الدليل الثالث: التمسك بالنصوص:
فإن هناك جملة من النصوص أدعي دلالتها على ترتيب آثار الذكاة على ما يوجد في أسواق المسلمين، فيجوز أكله، ويحكم بطهارته، ويجوز بيعه وشرائه، وجعله عوضاً في كل ما يعتبر فيه الطهارة في العوضين، والنصوص هي:
منها: صحيحة الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم، أنهم سألوا أبا جعفر(ع) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصابون، فقال: كل إذا كان في سوق المسلمين، ولا تسأل عنه[1].
ودلالتها على المدعى واضحة، لأن قوله(ع): كل إذا كان في سوق المسلمين ولا تسأل عنه، يدل على اعتباره ذكياً، يحل أكله، دونما حاجة إلى السؤال عن كونه مستجمعاً لشروط الذكاة.
نعم هل مفاد الصحيح، كون السوق أمارة على التذكية، أم أنه أمارة على الأمارة، يعني أمارة على يد المسلم، هذا ما سيتم التعرض له فيما يأتي إن شاء الله تعالى، فانتظر.
ومنها: موثقة إسحاق بن عمار عن العبد الصالح(ع) أنه قال: لا بأس بالصلاة في الفراء اليماني، وفيما صنع في أرض الإسلام، قلت: فإن كان فيها غير أهل الإسلام؟ قال(ع): إذا كان الغالب عليها المسلمين، فلا بأس[2].
ودلالتها على المدعى من خلال الفقرة الأولى في كلام الإمام(ع)، أعني: وفيما صنع في أرض الإسلام، إذ يستفاد منها معاملة ما صنع في بلاد المسلمين معاملة الطاهر، والذكي لكي تصح الصلاة فيه، ومن الواضح أن أرض الإسلام، إشارة إلى سوقهم، ولا أقل من كونه عنواناً شاملاً له.
ثم إنه يأتي ما سبقت الإشارة له في الصحيح السابق من كون السوق أمارة على التذكية، أم أنه أمارة على الأمارة.
ومنها: صحيحة الحلبي قال: سألت أبا عبد الله(ع) عن الخفاف التي تباع في السوق، فقال(ع): اشتر وصل فيها حتى تعلم أنها ميتة بعينه[3].
وتقريب دلالتها من خلال ملاحظة أنه يعتبر في صحة الصلاة أن يكون ما يصلى فيه إما مأخوذاً من المذكى، أو لا يكون مأخوذاً من الميتة، والفرض أن مشكوك الذكاة لا ينطبق عليه عنوان الذكي، كما لا ينطبق عليه عنوان الميتة، وبالتالي يفترض المنع عن الصلاة فيه لو كان المعتبر إحراز الذكاة، فجاءت الصحيحة لتحكم بتنـزيله منـزلة الذكي، وبالتالي تتم الصلاة فيه.
نعم لو كان الشرط المعتبر في صحة الصلاة أن لا يكون اللباس مأخوذاً من الميتة، ولا ريب في أن مشكوك الذكاة ليس ميتة جزماً، إلا بناءاً على جريان أصالة عدم التذكية، كما عليه شيخنا التبريزي(قده) وشيخنا الأستاذ(دامت أيام بركاته)، أما بناءاً على عدم جريان الأصل المذكور لكونه من الأصول المثبتة كما هو الصحيح وفقاً لجملة من الأعلام، كبعض الأعاظم وبعض الأعيان(قده)، فلا يمنع ذلك من الصلاة فيه، مما يجعل النص المذكور أجنبياً عن المدعى.
وبالجملة، الاستدلال بالصحيح المذكور مختلف حسب اختلاف المختار في ما يعتبر دخالته في صحة الصلاة، كما بينا، فيتم على بعضها دون بعض.
ومنها: مضمرة البزنطي سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبّة فراء لا يدري أذكية هي أم غير ذكية، أيصلي فيها؟ فقال: نعم ليس عليكم المسألة، إن أبا جعفر(ع) كان يقول: إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم، إن الدين أوسع من ذلك[4].
ولا يخفى أن السؤال عن إيقاع الصلاة في مشكوك الذكاة مما يشير إلى مانعية عدم الذكاة أو الميتة من صحة الصلاة، فهل أن مشكوك الذكاة ملحق بأحد هذين الموردين، وقد كان جوابه(ع) ببيان أن مشكوك الذكاة تصح الصلاة فيه.
لكن يأتي في هذا النص ما تقدم في سابقه من أن تمامية الدلالة مبنية على الالتـزام بأن المعتبر في الصلاة هو كون اللباس مأخوذاً من المذكى، فالشرط هو إحراز الذكاة، لكي يثبت المدعى من أنه(ع) قد نزل مشكوك الذكاة منـزلة الذكي.
أما لو قلنا بأن الشرط المعتبر في الصحة، أن لا يكون لباس المصلي مأخوذاً من الميتة، فإنه لن يصلح الحديث المذكور للدلالة على المدعى، لأنه يتوقف على الالتـزام بأصالة عدم الذكاة، وقد عرفت أنها من الأصول المثبتة التي لا مجال للبناء عليها، فعندها لن يتم الاستدلال بالحديث المذكور.
هذا وقد أشار النص المذكور أيضاً إلى أنه لا ينبغي السؤال عن ذلك، وذلك من خلال تنظيره بالخوارج، وبيان ما تترتب على ذلك التضيـيق من أثر، فلاحظ.
بقي أخيراً أنه ربما استشكل في التمسك بالحديث من حيث السند، لكونه من المضمرات، وقد يقال بأن المضمرات كلها ساقطة عن الحجية.
لكن قد ذكرنا غير مرة أن البناء على سقوط المضمرات بقول مطلق عن الحجية مما لا يمكن الالتـزام به، كما أن البناء على حجية المضمرات بقول مطلق كذلك، لا يمكن الالتـزام به، بل الصحيح هو البناء على التفصيل، كما أوضحنا ذلك في محله، فلاحظ.
ومنها: صحيحة البزنطي عن الرضا(ع) قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف لا يدري أذكي هو أم لا؟ ما تقول في الصلاة فيه، وهو لا يدري يصلي فيه؟ قال(ع): نعم أنا اشتري الخف من السوق ويصنع لي وأصلي فيه وليس عليكم المسألة[5].
ودلالتها على المدعى مبنية على أساس الالتـزام بأن الشرط المعتبر في لباس المصلي كون اللباس مأخوذاً من الذكي، فمع الشك في الذكاة لا تصح الصلاة فيه، حتى مع القول بأن أصالة عدم التذكية أصل مثبت، ضرورة أن الشرط المعتبر وهو الذكاة غير محرز.
أما لو قلنا بأن المعتبر في اللباس أن لا يكون مأخوذاً من الميتة، فعندها يتوقف البناء على مانعية الصلاة فيه على جريان أصالة عدم التذكية، ومع البناء على عدم جريانها لكونها أصلاً مثبتاً كما ذكرنا، فلا ريب عندها لن يحرز المانع من إيقاع الصلاة فيه وهو الميتة، فتصح الصلاة فيه من دون حاجة إلى التمسك بقاعدة السوق.
وبالجملة، يأتي في النص المذكور ما سبق وذكرناه في النصوص السابقة، من أن تمامية دلالته على المدعى مبنية على قول دون آخر، فلاحظ.
ومنها: خبر الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن(ع) أعترض السوق فأشتري خفاً لا أدري أذكي هو أم لا؟ قال(ع): صل فيه، قلت: فالنعل، قال(ع): مثل ذلك، قلت: إني أضيق من هذا، قال: أترغب عما كان أبو الحسن(ع) يفعله[6].
ومنها: خبر علي بن أبي حمزة أن رجلاً سأل أبا عبد الله(ع) وأنا عنده عن الرجل يتقلد السيف، ويصلي فيه؟ قال: نعم، فقال الرجل: إن فيه الكيمخت، فقال: وما الكيمخت؟ فقال: جلود دواب، منه ما يكون ذكياً ومنه ما يكون ميتة، فقال: ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه[7].
ويعتمد الاستدلال بها على المدعى على أن المنهي عن إيقاع الصلاة فيه خصوص ما كان ميتة، وهو المستـثنى فيبقى المستـثنى منه واسعاً يشمل ما كان ذكياً لا ينطبق عليه عنوان الميتة، وما كان مشكوك الذكاة، فيثبت المطلوب.
لكن هذا مبني على عدم تمامية أصالة عدم التذكية، أما لو قلنا بها، فلا ريب في أن مشكوك الذكاة إذا جرت فيه أصالة عدم التذكية كان ميتة، وعندها لا يصلح التمسك بالنص المذكور في إثبات المدعى، فلاحظ.
مضافاً إلى أنه يعتبر أن يكون قوله: ما علمت أنه ميتة فلا تصل فيه، قضية مسورة، أما لو قيل بأنها قضية مهملة، بمعنى أن الحديث ليس في مقام البيان من جميع الجهات، فعندها لا يصلح التمسك بها على المدعى.
على أن الاستدلال بها أيضاً متوقف على ثبوت مفهوم الوصف المقرر في الأصول عدم ثبوت المفهوم له، فلا يصلح الاستدلال بها المدعى بحسب الظاهر.
هذا كله بعد الفراغ عن أن الكلام منصب على الجلود المشتراة من سوق المسلمين لكي تصلح دليلاً للمدعى، بحيث يدعى أن هناك عهداً أو تبادراً إلى الكلام مبني على السوق التي يتم شراء الجلود منه، أما لو قلنا بما هو الظاهر من أنها ناظرة لمحط السؤال وهو هذا الشيء، من دون نظر فيها إلى السوق، فإنها تكون أجنبية عن المقام.
هذا وفي السند مناقشة، ذلك لأن علي بن أبي حمزة مردد بين اثنين، بين البطائني والثمالي، وثانيهما جليل لا كلام في وثاقته، دون الأول، فإن الأصحاب مختلفون في حاله، والمحقق في محله البناء على عدم مقبولية رواياته، ولا أقل من جهة كونه مهملاً لتساقط ما دل على التوثيق والتضعيف، فلاحظ.
الدليل الرابع: إن لازم المنع عن حجية سوق المسلين، هو اختلال النظام، لأنه سوف يستدعي أن يعمد كل فرد من أفراد المسلمين إلى القيام بعملية الذبح لنفسه مباشرة، لأنه لا يسوغ له الشراء من السوق، بسبب أنه يشك في تحقق الذكاة، وما دام شاكاً في ذلك، فلن يسوغ له الأكل من الموجود فيه، لأن الأكل مشروط بإحراز الذكاة، ومع الشك فذلك يعني انتفاء الشرط وعدم إحرازه، لأنه يتمسك عندها باستصحاب عدم حصول التذكية، وهو قاضٍ بترتيب آثار الميتة على المشكوك، فلا يسوغ له الأكل حينئذٍ، فيلزم أن يعمد للذبح بنفسه، ومن الواضح أن هذا يستوجب تعطيل المعاش، فيقع اختلال النظام حينئذٍ[8].
ولا يخفى ما فيه، ضرورة أنه لن يلزم اختلال النظام، لأنه بناءاً على جريان أمارية يد المسلم، وأنها أمارة على التذكية، فلا معنى لأن يعمد كل واحد من المسلمين إلى القيام بعملية مباشرة الذبح بنفسه، حتى يقال بأنه يستوجب تعطيل أمور المعاش، فيحصل اختلال النظام.
[1] وسائل الشيعة ب 29 من أبواب الصيد والذباحة ح 1.
[2] وسائل الشيعة ب 50 من أبواب النجاسات ح 5.
[3] المصدر السابق ح 2.
[4] وسائل الشيعة ب 50 من أبواب النجاسات ح 3.
[5] وسائل الشيعة ب 50 من أبواب النجاسات ح 6.
[6] وسائل الشيعة ب 50 من أبواب النجاسات ح 9.
[7] وسائل الشيعة ب 50 من أبواب النجاسات ح 4.
[8] القواعد الفقهية للفاضل الإيرواني ج 2 ص 80. مباني الفقه الفعال ج 1 ص 186.