوق المحيطة بالإنسان:
وقبل أن يذكر الإمام(ع)الحقوق مفصلة يشير إلى أن هناك حقوقاً محيطة بالإنسان، لابد له من معرفتها، ثم يبين أكبر الحقوق وهو ما يرتبط بالله سبحانه بالنسبة لعبده، ثم يفرع عليها حقوق الإنسان المفروضة من الله تجاه نفس الإنسان، فيبين أنواع علاقة الإنسان بنفسه من خلال المنظار الإلهي، ثم ينتهي إلى أنواع العلاقة بين الإنسان وبيئته التي تشتمل على قيادة ومقودين، ورعاة ورعية مع بيانه لأنواع الأئمة والمأمومين ودرجاتهم، ثم يبين سائر العلاقات مع الأرحام والأسرة وأعضائها، ثم من تشتمل عليه الأسرة من الموالي والجواري، ثم سائر ذوي الحقوق كالمؤذن والإمام في الصلاة والجليس والشريك والغريم، والخصم والمستشير والمشير والمستنصح والناصح والسائل والمسئول والصغير والكبير، حتى ينتهي إلى من يشترك مع الإنسان في دينه من بني الإنسان، ثم حقوق من يشترك مع الإنسان في الإنسانية وفي النظام السياسي الذي يخضع له، وإن لم يكن من أهل ملته ودينه.
من رسالة الحقوق:
هذا وإتماماً للفائدة، نقتبس من هذا الدستور الأخلاقي ما ينير لنا الدرب في حياتنا العملية، ونجعله مناراً ومنهاجاً لنا في مسيرتنا اليومية، فنقرأ من رسالة الحقوق، نموذجين تربويـين وضعهما الإمام زين العابدين(ع)لنفع الإنسانية، وهما:
1-حق ذي المعروف.
2-حق من أساءك.
حق ذي المعروف:
قال(ع):وأما حق ذي المعروف عليك:فأن تشكره، وتذكر معروفه وتكسبه المقالة الحسنة وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عز وجل، فإنك إذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سراً وعلانية، ثم إن أمكن مكافأته يوماً كافأته، وإلا كنت مرصداً له موطناً نفسك عليها.
المعروف عبارة عن كل فعل حسن، يحكم العقل والعقلاء والشرع بحسنه، ويقابله المنكر وهو كل فعل قبيح حكم هؤلاء بقبحه.
والمعروف اسم جامع لما عرف من طاعة الله سبحانه والإحسان إلى الناس في الواجب والمندوب، وهو صفة شريفة معروفة.
ويقال لفاعله أنه صاحب المعروف، أو ذو المعروف، ويحكم العقل، والعقلاء بأنه يستحق احتراما خاصاً ومكانة سامية ويكون صاحب فضل على من أسدى له المعروف،ذلك أن صاحب المعروف يعتبر منعماً،والعقل يحكم بلزوم شكر المنعم،وشكر كل منعم يكون بحسبه،فشكر المنعم الأعظم وهو الله تعالى يكون بعبادته،وشكر المخلوقين بذكر فضلهم وما شابه.
وقد ورد في النصوص الشريفة ما يشير إلى فضل أهل المعروف وتميزهم بين الخلق، فعن أبي عبد الله الصادق(ع)قال:يقال لهم(أهل المعروف)في الآخرة إن ذنوبكم قد غفرت لكم فهبوا حسناتكم لمن شئتم وادخلوا الجنة.
وعن ابن عباس قال:يأتي أهل المعروف يوم القيامة فيغفر لهم لمعروفهم وتبقى حسناتهم تامة فيعطونها لمن زادت سيئاته على حسناته، فيغفر له، فيدخلون الجنة، فيجتمع لهم الإحسان إلى الناس في الدنيا والآخرة، وعن النبي(ص):أول من يدخل الجنة المعروف وأهله، وأول من يرد عليّ الحوض.
وعن إمامنا الباقر مخاطباً زرارة:ثلاثة إن تعلمهن المؤمن كانت زيادة في عمره، وبقاء لنعمته عليه.فقلت:وما هن؟فقال:تطويله في ركوعه وسجوده في صلاته، وتطويله لجلوسه على طعامه إذا أطعم على مائدته، واصطناعه المعروف إلى أهله.
ثم إن أهل المعروف هم من يصنعون المعروف لمجرد حب الخير، لا رغبة ولا سعياً وراء الدنيا، أو شيء من زخرفها، فهم يفعلون الخير للناس دونما انتظارهم الشكر من أحد أو مقابلته بالمدح والثناء.
من المعروف الأمر بالمعروف:
ومن الواضح أن من أجلى مصاديق المعروف، الأمر بالمعروف، بل ربما كان من أعظم فعل المعروف، لأن فيه حفظ النظام بين أفراد النوع الإنساني، وبه تكتسب الفضائل الدينية والعقلية، وتزال الأخلاق الفاسدة.
في كلام زين العابدين(ع):
ثم إن ما ذكرناه وغيره من ثبوت حق لذي المعروف، جعل الإمام زين العابدين(ع)يفرد له حقاً، فذكر أن له حقوقاً:
1-تقديم الشكر له على معروفه، لكونه صاحب نعمة، وقد عرفت أن العقل يحكم بلزوم شكر المنعم.
