قال الإمام علي بن موسى الرضا: من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل[1].
يقدم لنا الإمام الرضا في هذه الكلمة القصيرة أحد الدروس التربوية في كيفية التعامل بين أفراد المجتمع الواحد وما هي سبل ذلك من وجهة نظر إسلامية.
حب الروح البشرية:
من المعلوم أن الإنسان مخلوق مركب من روح وجسد،وهو يسعى دائماً لقضاء حاجات الجسد حتى يتسنى له البقاء حياً،فلجسده حاجات لابد من أدائها.
وكذلك توجد حاجات لروحه،فالروح الإنسانية عطشى إلى الحمد والثناء،فكل واحد من البشر يشتاق إلى أن تكون أعماله وسلوكياته مورد قبول وتأييد عند أفراد مجتمعه.
فهو يحب أن يثنى عليه حتى تثبت له بينهم شخصية اجتماعية،ويصل بذلك إلى راحته الداخلية والنفسية لشعوره بكيانه ووجوده.
ومن الواضح أن الإنسان يحب نفسه لذلك فهو إذن يحب ما يقوم به من ابتكارات ونتائج أفكاره بل هو عاشق لها.
ومما ينبغي علينا معرفته هو أن الحمد والتـرغيب أقوى عامل لدفع الأفراد نحو التقدم والرقي للكمال والأفضل،وهو من أكثر المواضيع الاجتماعية ضرورة ولزوماً.
وللتقدير والحمد والثناء والتحسين من الأثر والفعالية العجيبة ما يمكنه أن يغير حال المجتمع الخامل الذي لا يملك أدنى طموح أو أمل في التقدم والرقي والانبعاث نحو الكمال إلى مجتمع حي جديد،ويحرك عجلاته فيملأه حيوية ونشاطاً،مع أن التقدير شيء بسيط لا يكلف فاعله أي عمل ولا يستدعي منه أي جهد أو بذل أدنى طاقة،لكنه خير دواء لجميع أمراض الفرد والمجتمع.
إن التقدير في الواقع يمثل حالة نفسية تضفي على المقدر شيئاً من الارتياح بكون الآخرين يشعرون بوجوده ويرون أهمية لما قام به من عمل وما بذله من جهد وقدمه من خدمات،فهم يثمنون هذه الجهود التي صدرت منه فيتعاملون معها معاملة صحيحة من خلال تقديره والثناء عليه وحمد أفعاله.
وبعكس هذا،فإن البخل في تشجيع الآخرين ومنحهم التقدير يعد مانعاً كبيراً في طريق تكامل المجتمع وتطوره،كما يمنع عن انفتاح الطاقات والاستعدادات المودعة عند الآخرين.
ولهذا تعتبر أكبر ضربة وأشد صدمة ترد الطاقات المبدعة للشباب وتؤدي إلى خمولها وجمودها هو تحقير شخصيتهم وعدم الاعتناء بأعمالهم وعدم تقديرها وتثمينها.
فالإنسان يتألم كثيراً عندما يحس بعدم التفات الناس إلى ما يقوم به من جهد وعمل،ولا يقدرون أتعابه ولا يحسبون لها أي حساب،بل يرونها أنها ليست ذات قيمة أو فائدة.
وهكذا طاقة وأمثالها يكون مصيرها الموت بعدما تصاب قدراتها بالجمود والتوقف،وذلك لأن الميول والرغبات الروحية إذا لم يطفأ ظمئها من خلال الحمد والثناء والتقدير بحيث بقيت ظامئة أدى ذلك فيها إلى الاندثار،لتكون حسب القانون النفسي في قسم اللاشعور،فتشكل بعد ذلك عقدة نفسية سيئة تؤثر على روح الإنسان دائماً.
والأشد من ذلك أن أصحاب الأعمال الحسنة والأعمال الخيرية الإصلاحية إذا أدركوا عدم ملكيتهم -لما يقدمونه للناس من نتائج ومساعي وأتعاب- أدنى قيمة أو موقعاً اجتماعياً،من المحتمل جداً أن تغير هذه الأحاسيس المنكسرة من مسار الأفكار ونشاطاتها.
بل قد يؤدي ذلك ببعض الأشخاص اللجوء إلى الطرق الملتوية طلباً لإشباع حاجاتهم الروحية واكتساب التوفيق في حياته الاجتماعية،فنجد المكر والتـزوير والخداع مكان الفضائل والقيم الإنسانية والكمالات الروحية،وهذا واقع ثابت يقرره علم النفس.
آثار المدح على العاملين:
إن جملة واحدة قصيرة تصدر من شخص تجاه آخر في مقام المدح وتحسين فعله والإعجاب به وشكره عليه تترك أثراً عميقاً في روح الإنسان،بل قد تترك أثرها عليه طيلة عمره وحياته بحيث يتفانى في صرف عمره كله من أجل إرضاء الناس وإسعادهم والسهر على خدمتهم بشتى الوسائل،كل ذلك لتلك الكلمة التي ثمنت عمله وقدرته فقامت بمدحه والثناء عليه.
ولهذا نجد كثيراً من الشخصيات يربطون تقدمهم ورقيهم في الحياة بكلمات التقدير والثناء التي لاقوها من بعض كبار الشخصيات،وأنه لولا تحسين هؤلاء لما قاموا بما قاموا به من عمل ولما تمكنوا من رقي مدارج الكمال.
من هنا نجد الدول المتقدمة تعطي أهمية خاصة لما تقوم به الشخصيات البارزة من تقدير لذوي الكفاءات،وهذا الأمر يتحقق بصور مختلفة،ولذا لا نرى انطفاء شمعة النبوغ وانخفات أضوائه،بل تتهيأ الأرضية الكافية لتنمية الاستعدادات واستثمار القوى والطاقات المدخرة،فيجد العلم والعمل بذلك قيمته الواقعية.
أضرار ترك الشكر والتقدير:
هناك بعض الناس مهما قدمت إليهم وأعنتهم على حل مشاكلهم،لا تحصل لهم حالة الرضا النفسي فضلاً عن صدور الشكر منهم عملاً،أو حصول الحمد والتقدير منهم لفظاً،وكأن إسداء الخدمة إليهم أمر واجب على الآخرين،وكأن لا واجب عليهم سوى إضاعة حقوق الآخرين وإحسانهم إليهم وعدم الشكر لهم.
هذا ولقد وردت مجموعة من النصوص عن أهل البيت تذم هؤلاء الذين لا يشكرون الآخرين ولا يقدرون جهودهم ولا يحمدوها.
قال أمير المؤمنين u: من لم يشكر الإنعام فليعد من الأنعام[2].
لقد وصف أمير المؤمنين u هؤلاء بالأنعام فهم في عداد الحيوانات لأن سلوكهم لا ينسجم مع العقل والإنسانية.
وقال u أيضاً: من لم يشكر الإحسان لم يعده إلا الحرمان[3].
فعدم شكر الآخرين سبب لحصول خسارة عند الإنسان لا تعوض،لأن الإنسان حين بخله على الآخرين بشكر خدماتهم وعجزه عن الثناء عليهم ومدحهم مع علمه بأهمية ما عملوه من أجله سيكون سبباً في عدم تقديم أي خدمة له ومساعدته.
وقال الإمام زين العابدينu: يقول الله تبارك وتعالى لعبد من عبيده يوم القيامة: أشكرت فلاناً؟فيقول: بل شكرتك يا رب،فيقول: لم تشكرني إذا لم تشكره[4].
لأن من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق،وإلى هذا المعنى أيضاً أشار الإمام الرضا u في الكلمة التي افتتحنا بها المقام،قال u: من لم يشكر المنعم من المخلوقين لم يشكر الله عز وجل[5].
وقد ورد عنهم لعن قاطعي سبيل المعروف،وهم الذين يصنع بهم المعروف فلا يشكروه،فعن أبي عبد الله الصادقu: لعن الله قاطعي سبيل المعروف،وهو الرجل يصنع إليه المعروف فيكفره،فيمنع صاحبه من أن يصنع ذلك إلى غيره[6].
ومن أهم الموارد التي يترك فيها الشكر والحمد والثناء ويكون لذلك مردوداً سلبياً على الطرف المقابل،الموارد التي يعتقد الإنسان أنها صغيرة أو حقيرة مع أنها ذات أهمية عند الطرف الآخر.
وقد أهتم أمير المؤمنين u بهذه الناحية فقد جاء في عهده إلى مالك الأشترtقوله: لا تدع تفقد لطيف أمورهم اتكالاً على جسيمها،فإن لليسير من لطفك موضعاً ينتفعون به،وللجسيم موقعاً لا يستغنون عنه[7].
ونراه u يؤكد على أهمية التقدير ونتائجه وثماره فيقول u: فافسح في آمالهم،وواصل في حسن الثناء عليهم،وتعديد ما أبلى ذوو البلاء منهم،فإن كثرة الذكر لحسن أفعالهم تهز الشجاع وتحرض الناكل[8].
وقال u أيضاً: الشكر أحد الجزاءين[9].
وعنه u: الشكر أعظم قدراً من المعروف،لأن الشكر يبقى والمعروف يفنى[10].
وقال الإمام زين العابدينu: أما حق ذي المعروف عليك فأن تشكره وتذكر معروفه،وتكسبه المقالة الحسنة،وتخلص له الدعاء فيما بينك وبين الله عز وجل،فإذا فعلت ذلك كنت قد شكرته سراً وعلانية،ثم إن قدرت على مكافأته يوماً كافيته[11].
إن روحية الشكر والتقدير تنبع من نضج الشخصية والثقة بالنفس وسلامة الروح.
رفض التملق:
ونحن حين ندعو إلى تقدير جهود الآخرين ومقابلة جهودهم بالتحسين والحمد والثناء والمباركة والتشجيع،نرفض في نفس الوقت التملق المفرط لكونه سمة الشعور بالحقارة والضعف والوهن وتضعضع الشخصية والخوف.
فالتقدير والثناء لأشخاص غير مؤهلين لذلك بحيث يقعان في غير محلهما،طريقة من يريد جبر العوز والنقص الموجود عندهم،أو من يطمحون الوصول لبعض الأغراض الشخصية.
وقد جاء عن رسول الأخلاق والإنسانية أنه كان يقول: ليس من خلق المؤمن الملق [12].
ذلك أن المدح والثناء في غير موضعه سبب للغرور.
وعن الإمام علي u أنه قال: الثناء بأكثر من الاستحقاق ملق،والتقصير عن الاستحقاق غي أو حسد[13].
فإكبار الشخص بأكبر من قيمته الواقعية لا يغير من حقيقته شيئاً ولا يضيف جديداً إلى شخصيته،بل إن هذا التملق يؤدي به إلى سحق استقلال شخصيته الروحية،وإذا أثنيتم على شخص بأقل مما يستحق فإن ذلك يكشف عن ضعف وحسد فيكم له.
النقد السلبي:
وبمقدار ما للمدح والتحسين والثناء البعيد عن التملق المذموم من آثار إيجابية لا ننسى التوجيه الصحيح والنقد الهادف البناء،لا النقد السلبي من خلال إيراد نقد غير وارد عليهم.
وتعتبر هذه الظاهرة من أبرز عيوب مجتمعاتنا،لكونه أمراً رائجاً ومتداولاً بين كافة أفراده على مختلف طبقاتهم الفكرية والروحية،خصوصاً وأن أكثر النقد يكون دون أدنى دراسة وتحقيق،وهذا بنفسه سلوك غير عادل يسبب انسداد سبيل التكامل والابتكار.
إن إيراد الإشكالات على زلات الآخرين وعثراتهم بنظر علماء النفس يكشف عن وجود أخطاء ونواقص عند المستشكل مما يراه في الآخرين من حيث لا يشعر.
ولذا ينبغي أن يكون نقدنا دائماً نقداً هادفاً سليماً من الشوائب والاستعجال ورعونة التفكير،بعد دراسة متأنية ودقيقة على أمل الاستفادة منه والانتفاع من نتائجه.
خصوصاً وأنه لا ينكر أحد أن النقد السليم على النهج الصحيحة إحدى سبل إصلاح المجتمع الصالحة،كما أن ذلك يكشف عن تقدم حضاري ووعي فكري عند أصحابه.
آثار الحمد والثناء:
من برامج الدين الإسلامي أن يكون المسلمون شاكرين لنعم الله سبحانه وتعالى عليهم التي لا تعد ولا تحصى.
ولا ريب في أن الترغيب والتشويق العاطفي عامل نافع ومفيد في نشر الفضائل الإنسانية في المجتمع.
فلو كان الناس يثيبون المحسن ويعاقبون المسيء ضمن ردود فعلهم أمامهم لكان ذلك سبباً في تقدم المجتمع نحو الكمال والسلامة.
لأنه متى وجد منهج التقدير والثناء للمحسن وكراهية فعل الجاني،كان من الطبيعي توجه المجتمع بجميع طبقاته نحو الفضائل والتقى.
وقد ركز الإمام علي u على عدم مساواة المحسن والمسيء،كما جاء ذلك في وصيته لعامله على مصر مالك الأشتررضي الله عنه فقال له:
ولا يكون المحسن والمسيء عندك بمنـزلة سواء،فإن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان،وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة،وألزم كلا منهم ما ألزم نفسه [14].
ثم إن من العوامل المؤثرة لتـرغيب المحسنين وتأنيب المسيئين: تطبيق قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المجتمع.
فعلى الإنسان عند مشاهدته أنواع الفساد أن يشعر بالمسؤولية عوضاً عن عدم التنديد والسكوت،لأن عدم رفض هذا الفساد مع توفر إمكانية مجابهته والوقوف أمامه يعد نوعاً من أنواع المساعدة على الانحراف.
فكل من كان قادراً على تغيير واقع المبتعدين عن الدين أن يبدل قصارى جهده في سبيل تحقق ذلك،وأن يجرهم إلى طريق الحق وصراط الطهارة والنـزاهة.
أثر الحمد والثناء على تربية الطفل:
الملاحظ أن للحمد والثناء على الأفعال الحسنة التي تصدر من الأطفال عدة آثار إيجابية تدفع الطفل لتحقيق الأعمال الأخرى المناطة به بشكل سريع جداً.
وهذا ما أثبتته دراسات علم النفس والتـربية حيث نصت على أن التـرغيب والثناء على ما يقوم به الطفل من عمل سبب رئيسي في تقدم الطفل على وتطوره نحو الأفضل،ولذا نجدهم ينصحون أن يكون استعمال اللوم والذم أقل من الثناء والتحسين،كما ينبغي أن يكون الذم منبهاً للطفل،وفي حدود معينة،بل في خصوص الموارد التي يرجى فيها تقويم سلوكه وتصحيحه.
وهذه الأطروحة أطروحة إسلامية وليست أطروحة علمية بحتة يتميز بها علماء النفس والتـربية،إذ هي أطروحة نبي الإنسانية والرحمة ،نبي الإسلام محمد المصطفىحيث ذكر في ضمن سجاياه: أنه كان من شأنه التلطف بالصبيان.
—————————————————-
[1] عيون أخبار الرضا ج 2 ص 24.
[2] غرر الحكم ص 672.
[3] نهج البلاغة ج 3 ص 433.
[4] الكافي ج 2 ص 99.
[5] عيون أخبار الرضا ج 2 ص 24.
[6] الاختصاص ص 241.
[7] نهج البلاغة ج 3 ص 434.
[8] المصدر السابق.
[9] غرر الحكم ح 16786.
[10] غرر الحكم ح 2176.
[11] الخصال ص 568،رسالة الحقوق حق ذي المعروف.
[12] نهج الفصاحة ص 509.
[13] نهج البلاغة ح 347،شرح ابن أبي الحديد ج 19 ص 262.
[14] نهج البلاغة ج 3 ص 430.