قال تعالى:- (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين)[1].
مدخل:
كنا قد تحدثنا حول العمل الصالح عند المذاهب المختلفة، فأشرنا للعمل الصالح عند المذهب الرأسمالي، كما تعرضنا للعمل الصالح عند المذهب الماركسي، وذكرنا حقيقة العمل الصالح في الأطروحة الإسلامية، وأشرنا إلى أن أطروحة الإسلامية إلى العمل الصالح، أكثر واقعية منه عند المذهب الرأسمالي، والمذهب الماركسي.
والآن نود الحديث عن مقومات العمل الصالح.
مقومات العمل الصالح:
لا ريب في أن هناك مقومات، وأركان وشرائط، متى توفرت انطبق عنوان العمل الصالح عند المذاهب، سواء كان المذهب الرأسمالي، أم المذهب الماركسي، أو الإسلام.
ولكننا سوف نقصر حديثنا على مقومات العمل الصالح في خصوص الأطروحة الإسلامية، دون تعرض منا لمقومات في المذهب الرأسمالي والماركسي.
لا عمل بلا علم:
أول مقومات العمل الصالح وشرائطه في الإسلام، هو أن يكون العمل مبتنياً على علم ومعرفة، فبمقدار ما ورد الحث في الشريعة السمحاء على أن يتحول عمل الإنسان إلى ممارسة وعمل، ورد الحث الشديد على أن يكون هذا العمل ناجماً عن علم ومعرفة، لكي لا يكون ما يفسده الإنسان أكثر مما يصلحه.
ولعل في تأكيد الإسلام على أهمية العلم وكونه شرطاً في العمل الصالح، يبرز جهة تفضيل العالم على الجاهل، ضرورة أن العالم بما يملك من علم يحرز شرطاً من شروط صحة العمل وتحقيقه على الوجه المطلوب، وهذا بخلاف الجاهل فإنه يفتقد شرطاً مقوماً لصحة العمل وموفقيته والإتيان به على الوجه المطلوب، فيقوى احتمال وقوعه في الخطأ والاشتباه، فكان مقتضى الإنصاف أن لا يتساوى الجاهل والعالم، قال تعالى:- (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون)[2].
ميزة العمل على هدى وبصيرة:
ثم إن مقتضى كون العلم والمعرفة شرطاً ومقوماً للعمل الصالح، استدعى ذلك أن يبرز الإسلام تمايزاً بين من يأتي بعمله على علم ومعرفة وهدى وبصيرة، وبين من يكون العمل الصادر منه مفتقداً لهذه السمات والمقومات، حيث أن الثاني سوف يكون متخبطاً في الظلمات والشبهات، فلاحظ قوله تعالى:- (أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله واتبعوا أهواءهم)[3]. وقال سبحانه:- (أو من كان ميتاً فأحيـيناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها)[4].
وهذا المضمون ورد في النصوص المأثورة عن المعصومين(ع)، فقد جاء عن رسول الله(ص) أنه قال: من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح[5].
فإن من الواضح أن الحديث النبوي يقرر أن غير العارف قد يتعرض لخسارة أكبر من النفع الذي يرجوه من عمله، لأنه بسبب جهله يفسد أكثر مما يصلح.
وورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق ولا يزيده سرعة السير من الطريق إلا بعداً[6].
وجاء عنه(ع) أيضاً قوله: لا يقبل الله عز وجل عملاً إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، فمن عرف دلته المعرفة على العمل، ومن لم يعمل فلا معرفة له، إن الإيمان بعضه من بعض[7].
والحاصل، ما لم يكن العمل منذ البداية ممتلكاً وضوحاً يتحرك من خلاله وغاية ينـتهي إليها، وأسلوباً ينتهجه، فإن هذا العمل لن يعود بمردود إيجابي على صاحبه، ولن يحقق غرضاً مطلوباً، ذلك لأن المفروض أنه لا غرض محدد وواضح إليه، بل هو متخبط ومتقلب يعيش حالة من الارتباك.
المعرفة تعني الوعي:
ولا يخفى أن هذه النصوص بقسميها، قرآنية ومعصومية، في بعديها الذين تضمنـتهما، أعني مدح العمل مع العلم، وذم العمل المجرد عن ذلك، كلها تشير إلى أمر واحد وهو أن ينبعث العامل حين العمل عن وعي، ذلك أن الإنسان خلق كمخلوق واعٍ وعاقل، فوعيه وعقله يلزمانه أن لا يتحرك من دون هدف وغاية، وإلا كان عمله نوعاً من أنواع اللهو والعبث.
ولذا يشترط في الشخصية الإسلامية أن تعيش حالة من الوعي الإيماني، بالنظر إلى الأشياء والعالم، فتبصر الله في خلقه، وعند نعمه ولا تنساه نسياناً بلا شعور، بل تعيش وجوده.
بل إن هناك من يتمكن من تجاوز هذه المرحلة والانتقال لمرحلة أعلى مستوى، فيصل إلى مرحلة اليقين، فيكون هو والجنة كمن قد رآها، فهم فيها منعمون.
مراحل الاعتقاد:
ولكي يتضح هذا المعنى أكثر، نشير إلى مراحل الاعتقاد بالنسبة إلى الناس، فإن الناس بحسب الاعتقاد يمكن أن يصنفوا إلى ثلاثة أصناف كما ورد بذلك النص عن الإمام الصادق(ع).
المرحلة الأولى: مرحلة الإسلام، وهي أن يؤمن الإنسان إيمان فهم بالتوحيد، فيشهد أنه: لا إله إلا الله، محمد رسول الله(ص).
ولا تتضمن هذه المرحلة إلا التصديق بالله سبحانه، وكماله وتوحيده، ونبوة النبي الأكرم محمد(ص)، مع الإيمان الإجمالي بما جاء به النبي(ص).
المرحلة الثانية: مرحلة الإيمان، وهي أن تؤمن بالحقائق الدينية الكبرى، إيمان وعي لا مجرد إيمان فهم.
المرحلة الثالثة: مرحلة اليقين، وهي أعلى المراحل وأسماها، وهي مرحلة الإحساس وانكشاف الغطاء، وهي ما تشير إليه كلمة أمير المؤمنين(ع): لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقيناً. وهي المرحلة التي يتحول فيها الغيب إلى مرحلة الشهود.
مصاحبة الأحمق:
هذا ولما كان الجاهل شخصية لا تؤمن عواقبها، خصوصاً وأنه يفسد أكثر مما يصلح، ورد النهي من المعصومين(ع) عن مصاحبة الأحمق، وهو من لا يتفكر في عواقب الأعمال، ولا يملك متطلبات العمل الناجح، فهو أراد أن ينفع صاحبه من خلال ما يقوم به من عمل، إلا أنه وبسبب جهله يضره، فقد ورد في وصية أمير المؤمنين(ع) لولده الإمام الحسن(ع) قوله: يا بني، إياك ومصاحبة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك[8].
مقياس العمل بموافقته للعقل والشرع:
ومن خلال ما أشرنا إليه من كون العلم له دور أساس في انطباق عنوان العمل الصالح على أي عمل يصدر من العامل، اعتبرت الشريعة الإسلامية مقياس العمل من خلال موافقته للعقل واستجابته للشرع، وهذا يعني أن المقياس فيه لا يتحدد بالكثرة والتعدد والزيادة، فقد روي عن رسول الله(ص) أنه أثنى قوم بحضرته على رجل حتى ذكروا جميع خصال الخير، فقال رسول الله(ص): كيف عقل الرجل؟ فقالوا: يا رسول الله، نخبرك عنه باجتهاده في العبادة وأصناف الخير، تسألنا عن عقله؟
فقال(ص): إن الأحمق يصيب بحمقه أعظم من فجور الفاجر، وإنما يرتفع العباد غداً في الدرجات وينالون الزلفى من ربهم على قدر عقولهم[9].
الورع عن محارم الله:
المقوم الثاني من مقومات العمل الصالح وشرائطه التي تحدثت عنها السنة المباركة، هو الورع عن محارم الله سبحانه وتعالى، فقد روي عن رسول الله(ص) أنه أوصى أمير المؤمنين(ع) فقال: يا علي ثلاث من لم تكن فيه لم يقم له عمل، ورع يحجزه عن معاصي الله عز وجل، وخلق يداري به الناس، وحلم يرد به جهل الجهال[10].
ولا يخفى عظمة المضامين التي تضمنتها هذه الكلمة الخالدة، كما أنها تضمنت الإشارة إلى الأمور التي تعدّ مقومة للعمل الصالح مضافاً لما ذكرناه، ذلك لأنها قد نصت على أن أي عامل يصدر منه أي عمل من الأعمال، لابد من أن يشتمل على هذه الصفات، فما لم يكن مشتملاً عليها، فلا قيمة للعمل الصادر منه.
وقد عدّ(ص) أول هذه الأمور التي لابد من توفرها لكي يقوّم العمل الصادر من العامل ويحسب، الورع عن محارم الله سبحانه وتعالى.
ولا ريب في أن الورع الذي يحجز عن معاصي الله سبحانه، يعدّ بمثابة الأصل في كل عمل صالح يرغب الإنسان التقرب به إلى الباري سبحانه وتعالى، خصوصاً وأن الله لا يقبل عملاً لا يكون قائماً على ورع وتقوى، قال تعالى:- (إنما يتقبل الله من المتقين)[11].
وقد أكدت النصوص الصادرة عن المعصومين(ع) على أهمية الورع، وما له من دور كبير في البناء الإيماني للفرد المؤمن، فقد روى حديد بن حكيم قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول: اتقوا الله وصونوا دينكم بالورع[12].
ومن الواضح أهمية الورع بالنسبة للإيمان بمقتضى ما جاء في هذا الحديث، إذ مفاده أن ترك الورع عن المحرمات، مدعاة إلى جعل الإيمان في معرض الضياع والزوال، لأن مقتضى الصون يعني المحافظة، وهو (ع) يقرر أن الصون يتحقق من خلال الورع.
وعن يزيد بن خليفة قال: وعظنا أبو عبد الله(ع) فأمر وزهّد، ثم قال: عليكم بالورع، فإنه لا ينال ما عند الله إلا بالورع[13].
وفي رواية ثالثة، عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الورع من الناس، فقال: الذي يتورع عن محارم الله عز وجل[14].
وعن أبي عبد الله(ع) قال: إنّا لا نعد الرجل مؤمناً حتى يكون لجميع أمرنا متبعاً ومريداً، وإنّ من إتباع أمرنا وإرادته، الورع، فتـزينوا به يرحمكم الله وكيدوا أعداءنا به ينعشكم الله[15].
ولا يخفى أن منشأ ربط العمل الصالح بالورع، بحيث يجعل إحدى مقوماته وشرائطه يعود لنظرة الإسلام للعمل الصالح، ذلك أن الإسلام يسعى من خلال العمل الصالح أن يسير بالإنسان في طريق التكامل المعنوي والسمو الأخلاقي، ومن المعلوم أن هذا لن يتحقق ما لم يكن العمل خالصاً لله سبحانه، لا تشوبه أية شائبة.
فالتكاليف الإلهية لو لاحظناها، لوجدنا أنها تصب في مصب واحد وهو السعي إلى تطهير الإنسان من جميع شوائب الدنيا والتعلق بها، وهذا يعطي وضوحاً في وجه جعل الورع شرطاً أساسياً في العمل الصالح.
أقسام الورع:
توجد أقسام للورع عن محارم الله سبحانه، تنقسم بلحاظ ما يصدر من المكلف نفسه في ابتعاده عما يتصور فيه جانب الشبهة والحرمة، وتورعه في تركه مخافة على نفسه، وحذراً من الانزلاق في مواقع المعصية والخطيئة، وتلك الأقسام هي:
الأول: ورع العدول:
ونعني به الورع الذي يجتنب فيه صاحبه الأمر حذراً من اقتحام المعصية، مما يترتب عليه الفسق، وعندها تسقط منه العدالة.
وبعبارة أخرى، هو الورع عن كل ما حرمه الفقهاء في فتواهم.
والأمثلة على هذا القسم كثيرة لا تحتاج إلى تعداد، إذ أن كل معصية من المعاصي، وبالتحديد الكبائر، والإصرار على الصغائر، كلها مصاديق لانتفاء تحقق ورع العدول.
الثاني: ورع الصالحين:
وهو الامتناع عن كل ما يتطرق إليه احتمال التحريم، مع أن الفتوى الفقهية تجيز الإقدام عليه بمقتضى الحكم الظاهري، لكنه يتورع عنه لكونه في موقع الشبهة، ولنوضح ذلك بمثال:
إذا وجد لحم وشككنا في جواز أكله لكونه مذكى على الطريقة الإسلامية، أو لا يجوز أكله لكونه ذبح على غير الطريقة الإسلامية، وكان هذا اللحم يـباع في سوق المسلمين، فإن الفقهاء يفتون بحلية أكله، ويستندون في ذلك لقاعدة سوق المسلمين.
فنلاحظ هنا أن الحكم الظاهري، وهو البناء على حلية أكله هو فتوى الفقهاء، ومقتضى ورع الصالحين الاجتناب عنه، لأنه يحتمل وجود الشبهة فيه.
الثالث: ورع المتقين:
وهو ما لا تحرمه الفتوى، كما أنه لا شبهة في حليته، لكنه يخاف منه أن يؤدي إلى الوقوع في محرم، فيترك ما لا يكون فيه البأس، مخافة الوقوع في البأس، ويمكننا توضيح ذلك من خلال المثال التالي:
جملة من الفقهاء يفتون بحلية التصفيق ما لم يكن مناسباً لمجالس الفسوق والعصيان أو اللهو واللعب، فيترك الإقدام عليه، حذراً من أنه ربما صدر وكان الأسلوب الذي صدر به مناسباً لتلك المجالس، فيتورع عن الإتيان به حذراً من الوقوع في المحرم، مع أنه في نفسه ليس محرماً.
الرابع: ورع الصديقين:
وهو الاجتناب عن العمل الذي لا بأس به من الناحية الشرعية، ولا مجال لتصور وجود شبهة فيه ولو في الجملة، كما أنه لا يخشى من الإتيان به أن يكون مؤدياً إلى ما به البأس، لكنه لما كان منشأ الإقدام عليه أمراً ليس وجه الله سبحانه، بمعنى أن فعله لا يقصد به وجه الله تعالى، فيقدم على تناول الأكل، وليس المقصود منه وجه الله تعالى، وليس على نية التقوى، فإنه يمتنع عنه من أجل أن لا يكون في قلبه أحد سوى الله سبحانه، ومن أجل أن لا يصدر منه عمل إلا مقصوداً به وجه الله تعالى.
—————————————————
[1] سورة التوبة الآية رقم 19.
[2] سورة الزمر الآية رقم 9.
[3] سورة محمد آية رقم 14.
[4] سورة الأنعام الآية رقم 132.
[5] بحار الأنوار ج 77 ص 152 ح 87.
[6] المصدر السابق ج 1 ص 206 ح 1.
[7] المصدر السابق ص 207 ح 5.
[8] بحار الأنوار ج 74 ص 198 ح 3.
[9] بحار الأنوار ج 77 ص 160 ح 14.
[10] بحار الأنوار
[11] سورة المائدة الآية رقم 27.
[12] بحار الأنوار ج 67 ص 297 ح 2.
[13] المصدر السابق ح 3.
[14] المصدر السابق ح 8.
[15] المصدر السابق ح 12.