قال الإمام الحسن(ع): إني لله سائل، وفيه راغب، وأنا استحي أن أكون سائلاً، وأرد سائلاً، وأن الله عودني عادة أن يفيض نعمه عليّ، وعودته أن أفيض نعمه على الناس فأخشى إن قطعت العادة أن ينعني العادة.
مدخل:
تضمنت سيرة الإمام الحسن الزكي(ع) عدة من الدروس العظيمة التي يجدر بكل من أطلع على سيرته العطرة أن يستفيد منها، فتلك الصفات النفسية التي امتلكها الإمام(ع) كالحلم وكظم الغيظ، والتواضع والصفح عمن أساء إليه، تمثل كل واحدة منها درساً عملياً يستفاد منه في الحياة العامة للأفراد والمجتمعات.
والجود والكرم، هما الصفتان اللتان غطتا على بقية الصفات الأخرى، بحيث أنه متى ما ذكر الإمام الحسن(ع)، كانت هاتان الصفتان أول ما يتبادر إلى الذهن، بل ما عاد يتصور ذكر الإمام الحسن(ع) دونما إشارة إلى وصفه بالجود والكرم والسخاء، وكفى أنه عرف(ع) بكونه كريم أهل البيت(ع).
وعلى أي حال، لا يخفى أن هاتين الصفتين تكشفان عن عمق الفضيلة في شخصه الكريم، وليسا منطلقين من سرف أو سوء تدبير، بل ينطلقان من توكل واعتقاد.
دعوى باطلة:
هذا وقد حاول الأمويون الوقوف أمام هذه الفضيلة والصفة الكريمة في الإمام (ع) فعمدوا إلى تحريف قضية مشهورة كي يُظهروا للآخرين عدم كرم الإمام الحسن(ع) وتميزه عن الآخرين في هذا المجال، والقصة التي عنيت هي ما ذكره المؤرخون من أن الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر خرجوا من المدينة إلى مكة لأداء فريضة الحج يقطعون المسافة مشياً على الأقدام، وتجنبوا الجادة رحمة بالحجاج حتى لا يتكلفوا السير على أقدامهم ، ففاتـتهم أثقالهم وأمتعتهم فجاعوا وعطشوا، فقصدوا خباء في بعض نواحي الصحراء فوجدوا فيه عجوزاً، فطلبوا منها الطعام والشراب، فقالت: ليس عندي سوى هذه الشاة فاذبحوها فذبحها أحدهم وشوت لهم من لحمها، ولما أرادوا المضي قالوا لها: يا أمة الله نحن نفر من قريش نريد مكة فإذا رجعنا إلى المدينة فألمي بنا فإنا صانعون بك خيراً إن شاء الله، ومضوا في طريقهم، ولما جاء زوجها أخبرته بما جرى لها، فقال: ويحك تذبحين شاتي لقوم لا تعرفينهم ثم تقولين نفر من قريش.
ومضت الأيام فأصابهم جدب أضر بحالهم فقصدت المدينة هي وزوجها لطلب العيش، فرآها الإمام أبو محمد الحسن فعرفها ولم تعرفه، فقال لها: أنا ضيفك يوم كذا وكذا وأعطاها ألف شاة وألف دينار، وأرسلها إلى أخيه الحسين(ع) وعبد الله بن جعفر، فأعطاها كل واحد منهما مثل ذلك، فعادت إلى حيها بعد الفقر المدقع من أثرى أهل الحي وأغناهم.
لكن الأمويـين وأصحابهم، لم يرق لهم ذلك، فادعوا أن الحسن(ع) أعطاها مقداراً وقد أعطاه الإمام الحسن(ع) ضعف ما أعطاها الإمام الحسن، وأعطاها عبد الله بن جعفر ضعف ما أعطاها الإمامان الحسنان، وهم بهذا يدعون عدم صحة ما يحكى عن كرم الحسن(ع) وجود وسخائه وكثرة عطائه.
