الخطوة الثانية: تنقية البطن من الحرام أو المشتبه بالحرام:
قد سبقت الإشارة منا فيما تقدم إلى أن أحد أسباب الجفاف الروحي يكمن في الأكل الحرام أو المشتبه بالحرام، وذلك لما هو معلوم من أن له تأثيراته الخطيرة على الروح والقلب، وهذا قد أكدت عليه النصوص الواردة عن أهل البيت(ع)، وقد أشرنا لبعضها فيما تقدم.
ومن هنا يتضح أنه من الضروري لكي نحقق التخلص من الجفاف الروحي أن نقوم بعملية التخلص من جميع أسبابه ومكوناته.
ومن الأسباب والمكونات للجفاف الروحي تلوث البطن من خلال تناول المآكل والمشارب المحرمة، أو المشتبه بالحرام.
مناشئ الحرمة:
ولا يخفى أن للحرمة مناشئ، فقد تكون الحرمة حرمة ذاتية كما في الخمر والميتة، وقد تكون الحرمة بسبب اكتساب محرم، كما في الغصب والمعاملات المحرمة، كالقمار وما شابه.
وبالجملة ما دامت اللقمة الحرام والشربة الحرام لها تأُثـيراتها الكبيرة على القلب والروح، فلن يتمكن الإنسان في التخلص من اختناق القلب وجفاف الروح، ما لم يـبدأ بالتخلص من ملوثات البطن.
وهذا الذي ذكرناه يجيب على سؤال يطرح عادة بأننا نجد كثيرين من الناس يعيشون حالة من الشلل والنكوص الروحي، فما هو السبب في ذلك؟…
إن أحد الأسباب يرجع لحالة التهاون والتساهل التي يعيشها كثيرون من هؤلاء، في مسألة الأكل والشرب، ولا يحسبون حساباً للحلال والحرام، مما أنتج عندهم حالة الشلل والنكوص الروحي. ولذا من الغريب أن لا نجد من هؤلاء الذين يعيشون حالة الخواء الروحي محاولة البحث عن الأسباب التي أوصلتهم لمثل هذه الحالة، مع أنهم لو بحثوا لوجدوا أن الكثير من هذا الخواء الروحي صنعته مأكولات ومشروبات تختـزن في داخلها المكونات الحرام، وقد أدمنوا تناولها بدون رادع من حس شرعي، ولا مانع من حيطة في الدين.
الأغذية المعلبة:
ولا يفوتنا ونحن بصدد الحديث عن آثار الأطعمة ومدى تأثيرها على الروح والقلب، من التنبيه إلى خطورة الأغذية المعلبة، وأنه ينبغي قدر المستطاع الحذر منها، خصوصاً تلك التي تأتي من بلاد أعداء الإسلام والمسلمين، من البلدان الكافرة، حيث ما أسهل أن يعمد هؤلاء إلى ممارسة الإجهاض الروحي من خلال هذه الأغذية التي يـبعثون بها إلى بلدان المسلمين، معبئة في داخلها بالمكونات المحرمة، مما يمكنه دون عناء أو جهد إلى تفريغ الأمة من نبضها ومخزونها الروحي، وبطريقة هادئة وبطيئة، لا تستثير روح الغضب عند المسلمين.
الآثار الوضعية والجهل بالموضوع أو العذر:
هذا وقد يسأل البعض عن أن التأثيرات الوضعية للأطعمة أو الأشربة المحرمة أو المشتبهة بالحرام، هل تحصل وتـتحقق حتى في حالة الجهل بالموضوع، كما لو كان المكلف لا يعلم بكون هذ1ا الطعام مثلاً حراماً، أو أنه لا يعلم بكونه من الطعام المشتبه، أو لا؟…
وهل يحصل ذلك أيضاً في صورة وجود العذر الشرعي لتناول تلك الأطعمة، كما لو اضطر إلى أكل الميتة، فهل تـترتب عليه الآثار الوضعية حينئذٍ أيضاً، أو أن الآثار الوضعية تنحصر في خصوص ما إذا لم يكن المكلف معذوراً في تناوله للحرام أو المشتبه بالحرام؟…
وعندما نحاول الإجابة على هذين التساؤلين، نجد رأيـين يطرحهما علماء الخلاق في المقام:
الأول: هو الذي يذهب إلى أن التأثيرات الروحية مرتبطة بالحرام الذي تـتـنجز حرمته على المكلف، بمعنى أن المكلف قد علم بكونه محرماً، وأما الحرمة الواقعية التي لم يعلم بها المكلف، والتي لا تشكل تكليفاً شرعياً للإنسان، فليس لها أي تأثير على الحالة الروحية، فما دام الإنسان معذوراً شرعاً في تناول هذا الطعام أو ذلك، فلا يمكن أن يفترض وجود التأثير من خلال العناصر الواقعية.
الرأي الثاني: وهو الذي يقول بثبوت التأثير مطلقاً، لأن المكونات الروحية لها تأثيراتها الواقعية، كما هو السم يؤثر تكويناً حتى في حالات العذر الشرعي في تناوله، كما في حالات الجهل، والاضطرار، فلو فرض أن مادة غذائية تختزن في داخلها، وفي مكوناتها أجزاء من الخنـزير، أو أجزاء من المسكر، وتناولها الإنسان وهو لا يعلم، أو أنه أقدم على تناولها وهو معذور شرعاً، فإن هذا الجهل وتلك المعذورية لا تلغي التأثيرات التكوينية للمادة المأخوذة من الخنـزير وللعنصر المأخوذ من المسكر.
