قال أمير المؤمنين(ع): واعلموا عباد الله إن المؤمن يستحل العام ما استحل عاماً أول، ويحرّم العام ما حرّم عاماً أول، وإن ما أحدث الناس لا يحل لكم شيئاً مما حرم عليكم، ولكن الحلال ما أحل الله، والحرام ما حرم الله، فقد جربتم الأمور وضرستموها ووعُظتم بمن كان قبلكم، وضُربت لكم الأمثال ودعيتم إلى الأمر الواضح.
مدخل:
من الأمور اللازمة التي تستتبع استمرار حركة الزمن، حصول مجموعة من المتغيرات الخارجية على الأفراد والمجتمعات، سواء في الطابع الحياتي، أم في الطابع الفكري والثقافي، فتضاف إلى كل مجتمع مجموعة من العادات، وتدخل عليه أمور من التقاليد تعرف عند علماء الاجتماع بالعادات والتقاليد المستحدثة.
وتمثل هذه المتغيرات أو العادات المستحدثة تطوراً في حياة الشعوب بعيداً عما لهذا التطور من إيجابية أو سلبية.
ومع وجود موجة من التطور الحياتي في الخارج تطرح عدة أسئلة بعد دورانها في الأذهان، فيسأل عن النظرة الدينية لهذه التطورات، وهل يمكن أن تكسب الشرعية أم لا؟…
هل أن الدين في قوانينه وتشريعاته يواكب هذا التطور والتقدم الحضاري، أم أنه لا زال بعيداً عنه؟…
هل تخضع التشريعات السماوية للتغيـير والتبدل نتيجة الظروف الخارجية، أم أنها ثابتة غير قابلة للتغيـير أبداً؟…
هل يوجد للدين الإسلامي في هذه المتغيرات أراء ونظرات مع انقطاع حبل التشريع، وحصولها حديثاً، أم لا يوجد ذلك؟…
هذه التساؤلات، ولا أظن أنها تقف عند هذا المقدار، بل لا زال منها الشيء الكثير، تذكر متى وقع الحديث عن التطور والتقدم في الحياة الخارجية، أو التعبير بالحياة العصرية، أو الحياة المتطورة، خصوصاً وقد أصبحنا نعيش اليوم في عصر العولمة.
في رحاب أمير المؤمنين:
ولقد تضمنت كلمة أمير المؤمنين(ع) المتقدمة الإشارة إجمالاً لموضوعنا الذي نحن بصدد الحديث عنه، فتعرض(ع) لما ينبغي أن يكون من المؤمنين المتمسكين بدينهم وتعاليم قادتهم الهداة(ع)، ولكي يتضح هذا المعنى، نحتاج بيان المقصود من الكلمات الصادرة عنه(ع)، فنقول[1]:
إن المستفاد من كلامه(ع) أنه بصدد التنبيه والإشارة إلى بطلان العمل بكل ما لم يثبت أنه حجة معتبرة من الشارع المقدس، فكأنه(ع) بصدد بيان بطلان العمل بالرأي والقياس، كما نهى عن متابعة البدع، ولذا أشار إلى أن المؤمن لا يسوغ له تغيـير ما كان ثابتاً من الحكم الشرعي المقرر من قبل الشارع المقدس، فإذا ثبت عنده حلية أمر من الأمور فليس له الحكم والقول بحرمته، كما أنه لو ثبت عنده حرمة أمر من الأمور فإن ذلك يمنعه من القول بحليته، لأن المدار في الحكم بالحلية والحرمة يدور مدار ما صدر من الشارع المقدس في عالم التشريع، فلا مجال للإنسان المسلم في إعمال رأيه ونظره، في تغيـير الأحكام وتبديلها.
ثم أشار(ع) إلى أن كل ما ابتدعه الناس من الأمور والأشياء لا توجب إثبات حلية لتلك الأمور، إذ عرفت أن منشأ الحكم بالحلية والحرمة يدور مدار ما يصدر من الشارع المقدس، فما صدر من الشارع الحكم بحليته حكم بكونه حلالاً، وما صدر من الشارع الحكم بحرمته يـبقى أنه حرام، وإن خالف الناس في كلا الأمرين فابتدعوا في كليهما أمراً آخر خلاف ما هو الصادر من الشارع.