مع أن الصحيح هو ما حكيناه عن غير واحد من المؤرخين وأن القضية كما ذكرنا، وليس كما يدعى من قبل الأمويون وأزلامهم.
دواعي الإنفاق:
وعلى أي حال، عندما نتأمل في فضيلة الجود والكرم والسخاء عند الإمام الحسن(ع) نحتاج إلى دراسة معمقة في الدوافع التي دعت الإمام الحسن(ع) إلى ممارسة هذه الصفة، ضرورة أنه قد يتصور كون هذا الأمر من الإسراف، أما لو وصلنا إلى أن هناك دوافع عالية، انطلق الإمام في ممارسة الإنفاق منها، فلا ريب في أنه سيثبت كونها الصفات العالية، والفضائل الحسنة.
البعد الإيماني:
هذا وعندما نود أن نعرف دواعي إقدام الإمام الحسن(ع) على كثرة الإنفاق نجد أسباباً عديدة تستفاد من خلال القرآن الكريم، وتحث عليها الآيات الشريفة، فلاحظ قوله تعالى، عندما يتحدث عن وصف المتقين، قال تعالى:- (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين* الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)[1]، وبيان صفاتهم، فذكرت الآية ثلاث صفات لهم، ثالثها الإنفاق، وهذا يعني أن الإنفاق في سبيل الله يشير إلى تكامل علاقة الإنسان بربه، لأنه عندما ينفق مما رزقه الله تعالى، فهو يقر بأن كل ما في الكون ملكاً لله سبحانه، والاعتراف بهذه الملكية يثبت عليه مسؤولية البذل والعطاء، فلا يكون عطائه مناً أو تفضلاً، بل هو وظيفة، لأنه أمين على ملك الله، فيدفعه لمستحقه، ويشير إلى هذا قوله تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة)[2].
فإذاً أول دواعي الإنفاق هو كون الإنسان ينفق مما رزقه الله سبحانه وتعالى، مما يوجب ارتباط العبد بالله، وازدياد علاقته به.
هذا وربما يتصور أنه إذا كان داعي الإنفاق، إحساس الإنسان أن الله سبحانه وتعالى مالك لكل شيء، مما يعني أنه ينفق من مال الله تعالى، فلا يترتب على ذلك أي فائدة أو أثر، ولا يكون للمنفق حينها فضل في إنفاقه.
إلا أننا نضيف بأنه ينفق مما رزقه الله تعالى وملكه إياه ملكاً اعتبارياً، مع إيمانه بأنه وكل ما يملكه لله سبحانه، فهو ينفق من ماله الذي ملكه الله إياه، ذلك لأنه وما يملكه ملك لله سبحانه، فيكون له فضل في إنفاقه.
البعد الاجتماعي:
هذا والداعي الآخر الذي دعى الإمام الحسن الزكي(ع) للإقدام على الإنفاق، والإكثار منه تربية الأمة الإسلامية على القيمة الاجتماعية للإنفاق، ذلك أن التشريع الإسلامي لم ينظر لأطروحة الإنفاق من خلال كونه عملاً فردياً يسعى من خلاله الفرد لتحصيل الثواب من الله سبحانه، بل عمد الإسلام في تشريعه إلى ملاحظة القيمة الاجتماعية لهذا العمل، كونه يتضمن رعاية واقعية للمجتمع، لأن التشريعات السماوية عمدت إلى ملاحظة كافة الأبعاد الإنسانية في زوايا الفرد والمجتمع، سواء الروحية منها، أم المادية، والإنفاق يمثل النموذج الحي في هذا المجال، ضرورة أنه لا ينظر فيه إلى خصوص البعد المادي والقيمة المادية، بل ينظر أيضاً البعد الإنساني من خلال ما يعيشه الفرد المسلم من هموم الأمة، والصعوبات التي يعانيها الأفراد وما يلاقونه من ضنك نتيجة حالة الفقر، مما يجعل المجتمع مفتقداً للاستقرار الاقتصادي، والكفاية عن الحاجة.
