المحاكاة والتقليد

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
277
1

قال تعالى:- (وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه ءاباءنا أو لو كان ءاباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون)[1].

مدخل:

يظهر في المجتمعات الإسلامية بين الفينة والأخرى ، بعض الظواهر الحياتية ، ويبدأ أفراد المجتمع على اختلاف طبقاتهم ، بالتعامل معها بأشكال متعددة ، تختلف بين القبول والرفض أو التوقف.

ولو راجعنا أنفسنا في محاولة منا لدراسة العوامل التي أدت إلى حصول هذه الظواهر ونشوئها ، لوجدنا على رأس الأسباب الداعية لوجود تلك الظواهر مسألة التقليد والمحاكاة لما يفعله الغير،على اختلاف الغاية التي كانت في المحاكاة والإتباع.

حيث أن المجتمعات النامية لا تنفك عن استقبال كل ما من شأنه أن يكون وسيلة لمجاراتها للحركة التطورية عند المجتمعات الكبرى.

ولذا نجد حركة التقليد والمحاكاة سبب رئيس لسرعة انتشار كل ظاهرة في هذه المجتمعات دونما دراسة لمدى الآثار السلبية والإيجابية لهذه الظاهرة.

ثم إننا لا نود التقليل من الفوائد الإيجابية التي يعود بها التقليد على الفرد،خصوصاً وأنه يعتبر أحد الطريقين اللذين يكتسب الفرد من خلالهما أمور تربيته وتعليمه،بل يعتبر التقليد صاحب الأهمية الأكثر في هذا المجال.

وفي هذه الآية التي صدرنا بها البحث نجد أن الله سبحانه وتعالى ، يتعرض للحديث حول هذه الظاهرة العامة في حياة البشر ، أعني ظاهرة المحاكاة والتقليد ، فنرى القرآن يخبر عن أن المشركين والكفار كانوا يقلدون الآباء ويحاكون أفعالهم دونما عقل أو هدى.

فهم يرفضون الدعوة التي جاء بها رسول الإنسانية محمد(ص)لا لشيء إلا لكونها تختلف عما كان عليه الآباء،وتغاير المنهج الذي رأوا آباءهم يتبعونه،ويسيرون عليه،فلا قابلية لديهم لقبول هذه الرسالة تبعية منهم وتقليداً ومحاكاة لآبائهم.

التقليد:

والتقليد هو متابعة الغير ومحاكاته ، سواء كان ذلك في أفعاله ، أم في أقواله.

وعندما نتحدث عن هذا المصطلح ، نجده من المصطلحات ذات الحركة والوجود في حياتنا اليومية.

فهناك تقليد فقهي ، وهناك تقليد عقائدي ، كما أن هناك تقليداً حياتياً يعد أمراً طبيعياً.

فالتقليد الفقهي ، هو وظيفة المكلف لإفراغ ذمته مما تعلق بها من التكاليف ، لأنه يعلم بأنه مكلف من قبل الله سبحانه وتعالى ، وعليه أن يفرغ ذمته من هذه التكاليف وسبيله إلى ذلك عدة طرق منها التقليد والاستناد إلى الغير في أقواله وأفعاله.

وهذا التقليد في غير الأمور الضرورية واليقينية حيث أنها لا تحتاج لمعرفتها والالتزام بأدائها وإفراغ الذمة منها، إلى أي واحد من هذه الطرق المعروفة التي أحدها التقليد.

وأما التقليد العقائدي ، فهو على نحوين:

1-تقليد في الأصول ، أعني أصول الدين.

2-تقليد في الفروع ، أي فروع الدين.

وهناك تقليد في الأمور الحياتية ، بمعنى المحاكاة والمتابعة للأمور الخارجية ومجارانها في الخارج.

كالشاب الذي يحلق شعر رأسه مثل نجوم السينما ، أو يرتدي ملابساً مثلهم ، أو من يقوم بحركات استعراضية بسيارته كأبطال سباق السيارات وغير ذلك.

فإن هذا وأمثاله يمكن أن نعبر عنه بالتقليد الطبيعي ، أو التقليد الحياتي.

أقسام التقليد الحياتي:

وهذا التقليد الحياتي،أو الطبيعي على نحويين:

الأول:التقليد الاستمراري،بمعنى الجري على نفس العادات والتعاليم التي كانت موجودة في عصر الآباء وإيجادها في الخارج،دونما ملاحظة لكونها ذات مردود إيجابي،أو سلبي.