ولا أظنني بحاجة إلى التعرض لما أحدث من البدع بعد رحيل رسول الله(ص)، فإنها من الواضحات التي لا تحتاج بياناً، لكننا نشير إلى شذرات من ذلك، تذكيراً للقارئ الكريم بما أُحدث بعد رسول الله(ص).
فمما أحدثه أبو بكر عندما طلب البينة من السيدة الزهراء(ع) إذ جاءت تطالبه باسترجاع ملكها في فدك، لأن الصادر من النبي(ص) أن البينة على المدعي، ومع ذلك فقد خالف سنة رسول الله(ص) وحكم الشرع.
وكذا مما أحدثه عمر من أمور عدة، كصلاة التراويح، وتحريمه المتعتين، ووضعه الخراج على أرض السواد، وزيادته في أخذ الجزية عما كان قد قرره رسول الله(ص).
ولم يفت الرجل الثالث عثمان بن عفان الدخول في هذا المضمار فابتدع أموراً، كالتفضيل في العطاء، وإحداث الأذان يوم الجمعة زائداً عما سنه رسول الله(ص)، وقيامه بتقديم خطبتي صلاة العيدين، مع أن الصلاة في زمان رسول الله(ص) كانت مقدمة عليهما، وإتمامه الصلاة بمنى، مع كونه مسافراً، وحمايته لحمى المسلمين، مع أن رسول الله(ص) قد جعلها شرعاً سواء لكافة المسلمين.
وهذا الكلام الصادر من أمير المؤمنين(ع) يتوافق مع ما جاء في القرآن الكريم، حيث أن الباري سبحانه وتعالى قد ذمّ اليهود والنصارى في متابعتهم لرهبانهم وأحبارهم، فقال تعالى:- (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)[2]، لأنهم قد اتبعوا رهبانهم فيما تصرفوا فيه في الشريعة المقدسة من خلال ما صدر منهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال.
وقد أشارت لهذا المعنى بعض النصوص، فعن أبي بصير عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت له: (اتخذوا)، فقال: أما والله ما دعوهم إلى عبادة أنفسهم ولو دعوهم ما أجابوهم، ولكن أحلّوا لهم حراماً وحرّموا عليهم حلالاً فعبدوهم من حيث لا يشعرون.
مفهوم التطور:
وقد أتضح مما سبق بيانه في كلام أمير المؤمنين(ع) أن التغيـير المتصور عما كان موجوداً في عصر النبي(ص) من الأحكام لا يستوجب إعطاء الصبغة الشرعية للشيء، بحيث لا يخرج عن كونه مثلاً محرماً إلى كونه محللاً، ضرورة أن حلال محمد، حلال إلى يوم القيامة، وأن حرامه حرام إلى يوم القيامة.
نعم ما ينبغي الالتفات إليه أن هناك فرقاً في الجملة، بين مفهوم التطور والاستحداث، وبين البدعة، ذلك أن البدعة كما لا يخفى: تعني كل ما أدخل في الدين مما ليس من الدين، وقد أشرنا إجمالاً إلى بعض مصاديقها في عرض بيان كلام أمير المؤمنين(ع) ببيان شيء مما ابتدعه الثلاثة بعد رسول الله(ص).
بينما يمكننا القول بأن التطور معنى أعم، لأنه ربما شمل البدعة، من خلال إدخال ما ليس من الدين في الدين، وشمل غيرها، لأنه يشمل كل مستجد وحديث حتى لو كان هذا المستجد والحديث متوافقاً مع الشريعة الإسلامية، بمعنى أنه تشمله الأدلة الصادرة من الشارع المقدس في إثبات الحلية والجواز.
فيدخل في التطور ما يستجد في المجتمعات الإسلامية من المستحدثات في عالم الموضة، والأزياء، ويدخل فيه ما يستدخل في عالم تسريحات الشعر، وما يتضمنه من مستحدثات في عالم الزواج، وغير ذلك.
هذا وغالب الناس يعتقد حصر الموضة في عالم الأزياء، وتسريحات الشعر، وما شابه، مع أن الحقيقة أوسع من ذلك، حيث أنها تشمل الأفكار والآراء، وربما دعى بعضهم حتى إليها في المعتقدات، بحيث يطالب بتطوير المعتقدات وتجديدها في محاولة منه لإدخال التطور على الرسالة الإسلامية.