وهذا يعني أنه لا ينبغي أن يقابل الإحسان الصادر من ذي المعروف بالنكران والجحود كما هو الموجود عند كثير من الناس، خصوصاً إذا التفتنا إلى أن ذا المعروف، قد سعى لتقديم ما قدم لا لرغبة مادية، وطلبة دنيوية، بل كان غرضه هو رضى الله سبحانه، وخدمة المذهب والمجتمع.
2-أن تقوم بذكر معروفه، والثناء عليه ومدحه لما أسدى إليك من معروف.
3-أن تخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله سبحانه، بحيث تشركه في دعائك، بل تخصه بالدعاء مستقلاً.
ومتى تحقق منك ذلك تكون قد أديت شكره، في السر والعلانية، لكن هذا لا يعني أنك قد أديت حقه، بل لا زال حقه لم يؤدَ بعد، بل عليك من حقه أيضاً ما يلي:
إن قدرت في يوم من الأيام أن تقوم بمكافأته، ومجازاته، فعليك أن تفعل ذلك.
وإذا لم تتمكن من تقديم المجازاة والمكافأة له، فعليك أن تؤدي الأمور السابقة التي ذكرناها، وتبقى موطناً نفسك عليها.
حق من أساءك:
قال(ع):وحق من أساءك أن تعفو عنه، فإن علمت أن العفو يضره، انتصرت، قال الله تبارك وتعالى:- (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل)، وقال تعالى:- (وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لهو خير الصابرين)، هذا في العمد، فإن لم يكن عمد لم تظلمه بتعمد الانتصار منه فتكون قد كافأته في تعمد على خطأ ورفقت به ورددته بألطف ما تقدر عليه.
يقدم الإمام زين العابدين(ع)هنا الخلق القرآني، القائم على مقابلة السيئة بالحسنة تمحوها، وأنه لا تستوي الحسنة ولا السيئة.
ولذا يشير إلى أنه لا ينبغي أن ترد الإساءة بالإساءة، لأن العفو لا تستوي قيمته وأثره مع الإساءة.
ومن الواضح أن هذا يترك أكبر الأثر لتتحول الخصومة والعداوة إلى المحبة والإخاء.
نعم يشير زين العابدين(ع)إلى أنه ينبغي أن لا يساء استخدام هذا المبدأ القرآني، فلا يعطى العفو من لا يفقه قيمته ومعناه، فينص على أن العفو إنما يكون في المورد الذي لا يترك ضرراً، وإلا فلا يعمل به.
ضرر العفو:
ويكون العفو ضارا بالمسيء في بعض الحالات:
الأولى:إذا كان المسيء يتصور أن العفو الصادر بحقه صدر بسبب عجز في العافي.
الثانية:إذا كان العفو من الأمور المشجعة للمسيء على العودة إلى الإساءة.
الثالثة:إذا العفو يسبب خللاً في الفهم عند المسيء، فيتصور أن العفو عنه يعني أنه لم يقم بالإساءة، ولم يرتكب خطئاً.
خاتمة:
ولنختم حديثنا عن رسالة الحقوق، هذا المنهج التربوي القيم الذي قدمه الإمام زين العابدين(ع)لإصلاح واقع الأمة السيئ وهدايتها، ببعض المفردات الحقوقية الصادرة عن رائد المنهج الحقوقي الإمام زين العابدين(ع)، إذ مضافاً لرسالة الحقوق، وردت عنه مفردات حقوقية كثيرة، في أكثر من حديث من أحاديثه، نقتصر منها على حديث واحد، للتدليل على الأهمية الخاصة التي يوليها الإمام زين العابدين(ع)لمسألة الحقوق والواجبات، كما أنها دعوة روحية وإنسانية للقيام بواجبات المستضعفين والمنكوبين وأداء حقوقهم.
عن أبي حمزة الثمالي عن علي بن الحسين(ع)قال:من قضى لأخيه حاجة فبحاجة الله بدأ، وقضى الله له بها مئة حاجة في إحداهن الجنة، ومن نفس عن أخيه كربة نفس الله عنه كربه يوم القيامة بالغاً ما بلغت، ومن أعانه على ظالم له أعانه الله على إجازة الصراط عند دحض الأقدام، ومن سعى له في حاجة حتى قضاها له، فسر بقضائها فكان كإدخال السرور على رسول الله(ص).
ومن أطعمه من جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، ومن كساه من عري كساه الله من إستبرق وحرير، ومن كساه من غير عري لم يزل في ضمان الله ما دام على المكسي من الثوب سلك.
ومن كفاه بما هو يُمهنُه ويكف وجهه، ويصل به يديه اخدمه الله الولدان المخلدين، ومن حمله من رحله بعثه الله يوم القيامة إلى الموقف على ناقة من نوق الجنة يباهي به الملائكة.
ومن كفنه عند موته فكأنما كساه من يوم ولدته أمه إلى يوم القيامة، ومن زوجه زوجة يأنس بها، ويسكن إليها آنسه الله في قبره بصورة أحب أهله إليه، ومن عاده عند مرضه حفته الملائكة تدعو له حتى ينصرف وتقول:طبت وطابت لك الجنة.
والله لقضاء حاجته أحب إلى الله من صيام شهرين متتابعين باعتكافهما في الشهر الحرام.(ثواب الأعمال للشيخ الصدوق).