قال تعالى:- (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين)[1].
مدخل:
أعطى الله سبحانه وتعالى عدة نعم للبشرية متمثلة في شخص أبينا آدم(ع)،فخصه أولاً بالخلافة،ثم خصه بالعلم الكثير،ثم حباه بأن بلغه مرتبة عالية في العلم لم تبلغها الملائكة،وصار معلماً للملائكة،ومما أعطاه الله تعالى للملائكة أن جعله مسجوداً للملائكة.
والسجود له معنيان،معنى في اللغة ومعنى في الاصطلاح،أما معناه في اللغة فيعني التذلل والخضوع،وفي الشرع هو عبارة عن وضع الجبهة على الأرض خضوعاً لله سبحانه وتعالى.
ثم إن السجود على نوعين:
الأول:عام في جميع المخلوقات،الإنسان والحيوان والجماد،كما يشير له قوله تعالى:- (ولله يسجد من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً)[2]،ويسمى هذا السجود سجود تسخير.
الثاني:خاص،وهو من خصوصيات الإنسان الذي يستحق به الثواب ويقترب به من مواقع القرب لله سبحانه وتعالى.
وأعلم أنه لا يجوز السجود عندنا نحن المسلمين لغير الله سبحانه وتعالى،قال عز من قائل:- (لا تسجدوا للشمس ولا للقمر واسجدوا لله الذي خلقهن إن كنتم إياه تعبدون)[3]،وقال تعالى:- (وإن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً)[4].
سجود الملائكة لآدم:
بعد وضوح عدم جواز السجود لغير الله تعالى،فما هو إذن معنى سجود الملائكة لآدم(ع)الذي أشارت له الآية المباركة،وامتنع إبليس عن تحقيقه؟…
وفي مقام الجواب عن ذلك نقول:
اختلف المفسرون في معنى سجود الملائكة لآدم(ع)على عدة أقوال:
1-إن سجود الملائكة لآدم (ع)في المقام إنما هو بمعنى الخضوع،وليس المراد منه السجود المعهود بمعنى وضع الجبهة مع بقية الأعضاء على الأرض.
لكن هذا التوجيه لسجودهم لآدم(ع)،غير مقبول لكونه خلاف ظاهر اللفظ،بل هو نوع تأويل للفظ،وهذا لا يصار له إلا مع وجود قرينة دالة عليه.
بل إن القرينة على خلافه إذ أن المستفاد من النصوص أن ابن آدم إذا سجد لربه ضجر إبليس وبكى،لكون ابن آدم قد أطاع الله وقد عصاه هو،فهذا يكشف عن أن السجود الوارد في الآية المباركة،ليس بمعنى الخضوع،وإلا لما استكبر عنه إبليس.
2-إن سجود الملائكة لآدم(ع)كان لله سبحانه وتعالى،وإنما كان آدم قبلة(ع)لهم،وقد أمرهم الله سبحانه وتعالى بالتوجه إلى آدم في سجودهم تكريماً له وتعظيماً لشأنه.
ويجاب عن هذا التوجيه،بأنه تأويل ينافي ظاهر الآيات والروايات،بل هو منافٍ لصريح الآية المباركة،فإن السبب الذي دعى إبليس لعدم السجود قوله بكونه أشرف من آدم،فلو كان السجود لله وآدم قبلة للساجدين،لم يكن هناك معنى لرفض إبليس السجود له.
3-إن السجود الذي صدر من الملائكة،كان سجوداً لآدم(ع)نفسه.
إن قلت:إن هذا يستدعي السجود لغير الله تعالى،وهو ممنوع؟…
قلت:لما كان هذا السجود من الملائكة له(ع)بأمر من الله سبحانه،فهو في الحقيقة خضوع لله وسجود له،لأن السجود هو الغاية القصوى للتذلل والخضوع،ولذلك خصه الله سبحانه بنفسه،ولم يرخص لعباده أن يسجدوا لغيره حتى لو لم يكن السجود بعنوان العبودية من الساجد والربوبية من المسجود له.
لكنه إذا صدر أمر من الله تعالى بالسجود لغيره كان ذلك السجود في الحقيقة عبادة وتقرباً لله تعالى،لكونه امتثالاً لأمره تعالى،وانقياداً لحكمه،حتى لو كان في الظاهر تذللاً للمخلوق.
وبناءاً على هذا يعاقب الممتنع عن أداء هذا السجود،ولا يقبل اعتذاره.
الخضوع والعبادة:
ثم إنه قد يشكل علينا بأن هذا نوع خضوع وعبادة للمخلوق،مع أنه من المعلوم أن الخضوع ينبغي أن يكون للخالق ولا ينبغي أن يكون للمخلوق،لكون ذلك مما حكم به العقل وندب إليه الشرع.
ويمكننا أن نجيب بأن نقول:
إن الخضوع للمخلوق على أقسام:
الأول:أن يكون الخضوع للمخلوق دون أن يضاف ذلك الخضوع لله سبحانه وتعالى بإضافة خاصة،كخضوع الوالد لوالده والتلميذ لأستاذه،والخادم لسيده،وغير ذلك مما هو معروف ومتداول بين الناس.
وهذا القسم من الخضوع لا ريب في جوازه،إلا إذا ورد فيه نهي من الشارع المقدس،كما صدر ذلك في السجود،حيث نهي عن السجود لغير الله تعالى.
بل إن جواز هذا القسم من الخضوع مقتضى الضرورة،قال تعالى:- (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربي ارحمهما كما ربياني صغيراً)[5].
ومن الواضح أنه تعالى لم يأمر بعبادة الوالدين حينما أمر بالتذلل لهما.
الثاني:الخضوع للمخلوق باعتقاد أن له إضافة إلى الله تعالى يستحق من أجلها الخضوع له.
ولا ريب في أن هذه عقيدة باطلة،وأن هذا الخضوع بغير إذن من الله،كما أنه إدخال في الدين ما ليس فيه،لكونه تشريعاً محرماً بالأدلة الأربعة وافتراء على الله تعالى.
الثالث:التذلل والخضوع للمخلوق بأمر من الله تعالى وإرشاده،كما في الخضوع للنبي(ص)ولأوصيائه الطاهرين(ع)،وكما في سجود الملائكة لآدم(ع).
بل من مصاديقه الخضوع لكل مؤمن،أو الخضوع لكل ما له إضافة إلى الله توجب له المنـزلة والحرمة،كالمسجد والقرآن والحجر الأسود وما سواها من الشعائر الإلهية.
وهذا القسم من الخضوع محبوب عند الله سبحانه وتعالى،لكونه في الحقيقة خضوعاً لله،وإظهاراً للعبودية له سبحانه.
إذا أن من اعتقد له الوحدانية الخالصة واعتقد أن الإحياء والإماتة والخلق والرزق والقبض والبسط والمغفرة والعقوبة كلها بيده سبحانه وتعالى.
ثم اعتقد أن النبي وأهل بيته،عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون،وجعلهم طريقاً في توسله إلى الله وجعلهم شفعاء إليه بإذنه،كل ذلك تجليلاً لشأنهم وتعظيماً لمقامهم،لم يخرج بذلك عن حد الإيمان،ولم يعبد غير الله سبحانه.
هذا وتوجد شواهد تؤكد هذا المعنى،فمنها ما رآه المسلمون الأوائل من تقبيل رسول الله(ص)للحجر واستلامه له بيده الشريفة وإجلاله وتعظيمه لأمره،فهل كان(ص)يعبده،أو يخضع له شركاً منه بالله تعالى؟…حاشا لله أن يكون ذلك منه(ص).
وقد كان يزور قبور المؤمنين والشهداء،وعلى هذا جرت سيرة الصحابة والتابعين خلفاً عن سلف،حيث كانوا يزورون قبر النبي(ص)ويتبركون به ويقبلونه،ويستشفعون برسول الله(ص)بعد موته كما كانوا يستشفعون به في حياته.
وهكذا كانوا يفعلون مع قبور أئمة الدين وأولياء الله الصالحين،ولم ينكر ذلك أحد من الصحابة،ولا أحد من التابعين أو الأعلام.
ومما ذكرنا اتضح أن هذا النوع من الخضوع والتذلل أمر مندوب له من قبل الشارع المقدس،فلا ريب في حسنه ومطلوبيته.
مشروعية الزيارة:
كما أنه ظهر مما تقدم أيضاً أن ما تقوم به الشيعة الإمامية أعلى الله كلمتهم وأنار برهانهم من زيارة منهم لقبور أئمتهم، النبي وأهل بيته الطاهرين(ع)،صحيح، لا يتضمن شيئاً محرماً،كإدخال ما ليس من الدين في الدين،ليقال أنه بدعة.
نعم أول من أنكر زيارة القبور وحرمها هو أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام المعروف بابن تيمية،فحرم زيارة القبور،وتقبيلها،ومسها،والإستشفاع بمن دفن فيها.
بل شدد النكير على من زار قبر النبي(ص)أو تبرك بتقبيل أو لمسه،وجعل ذلك من الشرك الأصغر تارة،وتارة أخرى جعله من الشرك الأكبر.
وقد تبرأ منه علماء عصره لما رأوا منه أنه خالف في رأيه هذا ما قد ثبت من الدين،وضرورة المسلمين،لما رووه عن رسول الله(ص):من زارني بعد مماتي كان كمن زارني في حياتي.
بل حكموا بضلاله،وأوجبوا عليه التوبة،فأمروا بحبسه إما مطلقاً،أو على تقدير أن لا يتوب.
هذا وقد يكون السبب الذي دعاه إلى تصور أن مثل هذه الأمور شرك بالله تعالى وعبادة لغيره،عدم توجهه إلى أن الذين يأتون بالأعمال يعتقدون توحيد الله تعالى،ويعترفون له بالخالقية والرازقية دون غيره،كما أن له الخلق والأمر.
وإنما يقصدون بأفعالهم هذه تعظيم شعائر الله سبحانه لكونها تعظيماً في الحقيقة له تعالى وخضوعاً وتقرباً إليه عز وجل،وخلوصاً لوجهه الكريم.
فليس في ذلك أدنى شائبة للشرك،لأن الشرك عبادة غير الله سبحانه،والعبادة تتحقق بالخضوع لشيء على أنه رب يعبد.
وليس تعظيم النبي وأهل بيته(ص)بما هو نبي وهم أوصياء وبما هم عباد مكرمون،أدنى عبادة لهم وجعلهم أرباب من دون الله تعالى.
على أنه لا فرق في التعظيم بين الميت والحي،فلو كان تعظيم الميت نوع شرك بالله تعالى لكان تعظيم الحي كذلك.
كما أن كون زيارة القبور تستدعي الشرك يستلزم منه نسبة الشرك لرسول الله(ص)لكونه كان يزور القبور،ويسلم على أهلها ،ويقبل الحجر الأسود كما ذكرنا،وحاشاه عن ذلك.
والحاصل:يدور الأمر حينئذٍ بين أمرين:
1-أن يكون هذا النوع من الشرك جائزاً ومقبولاً،ولا محذور فيه.
2-أن يقال بأن التقبيل والتعظيم لا بعنوان العبودية خارجاً عن الشرك وحدوده.
ولا ريب في أن الأول لا مجال له،لكون بطلانه واضحاً،فيتعين حينئذٍ الثاني،فتدخل جميع هذه الأمور في عبادة الله تعالى وتعظيمه.
أدلة مشروعية الزيارة:
ثم إنه لابد من إتمام الفائدة أن نتعرض لبعض الأدلة والشواهد على جواز زيارة القبور:
قال رسول الله(ص):زور القبور فإنها تذكركم بالآخرة[6].
ولقد كان رسول الله(ص)يذهب في أخريات حياته إلى البقيع،ويستغفر لأصحاب القبور،ويقول:أمرني ربي أن آتي البقيع وأستغفر لهم،ثم قال:إذا زرتموها فقولوا:
السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين يرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين،وإنا إن شاء الله بكم لاحقون[7].
وقد روى ابن ماجة بسنده عنه(ص):كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهد في الدنيا وتذكر في الآخرة[8].
وقد روى مسلم أيضاً أن النبي (ص)قد زار قبر أمه[9]،وروى مسلم أيضاً عن أبي هريرة أنه(ص)زار قبر أمه فبكى من حوله[10].
وقد علم الرسول(ص)عائشة كيف تقول،عندما سألته:كيف أقول لهم يا رسول الله؟…قال:قولي:السلام على أهل الديار من المؤمنين والمسلمين[11].
وفي وفا الوفا عن ابن أبي شيبة عن أبي جعفر:أن فاطمة بنت رسول الله(ص)كانت تزور قبر حمزة ترّمه،وتصلحه،وقد تعلمنه بحجر[12].
وروي عنه أيضاً أن فاطمة كانت تزور قبور الشهداء بين اليومين والثلاثة فتصلي هناك،وتدعو،وتبكي حتى ماتت[13].
وروى الحاكم عن علي أن فاطمة كانت تزور قبر عمها حمزة كل جمعة فتصلي وتبكي عنده[14].
وقد روى عبد الله بن عمر مرفوعاً:من زار قبري وجبت له شفاعتي[15].
وعنه أيضاً مرفوعاً:من جاءني زائراً لا تعمله إلا زيارتي كان حقاً عليّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة[16].
وعن ابن عمر مرفوعاً:من حج فزار قبري بعد وفاتي كان كمن زارني في حياتي[17].
والنصوص الواردة في المجال مما جاء في التاريخ تـثبت جواز زيارة القبور سواء مما يظهر أنه(ص)كان يفعل ذلك،أو كان يأمر بذلك،أو أن ابنته الصديقة فاطمة(ع)عملت ذلك،أو كان يعمله أحد الصحابة،أو يعمله أحد التابعين.
وعليه يكون ما تعمله الشيعة من زيارة منها لمراقد المعصومين الأطهار محمد وأهل بيته(ع)من الأمور الصحيحة التي لم يخالفوا فيها الشريعة السماوية،ولم يعملوا شيئاً يغاير سنة النبي(ص).
——————————————————————————–
[1] سورة البقرة الآية رقم 34.
[2] سورة الرعد الآية رقم 15.
[3] سورة فصلت الآية رقم 37.
[4] سورة الجن الآية رقم 18.
[5] سورة الإسراء الآية رقم 24.
[6] سنن ابن ماجة ج 1 باب ما جاء في زيارة القبور ص 113.
[7] صحيح مسلم ج 2 باب ما يقال عند دخول القبور ص 64.
[8] صحيح مسلم ج 4 ص 225.
[9] المصدر السابق.
[10] المصدر السابق ص 286.
[11] المصدر السابق.
[12] وفاء الوفا ج 2 ص 112.
[13] المصدر السابق.
[14] المستدرك للحاكم.
[15] السنن الكبرى ج 5 ص 245.
[16] وفاء الوفا ج 4 ص 1340.
[17] سنن الدارقطني ج 2 ص 278.