وهناك شيء أكثر من التطور، لكنه ينحصر في فئة خاصة من الأفراد، يمكن التعبير عنه بالنـزوات، وهو عبارة عن التقاليع، وهو أمر يشبه الموضة، لكنه يكون أمراً مبالغاً فيه بحيث ربما خرج عن حدّ المستساغ والقبول.
وبالجملة، ما لا يمكننا إنكاره، هو أن التطور قد اقتحم أغلب الميادين في حياتنا الخارجية، بل ربما يقال: أنه اقتحم كل ميدان منها، وهذا المعنى يظهر جلياً واضحاً على واقع حياة الناس في الخارج.
شرعنة هذه التطورات:
لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما هو الموقف الشرعي من هذه التطورات، وهل أنها سائغة يمكن للإنسان أن يقدم عليها؟…
هل يمكن أن تـتغير الأحكام الشرعية، وتـتبدل نتيجة التطور الحياتي، أم أنها لا قابلية فيها لهذا المعنى؟…
الثابت والمتغير:
وعندما نودّ الإجابة عن ذلك، ينبغي ملاحظة نقطة هامة، وهي أن الأحكام الشرعية عندنا منقسمة إلى قسمين:
الأول: الحكم الشرعي الثابت.
الثاني: الحكم الشرعي المتغير.
أما بالنسبة للحكم الشرعي الثابت، فنعني به التشريعات السماوية التي صدرت من الشارع المقدس على وفق الفطرة البشرية، المتكفلة لتنظيم روابط المجتمع الحياتية، من ناحية اجتماعية، واقتصادية.
فالعلاقات العائلية، سواء كانت بين الأب وأبنائه، أم كانت ما بين الأخوة أنفسهم، روابط طبيعية، لا تتغير وإن تقادم الزمن وتطور، ودخل عليه من الحداثة الشيء الكثير.
وكذا الأبعاد الأخلاقية والقيم، كشرب الخمر، وفعل الفواحش وما شابه من الأمور التي تـتنفر منها الطباع، فإنها مرفوضة، سواء بالأمس، أم اليوم، أم في أي وقت من الأوقات من دون فرق بين حين وآخر، لأنها تتوافق والفطرة الإنسانية، ولأن وجودها يعدّ سبباً من الأسباب الموجب لهدم البنية الاجتماعية في نواحي عديدة.
والذي نستطيع تحصيله مما ذكرناه، أن مثل هذه التشريعات تكون من التشريعات الثابتة التي لا تقبل التغيـير ولا التطور، وهي التي تكون مصداقاً لقوله(ص): حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة. لأنها أمور قارة. كما أنه المقصود من عبارة أمير المؤمنين(ع) التي سبق منا الافتـتاح بها.
وأما الحكم الشرعي المتغير: فهو الذي يكون صادراً من الشارع المقدس نتيجة وجود مصلحة تستدعي وجوده، أو نتيجة وجود مفسدة تستدعي النهي عنه، فهو بمثابة القانون المحدد لفترة زمنية محددة، ونتيجة مجموعة من الظروف الخاصة، فهو تبدل عما كان عليه سابقاً إلى أمر آخر، كما أنه ربما يعود لما كان عليه بعد فترة زمنية وجيزة.
فمثلاً، ربما كانت المصلحة تستدعي أن تقدم جميع الدول الإسلامية على مقاطعة كافة البضائع الغربية، فضلاً عن البضائع الأميركية والإسرائيلية، لما يمثله التعامل معها من تقوية لهؤلاء يسيئون خلالها للإسلام وأهله.
الإسلام والتطور الزمني:
والحق أن القوانين الإسلامية بما تضمنـته من حفظ لحقوق الإنسان ومراعاة لكرامته، تـتدخل في كافة الشؤون الحياتية له، لأنها لم تقتصر على مراعاة البعد العبادي، أو البعد الاقتصادي في حياته، كما عليه الكثير من التقنينات، بل إنها تعدت ذلك لتدخل في كافة الأمور والأشياء المرتبطة بحياته والشؤون المتعلقة به، فمن البعد العبادي، إلى البعد الاقتصادي، إلى البعد الاجتماعي والأسري، إلى غير ذلك.
وفي كل هذه الشؤون الحياتية المتعلقة بالظروف الإنسانية، نجد أن القوانين الإسلامية تماشت مع ظروف الإنسان وشؤونه الحياتية، بحيث أنها لم تجمد على وفق الأسس التي كانت في عصر رسول الله(ص) بل كانت فيها مرونة متوافقة من الشريعة السمحاء، وجاءت متوافقة مع التطورات الحياتية التي يعيشها المجتمع، وما ذاك إلا بسبب مرونة التقنين الإلهي في أصل جعل الأحكام وتشريعها، بحيث كانت تنطوي على قابلية للموافقة لكل عصر وزمان، وما كانت منحصرة في حقبة معينة من الزمن.
وبناءاً على هذا يمكننا معالجة كافة التطورات الخارجية، والإجابة على جميع الأسئلة التي طرحناها في مطلع الحديث، حيث قد أتضح أن الدين الإسلامي قابل للتطور والتغيـير، لكن التغيـيرات التي تقع في الأحكام الشرعية ليست في الأحكام الثابتة المتوافقة مع الفطرة، بل هناك أحكام خاصة قد عرفت قبولها للتغيـير وفق مجموعة من الظروف الخاصة.
كما يمكننا من خلال ما قدمنا معالجة كافة التطورات الأخرى، حيث أتضح لنا أن الدين الإسلامي ليس ديناً جامداً لا يقبل التوافق الحضاري، أو أنه دين موروث يسير على وفق ما كان في عصر التشريع في كل شيء، بل إن الإسلام هو الحضارة بعينها، وهو يعالج كافة الأمور المرتبطة بالحياة البشرية.
فليس هناك من قضية في حياة الإنسان ليس لها من علاج وحكم عند الشرع الشريف، لأننا نعتقد بأن لكل قضية حكماً شرعياً خاصاً بها.
وعلى هذا يمكننا تقسيم التطورات الواقعة في الخارج إلى قسمين:
الأول: التطورات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية، والسائرة على وفق القوانين المقننة من قبل الشارع المقدس.
الثاني: التطورات البعيدة كل البعد عن الساحة الإسلامية.
ولا يخفى أن القسم الأول، لا نحتاج إلى الحديث عنه، لأنه يتوافق مع الشرع، وبالتالي لا وجه للكلام فيه من جهة حلية ومنع.
إنما الكلام في الحقيقة في خصوص القسم الثاني، فإنه لما كان منافياً للشرع الشريف، فسوف يدخل فيما سبقت الإشارة له من أمير المؤمنين(ع) في مطلع الحديث، لكونه يمثل أمراً مبتدعاً، وقد ورد في الحديث الشريف: أن من سنّ بدعة سيئة فعليها وزرها، ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة.
موقفنا من القضايا المستحدثة:
ولما كانت هذه التطورات غير متوافقة مع الشرع، فلابد لنا من اتخاذ موقف حازم تجاهها، يتمثل ذلك بداية في القيام بعملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا حاجة بنا للحديث عن هذا الأصل الأصيل، لكونه من الواضحات، لكنني أشير إلى طريق آخر من الطرق التي يعمد إليها بعد عدم إمكانية العلاج من خلال الأمر بالمعروف، وهو طريق المقاطعة الاجتماعية.
المقاطعة الاجتماعية:
ونعني بالمقاطعة الاجتماعية، امتناع كافة أفراد المجتمع، ولا أقل الأفراد المرتبطين بالشخص المعني عن التعامل معه، وتحسيسه بأنه مخطئ، وأنه ليس في طريق الصواب.