وبعبارة أخرى،هذا النوع من التقليد هو محاكاة لما كان يعمله الآباء سابقاً وهو يستدعي تعطيل القوى الفكرية عند الإنسان،لكونه إبقاء للحالة السابقة الموجودة في عصر الآباء.

الثاني:التقليد الحياتي،أو الطبيعي المستحدث،وهو التقليد الذي يستدعي استقدام مجموعة من الآداب،أو الأخلاقيات،أو العرفيات التي لم تكن معروفة في المجتمع وإدخالها فيه.

وهذه الإستحداثات على عدة أنواع،فقد تكون في اللباس،كما يمكن أن تكون في الآداب والأخلاقيات،كما يمكن أن تكون في الثقافة الفكرية،أو الروحية،أو الدينة،وغير ذلك.

هذا ويمكننا أن نقسم التقليد من النحو الثاني،بما قسم به علماء النفس التقليد،حيث صنفوه إلى ثلاثة أصناف:

1-التقليد الطفولي،وهو يعني أن يقوم شخص بعمل مماثل لما يقوم به شخص آخر،مثل الطفل الذي لا يتجاوز عمره عدة أشهر أو بضع سنوات،فهو عندما يرى المحيطين به يتبسمون،فإنه يبتسم فوراً دون أن يفهم معنى وتفسيراً لتبسمهم.

وهذا النوع من التقليد يعبر عنه علماء النفس بالمحاكاة.

2-أن يكون التقليد متضمناً لهدف يهدف المقلد إلى بلوغه عندما سعى إلى تقليد الآخرين،حتى لو لم يعِ الهدف الذي سعى من أجله،مثل الطفل الذي يقلد كبار السن في أعمالهم بهدف التشبه بهم،فهو يقلد بوعي،لكنه وعي ضئيل،وهو غير ملتفت إلى ذلك الهدف.

3-وهو ما يسمى بالاقتباس،بأن يقوم شخص بتكرار عمل يقوم به الغير،وهو يعلم بحسن هذا الفعل الذي يكرره،كالشاب الذي يصطفي من بين أفعال الآخرين ما يراه حسناً،ويقيم الدليل على حسن اختياره.

التقليد في القرآن :

ولقد تعرض القرآن الكريم لذم التقليد والمقلدين ، ورفض هذا العمل ، وأشار لخطأ العاملين به.

لكن لا يخفى أن التقليد المذموم في القرآن لبس على إطلاقه ، بل هناك تقليد محبوب ، بل واجب في بعض الموارد كالتقليد في الفروع الفقهية للمكلف الذي لا طريق له لإفراغ ذمته إلا من خلاله.

حيث أن الاجتهاد لا يمكن لكل الناس الوصول إليه،لكونه يستلزم تفرغاً تاماً للبحث والمتابعة فضلاً عن الدراسة،فلو قرر جميع الناس أن يكونوا مجتهدين،للزم تعطيل الحياة البشرية.

كما أن الطريق الثالث لإفراغ الذمة من التكاليف الذي هو الإحتياط،متعسر غالباً على المكلفين،لاختلاف موارده،حيث أن بعضها يستدعي التكرار،أو العمل،أو الترك،وهكذا.

وقد يكون التقليد مذموماً وممنوعاً عنه كالتقليد في أصول الدين ، أو التقليد في الفروع الفقهية للمجتهد ، ثم إن هذين القسمين ليسا مورداً لبحثنا.

وبعبارة أخرى،يمكننا القول أن القرآن يعتبر في قبول التقليد أن يحقق فائدة للفرد أو المجتمع،وذلك يكون بتحقق أمرين:

الأول:أن يكون التقليد في حق وعن حق،فلا يكون إلا ممن له الكمال والهداية والصلاح،قال تعالى:- (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى فما لكم كيف تحكمون)[2].

فلابد من أن يرى التابع في المتبوع جهة كمال ليستفيد منه في ارتقاء العقل،بلا فرق بين أن تكون هذه التبعية شخصية،أم نوعية،دينية أم دنيوية،قال تعالى:- (واتبعوا النور الذي انزل معه)[3].

فالقرآن يرفض التبعية والتقليد الذي لا يجتنى منه إلا الفساد والضلال،ويكون مآل صاحبه إلى النار،قال تعالى:- (قال نوح رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خساراً)[4].