وبعبارة أخرى، إن أطروحة الإسلام في الإنفاق التي طبقها الإمام الحسن(ع) تسعى إلى جعل الفرد يعيش حالة من الإحساس بالمسؤولية، ضرورة أنه عندما يلتفت إلى أن الإنفاق يمثل عنصراً اجتماعياً، فيعني ذلك أن يعيش المؤمن هموم المجتمع، وكأنها همومه الخاصة، وكما يعمد لعلاج تلك الهموم، فلابد أن يعمد إلى علاج هموم المجتمع أيضاً.
وهذا يعني أن للإنفاق في أطروحة الإسلام بعدين، أحدهما معنوي روحي، ذلك أنه يدخل في تكوين شخصية الإنسان، ومدى إنسانيته.
وثانيهما، اجتماعي، من خلال سعيه إلى تحصيل الاستقرار والكفاية لكافة أفراد المجتمع.
وهذا المعنى يؤكد أن التشريعات الإسلامية لا تنحصر في جانب واحد، بل هي شاملة لكافة جوانب حياة الأفراد، فالصلاة مثلاً لا يلحظ فيها القيمة المعنوية للفرد فقط، بل يلحظ فيها أيضاً الأبعاد الأخلاقية الاجتماعية، لكونه السبيل لإبعاد الإنسان عن الفحشاء والمنكر، وهذه قيمة اجتماعية، وكذا أيضاً الصوم، لأنه ليس تربية روحية للفرد فقط، يقويه على التقوى والسيطرة على غرائز النفس، بل يجعله يعيش حالة الإحساس بالأمة والشعور بما يعانيه الفقراء وغيرهم، وهكذا.
وهذا هو ما يميز أطروحة الإسلام في عملية الإنفاق دون بقية المذاهب الاقتصادية، ذلك أن بعض المذاهب الاقتصادية الأخرى، لا هم لها إلا إزالة الفقر، والتفاوت بين أفراد المجتمع، بينما أطروحة الإسلام كما عرفت تعمد إلى التربية التكاملية للفرد، سواء في الجانب الاقتصادي برفع حوائج المحتاجين وسد عوز الفقراء، أم في الجانب التربوي، لكون الإنفاق سبيلاً من سبل تكافل المجتمع، أم في الجانب الأخلاقي، لكونه يجعل الفرد متحلياً بأكرم الفضائل والسجايا، وهما صفتا الكرم والجود.
فإذاً أراد الإمام الحسن(ع)، أن يعطي الأمة درسين من خلال ما كان يقدم عليه من الإنفاق والجود والسخاء، أولهما: بيان القيمة الاجتماعية للإنفاق، وما له من أثر في علاج مشكلة الفقر، وإيجاد الترابط الاجتماعي بين أفراده، وإحساسهم بحالة التكافل.
ثانيهما: بيان شمولية أطروحة الإسلام في تشريعاته ومعطياته، ذلك أنها لا تسعى لتربية الفرد بما هو فرد، بل تعمد إلى تربية الفرد بما هو عنصر فاعل في المجتمع، يتكون المجتمع منه ومن بقية الأفراد.
مكافحة موانع الفقر:
لقد تحدث القرآن الكريم بأن هناك موانع تمنع الناس من الإقدام على عملية الإنفاق، فضلاً عن الكرم والسخاء، فقال تعالى في بيان ذلك:- (الشيطان يعدكم الفقر)[3]، فكثير من الأفراد يرغب في الإنفاق، إلا أن التسويلات الشيطانية تصل إليه، فتمثل حاجزاً يمنعه من ذلك، ولا يتصور أن التسويلات الشيطانية في وعد الإنسان بالفقر متى ما أقدم على الإنفاق، تنحصر في خصوص وقوعه في الفقر بمعنى كونه معدماً، لا، بل تشمل حتى التسويل بقلة المال، ونقصه، بل ربما أوهمت المنفق أن الإنفاق يمثل حجر عقبة في إكمال بعض مشاريعه التي يرغب الإقدام عليها متى أنفق، فهو ربما أخر مشروع زوجه، أو أخر مشروع بنائه داراً لسكناه يأوي لها وعياله، وهكذا.
وبالجملة، يشير القرآن الكريم إلى فكرة خاطئة عند كثيرين، تحجبهم عن تحصيل خير كثير، ونيل عطاء جم، نتيجة استماعهم لتسويلات شيطانية بأن الإنفاق سبب من أسباب الفقر.
وهنا كما عالج القرآن الكريم هذه القضية، وأشار إلى أن ذلك مجرد تسويلات شيطانية لا ينبغي للمؤمن أن يلتفت إليها، أيضاً عالجها الإمام الحسن الزكي(ع)، ضرورة أن إقدامه ليس على الإنفاق، بل على الإكثار من الإنفاق حتى عرف عنه الجود والسخاء، وكثرة الكرم، يكشف عن أن المال لا ينقص متى ما أنفق منه على المحتاجين والفقراء، وأصحاب العوز، بل على العكس تماماً، فإنه كلما ازداد أنفاق الإنسان كان ذلك سبباً رئيساً لنماء المال وزيادته.
على أنه يمكن القول أيضاً أن ما أراد الإمام الحسن(ع) تعليمه الأمة، هو عنصر الثقة بالله والتوكل عليه، بمعنى أن يكون للفرد توكلاً واعياً على الله سبحانه، وأنه يضمن رزقه، ومتى ما أخلص لربه وأطاعه بامتـثال ما أمر به، كالإنفاق مثلاً كان ذلك موجباً لاستحقاقه رضى الله وعطائه، وبالتالي لا معنى لأن يخاف شيئاً ما دام محسن الظن به تعالى.
وقفة:
هذا ولا بأس ونحن نعيش هذه المناسبة الأليمة، وهي ذكرى شهادة الإمام الحسن(ع) أن نستلهم من سيرته المباركة درساً عملياً في جانب الإنفاق والكرم والجود، إذ أننا نجد اليوم تراجعاً في الإقدام على هذه الخصلة والفضيلة، فهناك العديد من مؤسساتنا الخيرية تحتاج الدعم المادي، لكننا لا نرى ذلك بشكل واضح بين أفراد المجتمع، وهذا لا يعني أننا ننفي وجود المنفقين والمحسنين في مجتمعنا، بل ولله الحمد هناك الكثير منهم بيننا، وأياديهم البيضاء في مجالات عديدة لا تنكر، لكننا نطمح إلى المزيد، فنحن لو تأملنا سيرة من سبقنا من الآباء والأجداد، ومع أنهم كانوا على مستوى بسيط من المعرفة الدينية، إلا أننا نجد أن أكثرهم يجود بما يملك ولو بالقليل منه من أجل المساهمة في الأعمال الخيرية، أو في سبيل إحياء ذكرى أهل البيت(ع)، بينما نجد اليوم شيئاً من التراجع، الذي لا ينبغي وجوده بيننا، ذلك لأننا ولله الحمد اليوم نعيش حالة من الوعي المعرفي، والدراية بالأمور الدينية، مما يستدعي أن يكون الإقدام منا في هذا المجال أفضل مما كان عليه السابقون من الآباء والأجداد.
ولذا نتمنى أن نستفيد من هذا الدرس الذي قدمه لنا الإمام الحسن الزكي(ع) في سيرته المباركة، ونسأل الله تعالى أن يوفقنا لنكون من المنفقين، والجائدين بخير ما يملكون في سبيل الله تعالى، ورغبة في إحراز رضاه.
——————————————————————————–
[1] سورة البقرة الآيتان رقم 2-3.
[2] سورة البقرة الآية رقم 254.
[3] سورة البقرة الآية رقم 268.