قال (ص) : تزوجوا فإني مكاثر بكم الأمم غداً في القيامة[1].
مدخل:
تضمنت بعض النصوص الإسلامية التصريح بأن الغاية الأساسية من تكوين الأسرة هي حفظ النوع البشري من خلال تلبية الغريزة الجنسية بالاتصال الجنسي بين الزوجين،وعلى هذا الأساس يكون للزواج ثمرات عدة:
منها: حصانة المكلف ذكراً كان أم أنثى من خلال الإشباع الجنسي.
ومنها: حفظ النوع البشري من خلال التناسل الذي هو ثمرة الإشباع الجنسي.
وقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة بقوله تعالى:- (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ([2].
هذا ويوجد اعتقاد شائع بين المسلمين بمطلوبية إكثار النسل لكون ذلك من الأمور التي رغب الشارع المقدس فيها وطلبها وندب إليها،وهناك نصوص صحيحة تؤيد هذا الاعتقاد،بل تدل عليه كما هو الحديث النبوي الذي افتتحنا به المقام.
وعندئذٍ نبتلى بمسألة مهمة وهي:
إن ما ذكر سوف يكون حجر عثرة في الدعوة إلى تحديد النسل فضلاً عن الإفتاء بجوازه،فهل أن تحديد النسل حرام شرعاً،ويقال لكل من أفتى بالجواز فيه بأنه مجتهد مقابل النص أو لا؟….
نحتاج في مقام الجواب إلى تقديم مقدمة نتعرض بعدها إلى بعض النقاط فنقول:
المقدمة:
لا ريب في أن مسألة الإنجاب وعدمها من الأمور التي تعود إلى الزوجين فهما اللذان يقرران الإنجاب وعدم الإنجاب،لكون ذلك من حقوقهما الشخصية التي ليس لأحد التدخل فيها،نعم في بعض الموارد إذا كانت الأمة بحاجة إلى الأولاد ذكوراً كانوا أم إناثاً فهنا يكون الولد حق للأمة وبالتالي يجوز للحاكم الشرعي أن يأمر بالإنجاب.
بل ترقى بعض الفقهاء فذكر أن مسألة الإنجاب مسألة شخصية تختص بخصوص الزوجة فالأمر فيها يعود إليها فهي التي تقرر إن شاءت الإنجاب أنجبت وإلا فليس للزوج الحق في أن يجبرها عليه كما أنه ليس له الحق في منعها عنه.
وعلى هذا ليس أمر إنجابها وعدمه رهين رضا الزوج وقبوله بل هو رهين قناعتها الشخصية هي وقبولها،فلا تحتاج في الإقدام على الإنجاب وعدمه إلى تحصيل رضا زوجها.
ثم إنه بمجرد انعقاد النطفة وولوج الروح لا يجوز للأبوين حرمان الولد من حق الحياة بالقيام بعملية الإجهاض.
إلا أن الكلام الذي ينبغي الالتفات إليه هو:
هل يوجد دليل شرعي يدل على لزوم الإنجاب بحيث يكون الامتناع عنه سبباً شرعياً يؤدي إلى مخالفة شرعية أو أنه لا يوجد ما يدل على ذلك؟…
قد يقال بثبوت ذلك من خلال الاعتماد على النص الذي افتتحنا به المقام ومن خلال غيره من النصوص الواردة في كثرة طلب الولد والنصوص الواردة في الأذان في البيت لزيادة الأولاد وما شابه ذلك،من خلال أنها واردة بنحو الأمر وهو ظاهر في الوجوب فعندها يفتى بوجوب كثرة التناسل والإنجاب.
بل قد يتمسك بقوله تعالى:(لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان إثماً كبيراً([3].
حيث دلت على المنع من قتل الأود بجميع الصور المتصورة للقتل التي منها منع انعقاد النطفة كما هو غرض منع الحمل وهذا النهي دال على الحرمة.
ثم إنه بناءاً على هذا سوف نحتاج ملاحظة ذلك وبالخصوص الحديث النبوي التي جعلناه محور بحثنا فسيكون حديثنا في جهات:
الأولى: شرح مفاد الحديث الشريف:
إن المستفاد من الحديث النبوي بحسب ظهوره الأولي هو لزوم كثرة التناسل وأن المنع عنه مدعاة إلى ارتكاب المكلف مخالفة شرعية كما أن ذلك يعد إقداماً على فعل محرم.
لكن هذا الظهور تمنع عن قبوله عدة احتمالات تستوجب صرف الظهور عن هذا المعنى المتصور، نشير لبعضها على نحو الاختصار:
الأول: لقائل أن يقول: إن هذا الحكم الوارد في النص من الأحكام الولائية السياسية فليس هو حكم تشريعي،بمعنى أن ضعف المسلمين في السابق وقلة عددهم وشوكتهم كانت تستدعي الإقدام على تكثير النسل والحث عليه من أجل أن تكون للإسلام كلمة عليا وقوة ضاربة.
أما اليوم وبعد أن كثر عدد المسلمين بصورة كبيرة جداً فلا معنى لبقاء الحكم على حاله بل ينتفي هذا الحكم بإنتفاء موضوعه.
وبعبارة أخرى: إن القضية الواردة في النص قضية خارجية وليست قضية حقيقية حتى تجري في كل مكان وزمان،بل هي قضية خارجية ناظرة إلى وقت كانت كثرة الأولاد دليلاً على القدرة والشوكة بحيث كانت الأقوام تتفاخر بكثرة الأولاد والأموال.
ويشهد لما ذكرنا من أن ذلك كان مختصاً بفترة زمنية كان ينظر فيها إلى أن كثرة دليلاً على القوة والمنعة ما حكاه الله سبحانه وتعالى عن المترفين في الأمم السابقة،قال سبحانه:- (وما أرسلنا في قرية من نذير إلا قال مترفوها إنما بما أرسلتم به كافرون.وقالوا نحن أكثر أموالاً وأولاداً وما نحن بمعذبين([4].
فإذا ثبت اليوم أن كثرة النفوس توجب الضعف والفقر والجهل والمرض والبطالة فلا تكون سبباً للافتخار بل سوف تكون سبباً للفشل والتواني فلا ريب في عدم محبوبية الإنجاب فضلاً عن الإكثار منه والدعوة إليه.
وقد يقرب هذا الاحتمال لكن بتصوير مغاير فنقول:
إن الداعي للحث على تكثير النسل هو تهديد الحالة الاقتصادية حياة الناس في الزمن السابق حيث كان القحط والجوع عاملين رئيسيين في تهديد حياة الكثير من الناس إما للفقر أو لعدم التمكن من نقل المؤن أو لغير ذلك.
لكن اليوم قد تغيرت الحال حيث صار بالإمكان نقل المواد الغذائية من بلد إلى بلد آخر وبسهولة جداً،مضافاً إلى كثرة الأمراض في السابق مما يعني قلة متوسط الأعمار عما هو عليه اليوم.
هذا كله كان داعياً إلى الدعوة إلى تكثير النسل والحث على ذلك.
الثاني: إن الحث على الإكثار من النسل والدعوة إليه لابد من تقييدها بصورة تمكن الأبوين من تربية الأولاد والذرية المنجبة تربية تؤدي بها إلى الصلاح والهدى حسب مقاييس الإسلام.
ودليلنا على لزوم هذا التقييد الحديث النبوي الذي تضمن المباهاة والمفاخرة يوم القيامة بكثرة النسل،ومن المعلوم أن المباهاة والمفاخرة لن تكون إلا بالكثرة الصالحة كما هو منطلق القانون العقلائي لا أن التباهي والتفاخر يرى العقلاء حسنه حتى بالكثرة غير الصالحة.
وعلى هذا لو غلب الظن على عدم قدرة الأبوين على تربية ما زاد على قدر معين من الأولاد تربية صالحة ،بل سيؤدي الإنجاب إلى كثرة غير صالحة فلا ريب في انتفاء مفاد الحديث.
الثالث: لقائل أن يقول: قد سلمنا بالدعوة إلى الإكثار من الإنجاب،إلا أن الظروف الراهنة لا تساعد على ذلك،وعليه يكون المقام من موارد الأحكام الثانوية،وعلى هذا سوف نرفع اليد حينئذٍ عن الحكم الأولي الداعي إلى الإكثار من الإنجاب.
نعم هنا لابد من الالتفات إلى أن ما ذكرناه من اختلال الظروف الخارجية التي تستوجب ارتفاع الحكم الأولي للإنجاب ليس نفياً للإيمان بالله سبحانه وتعالى وعدم ثقة به وعدم التوكل عليه فيما يرجع الأمر إليه،قال تعالى:- )لا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيراً([5].
الرابع: لابد من تقييد الحديث وغيره من الأدلة الدالة على ذلك بما إذا لم يكن هناك ضرر على الأم،فإذا كان هناك ضرر عليها فلابد من ملاحظة هذا الدليل الدال على تكثير النسل مع الأدلة الدالة على حرمة الإضرار بالنفس.
والظاهر أن دليل حرمة الإضرار بالنفس مقدم على مفاد أدلة إكثار النسل لو كانت ظاهرة في الوجوب،فضلاً عما إذا كانت ظاهرة في الاستحباب.
والإنصاف إن عمدة ما يستفاد من هذا الحديث بضمه إلى النصوص الدالة على جواز العزل والوجوه التي ذكرناه كمنبهات على نفي الوجوب هو الاستحباب فعندها نرفع اليد عن كون الحديث ظاهراً بحسب المعنى الأولي في الوجوب.
وهنا ينبغي الالتفات إلى أن المنبهات والاحتمالات التي ذكرناه في التوقف في ظهور هذه الأدلة على الوجوب بنفسها تجري أحياناً بالنسبة إلى الاستحباب.
التمسك بالآية:
بقي في الختام أن نشير إلى الجواب عن التمسك بالآية المباركة على عدم مشروعية تحديد النسل فنقول:
إن الآية المباركة في مقام الحديث عن إبطال معتقد جاهلي كان يتضمن قتل الأولاد بعد ولادتهم خوفاً من الفقر والعوز لأنهم كانوا يعتقدون أن الرزق من الأبوين لعدم إيمانهم بكون الرزق من الله سبحانه وتعالى.
ومن الواضح أن هذا أجنبي عما نحن فيه لأننا لا نعتقد أن الرزق بيد أي من الأبوين بل هو أمر إلهي بيد الله سبحانه وتعالى هو الرازق يرزق من يشاء بغير حساب،كما أن تحديد النسل ليس قتلاً للأولاد حيث أن التحديد يكون قبل انعقاد النطفة كما هو معلوم.
نعم نحن ضد كل من يكون غايته في تحديد النسل هو خصوص الخوف من الفقر والعوز لأن ذلك لا يتوافق مع خط الإيمان بالله سبحانه وتعالى والثقة به.
وعلى هذا تكون النتيجة التي وصلنا لها هي: أن عملية تحديد النسل عملية مشروعة ولا يوجد في ذلك أي تصور لحصول اجتهاد مقابل النص حين فتوى الفقيه بالجواز لما عرفت من عدم تمامية دليل من الأدلة على وجوب تكثير النسل.
الثانية: مشروعية تحديد النسل:
ويدلنا على مشروعية قيام الزوجين بتحديد نسلهما بمنع الحمل أمرين:
1-عدم وجود دليل يدل على حرمة منع الحمل وتحديد النسل فيرجع إلى الأصل العملي وهو قاض بالجواز.
2-التمسك بالنصوص الشرعية الدالة صراحة على جواز العزل عن الزوجة فقد جاء في صحيح محمد بن مسلم عن أحدهما(ع): أنه سئل عن العزل،فقال: أما الأمة فلا بأس،فأما الحرة فإني أكره ذلك إلا أن يشترط عليها حين يتزوجها[6].
ومن الواضح أن عملية العزل في عصر صدور النصوص الشرعية التي تقدمت الإشارة إليها كانت هي الوسيلة الوحيدة المعروفة لتحديد النسل ومنع الحمل.
الجهة الثالثة: وسائل تحديد النسل:
بعدما ثبت شرعاً جواز تحديد النسل باستخدام ما يمنع عن حصول الحمل وانعقاد النطفة نستكشف من ذلك جواز استخدام بعض الوسائل التي تؤدي الغاية المطلوبة،والوسائل المؤدية إلى ذلك على أقسام ثلاثة:
الأول: الوسائل التي يكون استخدامها مخالفاً للشرع قطعاً بعنوانه الأولي كالإجهاض وترك الزواج والإقبال على المحرمات والميل إلى الجنس المماثل.
الثاني: الوسائل التي لا يكون في استخدامها أي حرمة لا بالذات ولا بالعرض.
الثالث: الوسائل التي يجوز استخدامها ذاتاً إلا أنه قد تقع في وقت استخدامها بعض الأمور المحرمة تصاحب استخدامها.
ونحن نقتصر على بيان خصوص القسمين الثاني والثالث.
الوسائل التي ليست محرمة ذاتاً ولا عرضاً:
وهي الوسائل التي لا يحرم استخدامها بنظر الشرع، كما أنه لا يصاحب استخدامها وقوع المستخدم لها في الحرام مثل:
1-استخدام أقراص منع الحمل،شرط أن لا يكون في استخدامها ضرر خاص معتد به على الزوجة.
2-العزل عن الزوجة،بمعنى إفراغ المني خارج القبل حين الجماع.
ولا يفرق في جواز العزل بين الزوجة الدائمة والمنقطعة،نعم يكره ذلك في الزوجة الدائمة إلا إذا حصل رضى منها أو كان ذلك بوجود اشتراط عليها من حين العقد.
وهل للزوجة منع الزوج عن الإفراغ في قبلها؟…
الأظهر هو حرمة ذلك،إلا إذا رضى الزوج أو اشترطت هي عليه حين التزويج.
3-استخدام الكيس الواقي عن وقوع المادة في الرحم.
4-شرب الزوج دواء يقضي على إمكانية الإخصاب في المني.
5-استخدام الجداول الزمانية التي تبين زمان انعقاد النطفة في أوقات خاصة.
الوسائل التي يجوز استخدامها إلا أن ذلك يصاحب ارتكاب محرم:
وهذه الأمور جائزة كما قدمنا من الناحية الشرعية ،لكن استخدامها غالباً يصاحبه وقوع المستخدم لها في المحرم،ومن هذه الأمور:
1-نصب آلة في رحم المرأة،وهو ما يعبر عنه باللولب -بناءاً على أن اللولب لا يقتل النطفة بعد انعقادها وإنما هو يمنع عن الانعقاد-فإن هذا العمل في نفسه جائز ومشروع كما عرفنا ذلك سابقاً.
إلا أن المشكلة التي تواجه مستخدميه عملية تركيبه حيث أن تثبيته غالباً يستدعي نظر الغير إلى العورة،وهذا كما هو معلوم محرم،نعم لو كان المثبت له هو الزوج أمكن الخروج عن هذه المشكلة.
2-عملية التعقيم المؤقت من خلال القيام بسد الأنابيب التناسلية أو ما شابه ذلك كما هو معروف عند أهل الاختصاص.
فإن هذه العملية جائزة حيث لا يوجد عندنا دليل دال على حرمة هذا العمل،لكن المشكلة السابقة التي قدمناها بالنسبة لللولب تجري في المورد أيضاً حيث لا يمكن تحقيق هذه العملية من غير نظر الغير.
نعم لو ثبت أن ذلك ضرورة كان مثل جواز مراجعة المرأة للطبيب الأجنبي عند الضرورة فيحكم بالجواز.
3-ما أفتى به بعض الفقهاء من جواز إجراء عملية التعقيم الدائم بحيث لا يكون في مقدرة الزوجين القيام بعملية الإنجاب مرة أخرى.
ولعل هذا الوجه يعود إلى أن حفظ إمكانية الإستيلاد ليس من الواجبات في الشريعة الإسلامية كما أنه ليس من حقوق الزوجية.
وعلى أي حال يبقى هذا الطريق يواجه نفس المشكلة السابقة التي واجهها ما تقدمه .
——————————————————————————–
[1] الوسائل ب 1 من أبواب الأولاد ح 14.
[2] سورة النحل الآية رقم 72.
[3] سورة الإسراء الآية رقم 31.
[4] سورة سبأ الآية رقم 34-35.
[5] سورة الإسراء الآية رقم 31.
[6] الوسائل ب 76 من أبواب مقدمات النكاح ح 1.