الثاني:أن تكون الغاية من التقليد هي الاستكمال،لا مجرد المحاكاة التي لا يخلو عنها الحيوان،قال تعالى:- (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه)[5].

ويستفاد هذا المعنى أيضاً مما ورد في قصة موسى(ع) مع الخضر(ع)،قال تعالى:- (هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشداً)[6].

وقال تعالى:- (الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه ُاولئك الذين هداهم الله وُاولئك هو ُاولوا الألباب)[7].

وعليه فالذم الوارد في القرآن للتقليد مرده لانتفاء الشرطين اللذين يشترط توفرهما فيه.

التقليد الأحمق :

وأما التقليد الحياتي والطبيعي ، فقد تخيل بعض علماء النفس أنه لون من التأقلم مع البيئة،بمعنى أن الفرد لما كان دائماً يسعى لمحاولة التأقلم مع البيئة،والانسجام معها،لذا نراه يتعود على العادات الجديدة التي تحدث فيها وتطرأ على نظمها.

وقبل أن نتعرض لصحة هذه النظرة من علماء النفس،نشير إلى تصنيف التقليد الحياتي إلى تقليد مباح يعود بالنفع والفائدة على المقلد والمحاكي للآخرين.

بمعنى أن وجود هذه الظاهرة بين أبنائنا ، شيء حسن يعود بالنفع عليهم فيرفع من قدراتهم ومهاراتهم ، ويوظف طاقاتهم لما فيه صلاحهم.

ولا ريب في حسن هذه المحاكاة والتقليد ، ومطلوبيتها لدى العقلاء وندبهم إليها .

وهناك تقليد مباح،لكنه لا يعود بالنفع أو الفائدة على شبابنا وإنما هو مجرد محاكاة ومتابعة غوغائية للظاهرة الموجودة خارجاً.

ومن الواضح أن العقلاء يرفضون هذه المتابعة والمحاكاة لكونها تجعل المتابع أحمقاً، لا يحسن التصرف ، ولا يستطيع تقويم الشيء الحسن من القبيح.

وهنا بعض المحاكيات والمتابعات الحياتية ، قد تؤدي إلى الوقوع في الحرام ، فينبغي للإنسان أن يلتفت ، قبل أن يقدم على المجاراة للواقع الخارجي ، إذ ربما وقع في المحرم لمجرد كونه تابع الآخرين في الظاهرة الموجودة وجاراهم فيها.

وعلى هذا يمكننا أن نقول،بأن التقليد الحياتي،يختلف بلحاظ ظرفه الخارجي،من جهة الحكم الشرعي،فربما كان التقليد للآخرين محرماً لا يجوز للإنسان أن يتابعهم فيهم.

وربما كان التقليد للآخرين مكروهاً،لكونه لا يعود بالنفع على الفرد المقلد والمحاكي لفعل الآخرين.

وقد يكون من المحاكاة المحبوبة والمندوب لها لكونها تشتمل على فوائد جمة تعود على المحاكي للفعل.

بعد هذا التصنيف يمكننا أن نقول بأن المحاكاة التي تفتقد إلى كل فائدة عقلائية،فلا يندب العقلاء لها،يمكننا أن نعبر عنها بأنه نوع من أنواع التأقلم البيئي،الذي أشار له بعض علماء النفس،فليس التقليد بجميع أقسامه يدخل تحت هذا العنوان.

العقل وهدف التقليد:

ثم إن كل مقلد لشخص في ما يصدر منه ، عليه أن يعلم هدفه من العمل الذي يقلده فيه،

فالعقلاء يقومون بدراسة عقلية ليعرف المقلد هدف الشخص الذي يقلده ،ولذا لا نراهم يقلدون اعتباطا دونما هدف وغاية ، كما أنهم لا يتبعون الأشخاص عشوائيا.

وإنما يدرسون الشؤون الحياتية بعد مطالعتها والتعمق فيها ، ثم يختارون ما هو نافع ومفيد ومثمر منها، ويتركون ما لا نفع ولا فائدة فيه.

التقليد الأعمى:

أما قاصري النظر ، فهم كالأطفال الذين لم تنضج قواهم الفكرية بعد ، ولذا يتأثرون بكل أحد ويقلدون أعماله تشبهاً به ويسلكون سلوكه ، دون أن يميزوا بين خيره وشره ، أو يطلعوا على الهدف النهائي لهذا العمل.