وقد أشار القرآن الكريم إلى مثل هذا الموقف في عصر رسول الله(ص) في قضية الثلاثة الذين خلفوا، قال تعالى:- (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذي اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم وعلى الثلاثة الذين خلفوا حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم)[3]
والقصة كما نقلت في كتب التفسير والتاريخ، أنه حينما خرج النبي(ص) إلى القتال
في معركة تبوك، تخلف عنه جماعة من المنافقين، وبعض المؤمنين الذين التحق قسم منه به(ص) بعد ذلك، وبقي في المدينة ثلاثة أشخاص منهم، وهم: كعب بن مالك الشاعر، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الرافعي. مع أنه قد اجتمعت أسباب الخروج عندهم مع رسول الله(ص) فقد ذكر كعب أنه اجتمعت عنده يومها راحلتان، وكان يمني النفس بالخروج اليوم وغداً ليلتحق برسول الله(ص) لكنه يتوانى، وكان يدخل إلى السوق من دون أن تكون له حاجة يقضيها، فلقي هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، فتوافقوا على التبكير إلى السوق، وكانوا يـبكرون من دون أن يقضوا حاجة، وبقوا على ذلك، يقولون: نخرج غداً، أو بعد غد، حتى رجع رسول الله(ص) إلى المدينة، فأصابهم الندم، وجاوؤا يستقبلون رسول الله(ص) ويهنئونه بالسلامة، فسلموا عليه، فلم يرد عليهم السلام، وأعرض عنهم، وسلموا على المسلمين فلم يردوا عليهم السلام، فبلغ ذلك أهلوهم فقطعوا الكلام معهم، وكانوا يحضرون المسجد فلا يسلم عليهم أحد، ولا يكلمهم.
وجاءت نسائهم رسول الله(ص)، فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا!!أفنعتزلهم؟! فقال رسول الله(ص): لا تعتزلنهم ولكن لا يقربوكن.
فلما رأى كعب بن مالك وصاحباه ما قد حل بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة ولا يكلمنا رسول الله(ص) ولا إخواننا ولا أهلونا؟ فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت، فخرجوا إلى(ذباب)وهو من جبال المدينة، فكانوا يصومون النهار ويحيون الليل بالعبادة، وكان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم ولا يكلمونهم، فبقوا على هذا أياماً كثيرة يبكون في الليل والنهار ويدعون الله سبحانه أن يغفر لهم، فلما طال عليهم الأمر، قال كعب: يا قوم قد سخط الله علينا ورسوله، وقد سخط علينا إخواننا وأهلونا، فلا يكلمنا أحد منهم، فلم لا يسخط بعضنا على بعض، فتفرقوا في هذا الجبل وحلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه، فبقوا على ذلك ثلاثة أيام، وكل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه ولا يكلمه، فلما كانت الليلة الثالثة ورسول الله(ص) في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على النبي(ص)، وهي قوله تعالى:- (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار…الخ…)
فهرع المؤمنون إلى جبل ذباب فرحين يحملون البشرى لكعب وصاحبيه بقبول الله تعالى توبتهم، فلما وصلوا إليهم وجدوهم في حالة الذوبان إلى الله سبحانه، والتسليم له، في حالة لا يتصف بها إلا الأولياء والمقربون، فلما بشروهم بقبول التوبة جهشوا بالبكاء، وفاضت دموعهم حياء من الله تعالى، وسجدوا له سبحانه شكراً.
وما نريد أن نستلهمه من هذه القصة، الأسلوب التربوي الذي اتبعه النبي(ص) في معالجة مشكلة من المشاكل التي لو بقيت على حالها لكانت سبباً يتزايد مع الأيام، ويؤدي إلى وجود خلل في المنهج الإيماني عند المؤمنين، ولذا عمد (ص) إلى معالجته، وكانت المعالجة عن طريق المقاطعة التي طبقها(ص) هو والذين معه من المسلمين، وكانت نتيجة ذلك أن أثرّ هذا العمل وبشكل كامل في الأفراد المقاطعين بحيث عمدوا إلى التوبة والاستغفار، وصار ذلك سبباً إلى قبول الله سبحانه وتعالى توبتهم.
وما أحوجنا اليوم أن نستفيد من هذا الدرس، ونطبقه في مجالات حياتنا اليوم، ونقف من خلاله أمام الكثير من القضايا التي تدخل إلى أوساطنا الإيمانية، وما هي إلا سموم قاتلة يرغب بواسطتها من حلحلة المجتمع الإيماني، وتفكيك بناه الإيمانية، وتحويلها إلى نقاط جوفاء لا تحمل في معانيها ومضامينها شيئاً أصلاً.
——————————————————————————–
[1] منهاج البراعة ج 10 ص 187.
[2] سورة التوبة الآية رقم 31.
[3] سورة التوبة الآيتان رقم 117-118.