قال تعالى:- (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً.الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً[1].
مدخل:
استخدم القرآن منهجاً خاصاً في طرح القضايا التغيـيرية للإنسان،بحيث عرض عدة مفاهيم من واقع حياة الإنسان لكن لا بالنحو الذي يفهمه الإنسان ويعيه،بل بنحو تربوي يهدف له القرآن الكريم في أسلوبه التربوي التغيـيري.
الربح والخسارة:
ومن تلك المفاهيم مفهومي الربح والخسارة حيث أراد القرآن بيان نقطة تربوية مهمة للإنسان،فعرضهما بمعنى قريب من مفاهيم الإنسان المادية وإن كانت تغايرها في الهدفية والمضمون.
فالربح والخسارة بحسب المفهوم المادي،عبارة عن ما يحصل عليه الفرد من زيادة على رأس ماله فهذا هو الربح،والخسارة أي أنهما عبارة عن نقص رأس المال الذي بيده.
وعلى هذا فالإنسان الرابح هو من ربح دنياه والخاسر من خسرها،وتكون القيمة عنده مجردة عن الله سبحانه وتعالى.
وهذا المعنى استخدمه الله سبحانه وتعالى،لكن بنحو من التعديل على مفهومي الربح والخسارة،إذ نلاحظ أن الله تعالى يستخدم هذين المفهومين،أعني الربح والخسارة لكن لا بالنحو الذي يتعامل به الإنسان ويستخدمهما.
بل إن معيار الربح والخسارة عند الله سبحانه وتعالى يغاير المعيار المعروف عند الإنسان.
الربح والخسارة في القرآن:
إن الله سبحانه وتعالى يصور الإنسان كتاجر له رأس مال وهو عمره،فهذا الإنسان في حركة تجارية برأس المال الموجود في يده،فإن أحسن صنعاً وعملاً كان رابحاً ومحافظاً على رأس ماله،أما لو أفنى هذا العمر في ملذات الدنيا دون استفادة منه لرأس ماله واستغلاله بطريق صحيح فإنه خاسر كبير جداً.
فالخاسر الحقيقي عند الله سبحانه وتعالى،هو الذي يأتي يوم القيامة وقد صرف رأس ماله في شيء لا يضر الله سبحانه وتعالى،بينما الرابح هو الذي يفوز يوم غدٍ بجنة النعيم فيحظى بعطايا الله سبحانه ومننه ورحمته،قال تعالى:- (قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين)[2].
قيمة الإنسان:
ثم إن قوله تعالى:- (قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالاً.الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم صنعاً).
يشير إلى قيمة الإنسان الحقيقة،لأنها لا تقاس بنظرته إلى نفسه،لأن الخصم لا يكون حكماً،كما لا تقاس بنظرة الناس إليه،لما فيها من المحاباة والمدارة.
وإنما تقاس بقيم القرآن ومبادئه،والالتزام بتعاليمه وأحكامه،فتقاس بالصدق والعدل ونصرة الحق وأهله،والتضحية في سبيل الله تعالى.
الأخسرون أعمالاً:
وعلى هذا الأساس يوضح القرآن الأخسر أعمالاً،الذي هو الأخسر صفقة،والأخيب سعياً،بأنه المخطأ للطريق والسالك لغير الحق،وهو يصر على أنه طريق الحق استكباراً منه وعصبية جاهلية.
فالشخص الذي يقوم بعمل خاطئ ويعتقد صحته،ويدوم عليه على امتداد عمره فهذا من الأخسرين أعمالاً.
فالذي يذنب ويظن أن ذنبه عبادة،وأعماله السيئة أعمالاً صالحة،وانحرافه استقامة،فهو من الأخسرين أعمالاً.
والحاصل أن كل من عرف الحق وتمرد عليه،وعمل على أساس الانحراف عنه،لمجرد أن الحق لا يتفق مع أطماعه،ولا يتناسب مع شهواته ورغباته،ولا يعطيه الامتيازات الحياتية التي يرغبها،فيلتمس لنفسه طريقاً آخر،ويبتبنى فكراً مغايراً بدعوى أنه سبيل النجاة،فهو الأخسرين أعمالاً.
سؤال وجواب:
وهنا قد يثار تساؤل هو:
إن الشخص المخطئ يرى نفسه حين الإقدام على العمل الذي عمله مصيباً،وأنه أحسن عملاً بإصابة الواقع،مع أنه ينبغي أن يكون من الأخسرين أعمالاً،ومن المعلوم أنه لا عصمة له،فكيف يكون كذلك؟…
ونجيب أن المخطئ على قسمين:
1-أن يخطئ بعد البحث والتدقيق،رغبة منه في الوصول إلى نتيجة صحيحة،ولا ريب أن هذا المخطئ ليس من الأخسرين الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا،وأن خطأه لا عيب فيه،بل صاحبه مأجور لما بذل من جهد،شرط أن تكون نيته الرجوع عن الخطأ الذي وقع فيه لو انكشف له ذلك.
2-أن يكون خطأه لجزمه وحكمه بمجرد الحدس والوهم،قبل أن يبحث ويلاحظ،فيحكم قبل أن يستوعب ويستكمل جميع جهات البحث.
وهذا من الأخسرين،لأنه حكم متسرعاً من غير تثبت،فهو جاهل جهلاً مضاعفاً.
الجهل وأقسامه:
فالأخسرون هم الذين يوسمون بالجهل المركب،الذي هو أحد أقسام الجهل،لأن الجهل الذي هو إحدى الرذائل المنحطة التي يكفي في انحطاطها أن كل أحد لا يرضى أن يوسم بكونه جاهلاً.
وعلى أي حال فالجهل عكس اليقين والعلم،وهو على أقسام:
1-الجهل البسيط.
2-الشك.
3-الجهل المركب.
الجهل البسيط:
وهو بمعنى عدم العلم،فالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب،يقال له جاهل،كما أن الشخص الذي يقرأ ويكتب،لكنه لا يعرف،أحكام دينه،ومسائله الشرعية الإبتلائية،يقال له جاهل.
وهذه الصفة تعتبر صفة نقص،وفقد للكمال في الإنسان.
ولذا نجد الدين الإسلامي يحارب الجهل والأمية،ويدعو إلى التعلم،ويرشد له بشكل مكثف،كما نلاحظ كيف أن أهل البيت(ع)كانوا يولون مسألة العلم والمعرفة أهمية خاصة.
وعلى أي حال،فلا أقل أن يكون المكلف مطلعاً على مسائل الرسالة العملية الإبتلائية التي لا يأمن من نفسه عدم الوقوع فيها،حتى يتمكن من علاجها وقت الإصابة بها.
كما ينبغي على كل أحد أن يطلع على الأحكام الإسلامية الداخلة في دائرة ابتلائه،فالمرأة عليها أن تعرف الرأي الشرعي في الحقوق المنـزلية،وكيفية رعاية حق الزوجية،ورعاية الأطفال.
وعلى الزوج كرب للأسرة أن يحيط بذلك،كما يحيط بواجباته الأخرى،وهكذا.
وكذا الموظف عليه أن يعرف الحدود الشرعية التي تلزمه بأداء الواجب المناط به،والقيام به خير قيام خصوصاً إذا كان متضمناً لحق الآخرين.
الشك:
وهو عبارة عن التـردد بين طرفين،أو بين عدة أطراف،مع عدم تمكنه من التـرجيح بينها.
وهذه حالة تعتور الإنسان غير الثابت القدم في معتقداته،وأفكاره،بل حتى في منهجه الذي يتبعه.
فعليه أن يسعى للإطمينان مما هو عليه،وأن يسعى للتأكد مما عنده،حتى يتسنى له القناعة بما عليه من فعل ومعتقد.
وهذا الثبات الذي نطلبه،لا يقتصر على الثبات في المعتقدات والأفكار،والإطروحات،والمناهج،بل نحتاجه في كل شيء سواء الحياة الزوجية بين الزوج والزوجة،أو بين الأصدقاء فيما بينهم،وهكذا.
الجهل المركب:
وهذا القسم أردأ من سابقيه،لأن صاحبه جاهل،وهو لا يعلم بأنه جاهل،بل ربما كان يعتقد أنه عالم وأنه على صواب ومعرفة.
نعم ليس من هذا القسم الجاهل الذي يغفل عن جهله،كما لو عرف أنه جاهل،لكنه بعد مدة من الزمن غفل عن جهله.
وقد تحدث القرآن عن أمثال هؤلاء،وأن جهلهم المركب لا يكون مختصاً بالدنيا فقط،بل يكون حتى في الآخرة،قال تعالى:- (يوم يبعثهم الله جميعاً فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون)[3].
وهذا المرض يوجد في مختلف الأوساط،أميـين ومتعلمين،واعين،ومتخلفين،النساء،والرجال.
وقد عرفت أن القرآن عبر عمن حمل هذه الرذيلة بأنه الأخسر صفقة والأخيب عملاً.
هذا وأوضح المطلب برواية عن إمامنا أبي عبد الصادق(ع)،تتضمن بيان أن الجهل المركب كيف يؤدي بصاحبه إلى النار،قال(ع):كان هناك شخص مشهور بين عامة الناس يلقبونه بمستجاب الدعوة،وقد كانت شهرته واسعة،حتى رغب(ع)في رؤيته،رغم أنه لا يحب أهل البيت(ع).
وفي يوم من الأيام،شاهد(ع)الناس مجتمعين حول شخص،فقال له بعض من حضر أن هذا هو الشخص الذي كنت ترغب في رؤيته.
فتوجه(ع)نحوه،فلما وقع نظره عليه ترك الناس وذهب،فمشى الإمام(ع)خلفه ليتحدث معه في مكان خالٍ ويرى ما عنده،فشاهده(ع)يسرق خبزتين من فران،فتعجب من فعله،كيف يسرق وهو له تلك الشهرة،ثم توجه إلى دكان آخر وسرق منه رمانتين،ثم ذهب إلى خربة،وأعطى ما سرقه إلى أربعة من الفقراء.
وعندما أراد الخروج من الخربة،اعترض طريقه(ع)وقال له:ماذا فعلت؟..فقال:لم أفعل شيئاً.فقال له:لقد رأيت كل شيء.فقال: من أنت؟..
فقال(ع):أنا جعفر بن محمد،فقال له الرجل:ابن النبي،ولا تعرف قول القرآن:- (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها)[4]-يعني أن الله تعالى يضاعف الأجر عشر مرات لمن يعمل الخير،ولا يجازي المسيء إلا بسيئة واحدة-فقال له(ع):وما علاقة هذه الآية بما أقدمت عليه؟…
فقال له مستجاب الدعوة:أنا سرقت قرصين،ورمانتين،وحاصلها أربعة ذنوب،وأعطيت تلك الأشياء الأربعة صدقة فاكتسبت أربعين حسنة،وعندما نطرح الذنوب من الحسنات فسوف يسجل في صحيفة أعمالي ست وثلاثون حسنة،فانظر لهذه المعاملة كم هي مربحة.
فقال له(ع):ثكلتك أمك،إنك لم تفعل حسنة واحدة،وقد فعلت ثمان سيئات،أربع منها لأنك سرقت مال الغير،وأربع أخرى لأنك أعطيت مال الناس لغيرهم من دون إذن منهم،وليتك لم تحصل على الثواب فقط،بل لقد حملت إثم ثمانية ذنوب على ظهرك.
ثم قال(ع):انظروا كيف يفعل الجهل المركب بالإنسان.
أسباب الوقوع في الجهل المركب:
إن التعصب القوي والغرور،والتكبر وحب الذات،من أهم العوامل التي تقود الإنسان إلى الإصابة بمثل هذا المرض،وقد يكون السبب في بعض الأحيان وجود التملق،أو الانطواء على النفس فتـرة من الزمن يؤدي لحصول هذه الحالة،حيث يتصور الإنسان أن كل أعماله الخاطئة المنحرفة،أعمالاً جميلة،بحيث يشعر بالفخر والغرور والمباهاة بدلاً من إحساسه بالخجل،وشعوره بالعار من هذه الأعمال القبيحة،قال تعالى:- (أفمن زين له سوء عمله فرآه حسناً)[5].
هذا وقد تعرضت بعض الآيات القرآنية إلى أن السبب في حصول هذا المرض عند الإنسان،هو الشيطان لأنه يقوم بعملية التـزيـين له،قال تعالى:- (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم)[6].
علاج الجهل:
أما الجهل البسيط،فعلاجه بسيط إذ متى ما قام الإنسان بالتعلم،فإنه ينتفي عنه الجهل،وينتفي عنه الاتصاف بهذه الرذيلة.
وكذا الشك،فإن خير علاج له أن لا يعتني الإنسان به،كما أن عليه أن يلجأ إلى تقوية عامل الإرادة عنده،وذلك من خلال إقحامها في العمل،ويتحقق ذلك من خلال عدم الاعتناء بالشك.
والعجلة غالباً من الأشياء الغير مستحسنة،إلا في هذا المورد فإنها مستحسنة.
وأما الجهل المركب فيمكن للمصاب به أن يعالج نفسه من خلال عرض معتقداته،ومعارفه على العلماء،حتى يقوموا بعملية تنقية هذه المعتقدات،وإيضاح الصحيح منها،من السقيم.
وهذا المنهج كان معروفاً في زمن الأئمة(ع)حيث كان بعض أصحابهم يقوم بعرض معتقداته على الإمام(ع)حتى ييستوضح صحتها من عدمه.
فمن تلك النماذج السيد عبد العظيم الحسني،المعروف بشاه عبد العظيم،فقد جاء للإمام الهادي(ع)وعرض عليه معتقداته،وذكرها كلها بشكل مفصل،حتى يتعرف على الصحيح منها،وما هو الفاسد،ولقد أيد الإمام الهادي(ع)جميع معتقداته التي ذكرها.
اللهم أكرمنا بنور العلم والمعرفة،وافتح لنا أبواب الفهم بمحمد وآله الطيبين الطاهرين.
—————————————————-
[1] سورة الكهف الآية رقم 103.
[2] سورة الزمر الآية رقم 15.
[3] سورة المجادلة الآية رقم 18.
[4] سورة الأنعام الآية رقم 160.
[5] سورة فاطر الآية رقم 8.
[6] سورة الأنفال الآية رقم 48.