هذا ولو قيل: بأن الله سبحانه وتعالى قد سمح لهذا الإنسان بأن يتناول هذا الطعام أو هذا الشراب، فلا معنى أن نفترض وجود آثار سلبية لتناول المباح.
قلنا: بأن الآثار الروحية كما هي الآثار المادية، تفعل أثرها حتى في حالة الجهل والمعذورية، ولنقرب ذلك بمثال عرفي: لو أن شخصاً تناول طعاماً ملوثاً، وهو يجهل بتلوثه أو أنه كان معذوراً في تناوله، فهل تـتجمد تأثيرات الطعام الملوث السلبية على صحة الإنسان البدنية، أو أن الآثار سوف تـتحقق؟…
لا ريب في أن الآثار لن تـتجمد، بل سوف تـترك تأثيراتها السلبية على جسده، فكذلك التأثيرات السلبية للمكونات الحرام، لا تـتجمد على صحة الإنسان الروحية.
الخطوة الثالثة: تنقية الجوارح من المعاصي والذنوب:
المستفاد من عدة نصوص أن للمعاصي تأثيرات خطيرة على الحالة الروحية عند الإنسان، فما دام الإنسان يمارس المعاصي والذنوب، فلن يقوى على الانطلاق في الآفاق الروحية، وسوف يـبقى مأسوراً لمستـنقعات الأرض، ولضغوطات الجسد، وهذا يعني أن حالة الانطلاق والسمو والارتقاء الروحي لا تـتحقق إلا إذا تمرد الإنسان على الهوى في داخله، وتحرر من الشهوة المحرمة، وتجنب المعاصي والذنوب.
ومن هنا يتضح أن أحد الأسس الأصلية في علاج الجفاف الروحي السعي-كما ذكرنا-لإزالة كافة المكونات المؤدية لحصوله، ومن أشد المكونات تأثيراً في خلق الخواء والضمور الروحي، ممارسة المعاصي والذنوب، فلابد من مراقبة مشددة للجوارح وما يصدر عنها من أفعال وسلوكيات، ولابد من محاسبة دائمة تلاحق الممارسات والتصرفات، وعدم الاستهانة حتى بالصغائر من الذنوب، فإنها تـترام وتـتراكم إلى أن تؤدي إلى محاصرة الروح، فتصاب بالاختـناق والضمور، وكلما تمكنا من تنقية الجوارح من المعاصي والمخالفات فإننا نعطي للروح قدرتها على الانطلاق والتحرر من كل المؤثرات، وإن أي انتصار على النفس والهوى هو خطوة جادة في طريق الانعتاق الروحي والصحوة الروحية، كما أن أي انهزام أمام النفس والهوى فهو خطوة تقود إلى الارتهان والخمود الروحي.
جلسة المحاسبة اليومية:
إن جلسة المحاسبة اليومية الموضوعة ضمن مخطط واعٍ ومدروس، يوفر للإنسان فرصة الإعداد الروحي، ويوفر له فرصة التخلص من أسباب الجفاف الروحي، شريطة أن نكون جادين وصادقين في ممارسة هذه المحاسبة، وبمقدار ما تمتلك جلسة المحاسبة الذاتية من صدق وإخلاص، وجدية وبرمجة وتخطيط، فإن مفعولها يكون كبيراً وواضحاً في انـتشال الروح من الهبوط والإرتكاس، والاختناق والضمور.
ومما ذكر نعرف الداعي للتأكيد في النصوص الدينية على أهمية المحاسبة، والتركيز عليها بشكل كبير جداً:
منها: ما جاء عن النبي(ص) قال: أكيس الكيسين من حاسب نفسه، وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقاء من اتبع هواه، وتمنى على الله الأماني[o1] .
ومنها: ما جاء عنه(ص) أيضاً في وصيته لأبي ذر(رض): لا يكون الرجل من المتقين حتى يحاسب نفسه أشد من محاسبة الشريك شريكه، فيعلم من أين مطعمه؟ ومن أين مشربه؟ ومن أين ملبسه؟ أمن حل ذلك أم من حرام[o2] .
ومنها: ما جاء عن أمير المؤمنين(ع) قال: حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليها، والأخذ من فنائها لبقائها، وتزودوا وتأهبوا قبل أن تبعثوا[o3] .
ومنها: أن أمير المؤمنين(ع) سئل كيف يحاسب الرجل نفسه؟ قال(ع): إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه، وقال: يا نفس، إن هذا اليوم مضى عليك، لا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه، فيما أفنيته، فما الذي عملت فيه؟ أذكرت الله أم حمدتيه؟ أقضيت حق أخ مؤمن؟ أنفست عن كربته؟ أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده؟ أحفظتيه بعد الموت في مخلفيه؟ أكففتِ عن غيـبة أخ مؤمن بفضل جاهك؟ وأعنت مسلماً؟ ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عز وجل، وكبره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً استغفر الله عز وجل وعزم على ترك معاودته[o4] .
ومنها: ما جاء عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، فإن أمكنة القيامة خمسون موقفاً، كل موقف مقام ألف سنة، ثم تلا هذه الآية:- ( في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة)[o5] .
—————————————————
[o1]وسائل الشيعة ب 95 من أبواب جهاد النفس ح 8.
[o2]الوسائل ب 96 من أبواب جهاد النفس ح 7.
[o3]غرر الحكم ص 236.
[o4]الوسائل ب 96 من أبواب جهاد النفس ح 8.
[o5]مستدرك الوسائل ب 95 من أبواب مجاهدة النفس ح 7.