ومن الواضح أن هذا النوع من التقليد لا يتضمن أي فائدة عقلية أو علمية ، بل قد يؤدي في بعض الأحيان إلى إلحاق الضرر بمن يوجده في الخارج.

آفات التقليد:

يعتبر التقليد من الأمور ذات الجنبتين الإيجابية والسلبية ، ولسنا هنا بصدد الحديث عن الآثار الإيجابية للتقليد لكونها واضحة ، لا تحتاج بياناً ، لكن نشير لبعض الآثار السلبية المترتبة على التقليد غير العقلائي :

1-فقد المجتمع هويته:

إذ أن كثيراً من الأشياء الدخيلة على المجتمع تستدعي تعود أبناء المجتمع عليها،وبالتالي تتابع الأجيال على العمل بها مما يعني أن تفقد الهوية السابقة للمجتمع،ولنأخذ لذلك مثالاً،المجتمع القرشي،كان على الحنفية السمحاء وهي ملة إبراهيم حنيفاً،فلما دخلت إلى أرض مكة المكرمة عبادة الأصنام بدأت المسألة تدريجياً حتى تعدت إلى أن تحول المجتمع المكي مجتمعاً منحرفاً وبعيداً عن هويته السابقة التي كان عليها،وهكذا كثير من الأمور التي تجري في المجتمعات اليوم،فبمجرد دخولها يؤدي ذلك إلى فقد المجتمع إلى هويته تدريجاً.

2-وجود ظواهر حياتية تتنافى مع الآداب والأخلاقيات العامة للمجتمع:

وهذا أيضاً،من الأمور اللازمة للتقليد،لأن الغاية التي هدف المقلدون منها هو تغيـير الواقع الذي عليه مجتمعهم،فهم يسعون إلى تبديل ذلك الواقع ووضع أشياء بديلة عنه،وكثيراً ما تكون تلك الأشياء البديلة تتنافى مع الآداب والقيم التي يعشقها ذلك المجتمع.

مثلاً هناك بعض الآداب والقيم الإسلامية التي يلتـزم بها أبناء المجتمع المسلم،ونجد اليوم مجموعة من المحاكاة والتقليد لبعض الآداب والقيم الغربية التي تنافى مع آدابنا قد دخلت إلى مجتمعنا بصورة سريعة وقوية جداً حتى احتلت جزءاً من واقع الأمة الإسلامية.

ثم إن هناك بعض أنواع المحاكيات والتقليد المنافي للآداب والقيم الاجتماعية حسن،بمعنى أنه إدخال لشيء إيجابي في واقع المجتمع الإسلامي لأن تلك المورثات القديمة الموجودة عند الأباء والأبناء غير حسنة ولا جيدة ينبغي تغيـيرها،فإدخال ما يخالفها شيء مطلوب.

3-ضعف المعارف الروحية والدينية عند أبناء المجتمع:

حيث أن هذه الظواهر يقصد منها غالباً تميـيع الناحية الدينية في المجتمعات المسلمة،فهي نوع من أساليب الغزو الثقافي الذي يوجه للمجتمع الإسلامي بشكل عام،ويرغب من خلاله هؤلاء الغزاة إلى تميـيع الناحية الدينية عند الشباب المؤمن،من خلال هذه الطروحات المستحدثة،التي لا تمت إلى النواحي الدينية أو الروحية بصلة أصلاً،وتدريجياً مع الالتـزام بما فيها والتقيد بمحتوياتها تكون النتيجة هي فقد المجتمع لقيمه الدينية والروحية.

خاتمة:

هذا وفي الختام يجدر بنا أن نقلد من دعينا لجعله قدوة لنا،ونتبع منهاجه ونسلك سبيله،ونهتدي بهداه،ألا وهو المصطفى محمد وآل بيته الطيـبين الطاهرين(ع)،فإنهم خير قدوة.

اللهم ثبتنا على محبتهم وولايتهم والبراءة من أعدائهم، آمين رب العالمين.

—————————————————-

[1] سورة البقرة الآية رقم 170.

[2] سورة يونس الآية رقم 35.

[3] سورة الأعراف الآية رقم 157.

[4] سورة نوح الآية رقم 21.

[5] سورة التوبة الآية رقم 100.

[6] سورة الكهف الآية رقم 66.

[7] سورة الزمر الآية رقم 18.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة