علم علي بن أبي طالب عليه السلام

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
112
0

حتى يستطيع علي بن أبي طالب الوفاء بمسؤوليات ولايته الكبرى في دين الله تعالى،لابد وأن يكون صاحب سعة في الآفاق العلمية،فهي من ضرورات الإصطفاء الرباني له(ع)،إذ يستحيل عليه تحقيق متطلبات هذا الإرتضاء دون أن يمده الله سبحانه بما يكفيه من العلم بجميع آفاق الولاية ومستلزماتها،القريـبة والبعيدة،البارزة منها والخفية على امتداد ما جعلت له من الزمان والأجيال البشرية.

هذا ولرؤية شيء من الآفاق العلمية لأمير المؤمنين(ع)،نحاول في البداية متابعة النصوص التي تسالم على نقلها المؤرخون وحفظة السنة،قبل أن نستلهم دلالتها العامة في فهم شيء مما تعنيه طبيعة هذه الآفاق ومداها فيه،وبالخصوص لإثبات أحقية أمير المؤمنين(ع)بالخلافة والقيادة للأمة بعد النبي(ص).

هذا ونلاحظ ثلاث طوائف من النصوص لها أهميتها في تحقيق الغاية المطلوبة:

الطائفة الأولى:ما تواتر عن الرسول(ص)في بيان هذا الجانب المهم من شخصية أمير المؤمنين(ع)،حيث كان رسول الله أول من نوه بعلم علي وأشاد به،وبين مصدره،بل وكان(ص)يستغل كل فرصة مناسبة لإلفات بصائر المسلمين إلى هذه الفضيلة الكبرى من علي(ع)وتعريفهم بميزاتها ودلالاتها في شخصيته،وسمو ما لديه منها على كل ما لدى الآخرين كافة،كما كان رسول الله(ص)كثيراً ما يشير-وهذا هو الأكثر أهمية في إشادته(ص)بعلم علي-إلى الرابطة الوثيقة بين علم نفسه(ص)وعلم علي(ع)ووحدة مصدرهما معاً،وإن هذا المصدر هو الله سبحانه الذي بعث محمداً(ص)برسالته وارتضى علياً(ع)لولايته،بل ووحدة ما بين علميهما وعلم جميع الأنبياء(ع)من هذه الناحية.

وهذه النصوص تبلغ حد التواتر،حيث لم يختص نقلها بطائفة دون طائفة،قال(ص):أنا مدينة العلم وعلي بابها،فمن أراد المدينة فليأتها من بابها[1].

الطائفة الثانية:ما أكده علي(ع)نفسه من هذه الآفاق في شخصيته.

فهو(ع)بالرغم مما علمته الأمة من فضائله الكثيرة،كان يخص هذه السمة من ذاته بالتأكيد،وإلفات الأنظار،وكان كثيراً ما يتحدى الناس أن يجدوا له فيها بديلاً أو شبهاً،قال(ع):علمني رسول الله(ص)ألف باب من العلم واستنبطت من كل باب ألف باب[2].

الطائفة الثالثة:ما أقره الآخرون لعلي(ع)من هذه الآفاق.

فعلم علي(ع)فضيلة يعلمها جميع من عرفه،وأدرك منه بعض خصائصه،وما أكثر كلمات الإطراء والإشادة بهذا العلم منه(ع).

فقد قال أبو بكر في قضية سأله فيها أحد اليهود،مسألة وأجاب عنه أمير المؤمنين علي(ع):يا كاشف الكربات أنت فارج الهم[3].

وهذا عمر له كلمات مشهورة في كتب التاريخ والسنة،كقوله:لولا علي هلك عمر،وأعوذ بالله أن أعيش في قوم لست فيهم با ابا الحسن[4].

ويقول عثمان:لولا علي هلك عثمان[5].

وقد كان معاوية يكتب فيما ينـزل به ليسأل علي بن أبي طالب(ع)فلما بلغه مقتله قال:ذهب الفقه والعلم بموت ابن أبي طالب[6]، إلى غير ذلك.

والواقع أن علم علي من الوضوح والجلاء بدرجة من البداهة،بحيث لا أعتقد أن أحداً عرف من أمر علي(ع)شيئاً يسيراً فيرتاب فيه.

ثم إننا حينما نـتحدث عن علم أمير المؤمنين(ع)نلحظ نقطتين رئيسيتين:

الأولى:الشمولية في علمه(ع).

الثانية:علمه(ع)بالغيب.

الشمولية في علم علي(ع):

أما الشمولية المتصورة في علمه(ع)الذي آتاه الله تعالى إياه،فينبغي ملاحظته من خلال أمرين،لكل منهما دلالاته في بيان ما تعنيه هذه الشمولية:

الأول:دور الإسلام في قيام الحق في الوجود الإنساني.

الثاني:دور رسالة النبي(ص)في البشرية كخاتمة لرسالات الله تعالى في الناس.

حديث أنا مدينة العلم:

ثم إنه لما لم يكن غرضنا هنا التحدث عن علم الإمام علي(ع)بما هو هو،وإنما غرضنا الإستفادة من الحديث النبوي الوارد:أنا مدينة اعلم وعلي بابها،فمن أراد المدينة فليأتها من بابها،لإثبات إمامته(ع)،نحيل هذه البحوث لوقت آخر،ونحاول تسليط الضوء على خصوص هذه الناحية.

وعلى أي حال يعتبر من أجلى المصاديق الواردة في علم أمير المؤمنين علي(ع)حديث المدينة المروي عن رسول الله(ص)بطرق عديدة متواترة،قد رواه عنه غير واحد من الصحابة،كما تمت روايته عن كثيرين من التابعين،وهو من الأحاديث المتواترة عند الفريقين.

لكن ما يهمنا في المقام هو التعرض لكيفية الإستدلال به على إمامة أمير المؤمنين(ع).

وبتعبير آخر،كيف يمكننا أن نتمسك بهذا الحديث وأمثاله لإثبات الأفضلية للأمير(ع)ومن ثم كونه الأحق بالخلافة والإمامة بعد النبي(ص)وأن ما جرى على أيدي غيره،إنما هو غصب لحقه وسلب لما وهبه الله إياه،فنقول:

إن هذا الحديث الشريف،دال على أعلمية أمير المؤمنين(ع)،ومن الواضح الذي لا خفاء فيه أن الأعلمية تستلزم الأفضلية،ومتى ثبتت الأفضلية،لزم ثبوت الخلافة له،إذا لابد من أن يكون الخليفة هو الشخص الأفضل،الذي ثبت أنه أمير المؤمنين(ع).

هذا وكيفية دلالته على أعلمية أمير المؤمنين،من خلال أنه باب مدينة العلم،فلو كان غيره أعلم منه لزم النقص في الباب،والنقص فيه يفضي إلى النقص في المدينة،وهذا ما لايجترئ مسلم على تقوله،ولا مؤمن على تخيله.

كما أن مقتضى كونه باب مدينة العلم،يحكم العقل أنه لا يكون باباً للمدينة إلا من كان محيطاً بجميع علومها،وهذا المعنى يستلزم أعلمية أمير المؤمنين(ع)من كافة الخلائق،فضلاً عن سائر الأصحاب،لأن رسول الله كان أفضل وأكمل من جميع الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين بالإجماع.

ثم إن هذا الذي ذكرناه من كون مفاد حديث المدينة أن علياً أعلم الخلق بعد رسول الله(ص)ليس بدعاً من القول نختص به نحن الشيعة،بل قد طفحت به كلمات أهل السنة،ولنشر لواحدة من تلك الكلمات حذراً من الإطالة،قال شهاب الدين أحمد في توضيح الدلائل:الباب الخامس عشر في أن النبي(ص)دار حكمة ومدينة علم وعلي لهما باب،وأنه أعلم الناس بالله تعالى وأحكامه وآياته وكلامه بلا ارتياب…الخ…

المشابهة بين علي وآدم:

هذا ويمكننا هنا المشابهة بين أمير المؤمنين،ونبي الله آدم(ع)،إذ كما أن آدم فضل على جميع الملائكة بالعلم وهو أفضل الخصال،فكذلك أمير المؤمنين(ع)فضل على جميع الأمة بالعلم والحكمة.

دلالة الحديث على عصمة أمير المؤمنين(ع):

هذا ويدل الحديث الشريف على عصمة أمير المؤمنين(ع)،ولا ريب حينئذٍ في خلافته بعد النبي(ص)بلا فصل.

كما أنه يدل على كونه(ع)واسطة العلوم،وأن الأمة يجب عليها أن تستمد جميع علومها من رسول الله(ص)بواسطة أمير المؤمنين(ع)،وهذا أيضاً طريق لإثبات خلافته وإمامته على الأمة،وأنه المقدم على غيره.

هذا ويشهد للزوم الرجوع إليه والأخذ منه:ذيل الحديث الشريف،حيث جاء فيه:فمن أراد العلم فليأت الباب،وقال أيضاً:كذب من زعم أنه يصل إلى المدينة إلا من الباب.

قال ابن شهراشوب(ره)بعد نقله الحديث الشريف:وهذا يقتضي وجوب الرجوع إلى أمير المؤمنين(ع)،لأنه كنى عنه بالمدينة،وأخبر أن الوصول إلى علمه من جهة علي خاصة،لأنه جعله كباب المدينة الذي لا يدخل إليها إلا منه،ثم أوجب ذلك بالأمر به بقوله:فليأت الباب،وفيه دليل على عصمته،لأنه من ليس بمعصوم يصح منه وقوع القبيح،فإذا وقع كان الإقتداء به قبيحاً فيؤدي إلى أن يكون(ص)قد أمر بالقبيح وذلك لا يجوز،ويدل أيضاً:أنه أعلم الأمة،يؤيد ذلك ما قد علمناه من اختلافها ورجوع بعضها إلى بعض وغناه(ع)عنها.

بل ذكر القاضي نور الله التستري في كتابه القيم إحقاق الحق:أن من أخذ شيئاً من هذه العلوم والحكم التي احتوى عليها رسول الله(ص)من غير جهة علي(ع)كان عاصياً كالسارق والمتسور،لأن السارق والمتسور إذا دخلا من غير الباب المأمور بها ووصلا إلى بغيتهما كانا عاصيـين،وقوله(ص):فمن أراد العلم فليأت الباب،ليس المراد به التخيـير،بل المراد به الإيجاب والتهديد كقوله عز وجل:- (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)والدليل على ذلك:أنه ليس ههنا نبي غير محمد(ص)هو مدينة العلم ودار الحكمة،فيكون العالم مخيراً بين الأخذ من أحدهما دون الآخر،وفقد ذلك دليل على إيجابه وأنه فرض لازم.

قصة جالوت:

هذا ومما يؤكد أن الأعلمية تستلزم كون الأعلم خليفة وإماماً،قصة جالوت الواردة في القرآن الكريم،قال تعالى:- (ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا ومالنا لا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم والله عليم بالظالمين.وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم).

فقد ذكر الثعلبي والبغوي والنسفي:أنه كان أعلم بني إسرائيل في وقته[7].

فإذن كون علي(ع)أعلم الأمة،ومعلمها المقدم،وفقيهها الذي ترجع له في حل كافة مشكلاتها ومعضلاتها يشير إلى أفضلية لعلي،وأعلمية له على كافة من كان معه،فيكون هو الأحق ممن سبقه بقيادة الأمة،وهو الخليفة الأحق بمنصب الزعامة والخلافة والإمامة بعد النبي(ص).

خاتمة:

هذا ويخطر في الذهن أن السبب الذي دعى أمير المؤمنين(ع)على التركيز على هذه الصفة من صفاته،والإهتمام بها،يعود لما ذكرنا،بمعنى أن كونه أعلم الأمة وأفضلها وأنه المرجع الذي يرجع إليه،بإقرار من الأمة بأفضليته وأعلميته،فيكون الأحق بالمنصب الذي جلس فيه غيره.

السلام عليك يا أمير المؤمنين،يا أول من ظلم في هذا العالم،ثبتنا الله على ولايتك والبراءة من أعدائك،وحشرنا غداً في زمرتك،وزمرة الذرية الطاهرة من ولدك.

—————————————————-

[1] فضائل الخمسة من الصحاح الستة ج 2 ص 233.

[2] المصدر السابق ص 231.

[3] احقاق الحق ج 8 ص 240.

[4] فضائل الخمسة ج 2 ص 273،احقاق الحق.

[5] الغدير ج 8 ص 219.

[6] فضائل الخمسة ج 2 ص 305.

[7] معالم التنـزيل ج 1 ص 343.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة