الطائفة الثانية: ما دل على أن الغروب يتحقق بزوال الحمرة المشرقية:
منها: مرسلة علي بن أحمد بن أشيم عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله(ع)قال: سمعته يقول: وقت المغرب إذا ذهبت الحمرة من المشرق، وتدري كيف ذلك؟ قلت: لا، قال: لأن المشرق مطلّ على المغرب هكذا، ورفع يمينه فوق يساره، فإذا غابت هاهنا ذهبت الحمرة من هاهنا [1]. والمستفاد من الرواية أمران:
الأول: أن تحقق الغروب الموجب لحصول وقت صلاة المغرب والإفطار، لا يكون بمجرد سقوط القرص، وإنما يتوقف ذلك على ذهاب الحمرة المشرقية، فما لم تذهب، لا يحكم بتحقق الغروب، ويظهر ذلك جلياً من خلال قوله(ع): وتدري كيف ذلك، فإنه(ع) في مقام بيان وتعليل إناطة وقت المغرب بزوال الحمرة.
الثاني: أشارت إلى أن غروب الشمس يتحقق بسقوطها عن تمام الأفق، وليس باستتارها، وغياب قرصها عن الأنظار.
وقد منع دلالتها على المدعى بعض الأعاظم(ره) على أساس أن المقصود من المشرق الواردة في الخبر هي خصوص مطلع الشمس، لا ناحيته وجهته، فيكون غياب الحمرة عن هذه النقطة ملازماً لسقوط القرص عن الأفق الظاهري[2].
وقد عرفت الجواب عن ذلك عند الحديث عن معتبر بريد، مضافاً إلى أن لفظة المشرق ظاهرة في المشرق العرفي الذي هو الطرف والسمت، وعليه، فيكون المقصود من الرواية خلو ناحية المشرق من الحمرة وذهابها عنها، والتعليل المذكور في ذيل الخبر يعود إلى كروية الأرض وإشراف المشرق على المغرب، فيكون الأنسب به هو ذهاب الحمرة بالمعنى المشهور، وإلا فالغروب بالمعنى الذي اختاره(ره) لا يتلائم مع القول بكروية الأرض، لأنه يلائم غيرها، فلاحظ.
والإنصاف، تمامية دلالتها على مدعى المشهور، نعم المانع من الاستناد إليها، مشكلتها السندية المتمثلة في إرسالها، وفي وجود علي بن أشيم في سندها، وهو ممن لم تثبت وثاقته، فلاحظ.
ومنها: مرسل ابن أبي عمير عمن ذكره، عن أبي عبد الله(ع) قال: وقت سقوط القرص ووجوب الإفطار(من الصيام) أن تقوم بحذاء القبلة وتتفقد الحمرة التي ترتفع من المشرق، فإذا جازت قمة الرأس إلى ناحية المغرب فقد وجب الإفطار وسقط القرص[3].
وفي سندها مشكلتان:
الأولى: وقوع سهل بن زياد في طريقها، وقد يعالج ذلك من خلال ذكر بعض الطرق المذكورة في ترجمته، فلاحظ.
الثانية: تحديد المرسل، فإنه لو كان ابن أبي عمير أمكن التغلب على ذلك وفقاً للبناء على كبرى لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة كما حقق في محله، أما لو كان المرسل هو محمد بن عيسى ولم يذكر الراوي الأخير نسياناً أو لداع آخر[4]. فلا ريب في مانعية ذلك عن الاستناد للخبر كما لا يخفى.
والإنصاف، إحراز كون المرسل هو محمد بن عيسى غير واضحة، بل إن ظاهر العبارة كون المرسل هو ابن أبي عمير، خصوصاً وأنه الأقرب للضمير، كما لا يخفى.
وبالجملة، لا مجال للاستناد للخبر المذكور لوجود سهل كما حقق في محله، فتدبر.
وقد ناقش بعض الأعاظم(ره) في دلالتها على مختار المشهور، بأمرين:
الأول: البناء على أن مدلولها غير مطابق لما هو المشاهد بالوجدان، لأن من نظر إلى المشرق عند الغروب رأى أن الحمرة قد ارتفعت من ناحيته، ثم زالت وحدثت حمرة أخرى في ناحية المشرق، فالحمرة المشرقية تنعدم عند الغروب وتحدث حمرة أخرى، مع أن الرواية مصرحة بأن تلك الحمرة باقية سارية من المشرق إلى المغرب[5].
وفيه، أولاً: إن القول بأن الحمرة المغربية حمرة أخرى حادثة بعد انعدام الحمرة المشرقية، ممنوع، لأن الحمرة مطلقاً أثر تابع للشمس تذهب تدريجاً وتنتفي عقيب سقوطها.
ثانياً: إن أقصى ما يستفاد من الرواية هو تجاوز الحمرة المشرقية من قمة الرأس إلى ناحية المغرب، ولا يستفاد منها بوجه أنه بعد التجاوز منها هل تكون هي الباقية الظاهرة في ناحية المغرب، أو أنها تنعدم وتحدث حمرة أخرى.
الثاني: نحتاج إلى تحديد المقصود من قوله(ع): سقط القرص، فإذا كان المراد منه سقوطه عن الأنظار، ودخول الشمس تحت الأفق الحسي، فلن يكون هناك ترتب بين الأمرين أبداً، ذلك أن سقوطه إنما يتحقق قبل ذهاب الحمرة المشرقية بعشر دقائق أو اثنتا عشر دقيقة.
أما لو كان المقصود منه معنى آخر كسقوطه عن الأفق الحقيقي، فهو أمر مبهم لا طريق لنا إلى مشاهدته، ولم يدلنا عليه شيء من الكتاب والسنة[6].
وفيه: إن السقوط عن الأفق الحسي لا يحتاج بياناً، كما أنه لا يحتاج إلى جعل ذهاب الحمرة من نقطة المشرق أمارة عليه، بل المراد هو السقوط بالمعنى الآخر وهو السقوط عن الأفق الحقيقي، وهذا يحتاج بياناً، وقد دلتنا عليه السنة المباركة، التي منها هذه الرواية، مما يجعل دلالتها على مدعى المشهور تامة.
ومنها: رواية أبان بن تغلب قال: قلت لأبي عبد الله(ع): أي ساعة كان رسول الله(ص) يوتر؟ فقال: على مثل مغيب الشمس إلى صلاة المغرب[7].
وقد أورد عليها سنداً ودلالة. أما سنداً فلوجود إسماعيل بن أبي سارة، وهو ممن لم يوثق، وقد يعمد إلى قبول مروياته استناداً لكونه من مشائخ ابن أبي عمير، كما أشار لذلك صاحب الوافي(ره)[8].
وأما الدلالة، فلأنه لو كان الوقت مذكوراً قبل صلاة المغرب، بحيث كانت هكذا: إلى وقت صلاة المغرب، لدلت الرواية على وجود فصل زماني بين غروب الشمس وبين وقت صلاة المغرب، إلا أن الوقت غير مذكور قبلها، فغاية مفادها حينئذٍ أن نفس صلاة المغرب والإتيان بها كان متأخراً عن الاستتار، وأنه(ص) لم يكن يأتي بها عنده، بل يفصل عادة للجماعة والأذان والإقامة[9].
وجوابه، بأنه كما لم يكن الوقت مذكوراً في النص، كذلك لم تتعرض إلى فصل النبي(ص) بين الغروب وبين صلاة المغرب، وإنما المذكور فيها هو الفصل بينه وبينها مطلقاً، وهو لا يتم إلا بعد ثبوته بينهما بالإضافة إلى كل أحد ولو من أراد الصلاة منفرداً، وقد حصّل المقدمات قبل الوقت، كما هو ظاهر.
ومنها: رواية محمد بن علي قال: صحبت الرضا(ع) في السفر فرأيته يصلي المغرب إذا أقبلت الفحمة من المشرق يعني السواد[10].
ومنع بعض الأعاظم(ره) من الاستناد إليها، لأنها ضعيفة السند، فإن محمد بن علي لم يوثق، كما أنها تضمنت حكاية فعل للإمام(ع)، وفعله لا دلالة له على أن الاستتار ليس وقتاً لصلاة المغرب، لأن من المحتمل أنه كان يصلي بعد تحقق وقتها لاستحباب المس بالمغرب قليلاً، بأن الفحمة إنما تقبل بالاستتار، كما أن البياضة عند الفجر إنما تقبل بطلوع القرص عن تحت الأفق، فإن الشمس بمجرد دخولها تحت الأفق يشاهد أن الفحمة أخذت بالارتفاع فتتصاعد متدرجاً، ولا ملازمة بين إقبال الفحمة، وزوال الحمرة المشرقية، وتجاوزها عن قمة الرأس[11].
ومنها: رواية عمار الساباطي عن أبي عبد الله(ع) قال: إنما أمرت أبا الخطاب أن يصلي المغرب حين زالت الحمرة(من مطلع الشمس)، فجعل هو الحمرة التي من قبل المغرب، وكان يصلي حين يغيب الشفق[12].
وأجاب عنها بعض الأعاظم(ره) بضعفها السندي، لاشتمالها على علي بن يعقوب، وضعفها الدلالي، لأنها اشتملت على لفظ: مطلع الشمس، وهو ظاهر في خصوص نقطة خروجها، فتكون الرواية ظاهرة في أن الاعتبار بارتفاع الحمرة عن خصوص نقطة طلوع الشمس، وهذا ملازم للاستتار[13].
ويمنع القبول بما أفيد ما جاء في ذيل الخبر، فإنه يفيد أن المقصود هي الناحية والسمت، ومفادها أنه(ع): أمر أبا الخطاب أن يصلي حين زالت الحمرة المشرقية، فجعل هو الحمرة التي من قبل المغرب.
على أن المناقشة السندية يمكن علاجها بكونها منقولة في مستطرفات السرائر عن كتاب محمد بن علي بن محبوب، ولقائل أن يقول بأنه لا يقصر عن جامع البزنطي، وهو(ره) يبني على اعتباره، فتدبر.
كما يمكن اعتبار الرواية المذكورة لأحد طريقين:
الأول: لما كان الراوي عن علي بن يعقوب هو أحمد بن الحسن بن فضال، وعلي بن يعقوب يرويها عن مروان بن مسلم، وعلي ليس من أصحاب الكتب، لذا لم يذكر في فهارس الأصحاب، وإنما كان يروي كتب الآخرين، وقد روى كتاب مروان بن مسلم في ضمن جماعة آخرين كما ذكر ذلك النجاشي، فيظن قوياً أن ابن فضال قد اعتمده في رواية هذا الكتاب، أي أن ابن فضال أخذ روايات كتاب مروان من كتابه مباشرة، ولم يكن دور علي بن يعقوب إلا دور شيخ الإجازة في رواية الكتاب، وهو دور شرفي بحت، حذراً من انقطاع سلسلة السند، وليس له دور حقيقي في نقل الروايات، فلا تضر عدم وثاقته باعتبار الرواية[14].
الثاني: أن يكتفى في الاستناد لمرويات علي بن يعقوب بمجرد كونه قد رواها عن مروان بن مسلم، من دون ملاحظة الراوي عنه، وتقريب هذا الوجه هو أنه لما كان كتاب مروان بن مسلم من الكتب المشهورة، والذي قد تعدد رواته، فلم ينحصر ذلك في خصوص علي بن يعقوب الهاشمي، بل قد رواه غيره أيضاً، فيكون احتمال وقوع خلل فيما رواه عنه ضعيفاً، لأن شهرة الكتاب، وتعدد رواته تقلل من احتمال وقوع الخلل فيه، تحريفاً، أو تزويراً، أو اشتباهاً، أم غير ذلك.
وبالجملة، إن الشواهد تساعد على الوثوق والاطمئنان بصدور مثل هكذا نص، وإن لم يبنَ على وثاقة علي بن يعقوب الهاشمي، كما عرفت.
ومنها: موثقة يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله(ع)، قال: قال لي: مسوا بالمغرب قليلاً فإن الشمس تغيب من عندكم قبل أن تغيب من عندنا[15].
وتعتمد دلالتها على المدعى على الالتـزام بتوافق البلدين في الأفق، لضرورة الفقه وقيامها على أن المدار في طلوع الشمس وغروبها إنما هو على الطلوع والغروب عند كل شخص وبلده، والبلدان الموافقة له في الأفق، وإلا فمقتضى كروية الأرض تحقق الغروب والطلوع في جميع الآنات في الأمكنة. وعليه يكون تقريب دلالتها على المدعى من خلال أن ظاهر التعليل غيبوبة الشمس واقعاً في بلد قبل غيبوبتها كذلك في بلد آخر موافق له في الأفق، فلابد من المس بالمغرب قليلاً لتحقق الغيبوبة في جميع البلاد الموافقة له في الأفق، وهذا لا ينطبق إلا على القول بذهاب الحمرة المشرقية.
ووفقاً لما ذكر، لا يبقى وجه لحمل التعليل على غروب الشمس عن النظر في بلد لمكان جبل ونحوه، كما أنه لا وجه لحمل الأمر بالمس على الاستحباب بدعوى أن المس شيئاً ما يتحقق بالانتظار إلى رؤية الكواكب المتحققة قبل تجاوز الحمرة عن قمة الرأس، لأن التعليل بذلك لا يتناسب مع الاستحباب، فلاحظ.
ومنها: رواية بريد بن معاوية عن أبي جعفر(ع) قال: إذا غابت الحمرة من هذا الجانب يعني من المشرق فقد غابت الشمس من شرق الأرض وغربها[16].
وقد نقله في الوسائل في مواضع ثلاثة من باب واحد[17]، مما يوجب ظهور تعددها، مع أن التأمل يفيد أنها جميعاً تعود لرواية واحدة، رواها بريد، ورواها عنه القاسم بن عروة. نعم مصادر النص المذكور متعددة، فإنه ينقل مرة من كتاب ابن أبي عمير، وأخرى من كتاب ابن فضال، وهكذا، ومن المعلوم أن هذا لا يوجب تعدداً في النص المنقول، وإنما يدل على تعدد مصادره، كما لا يخفى.
هذا وقد يتصور التعدد فيها من خلال الاختلاف الواقع في متنها في الجملة، أو من خلال المروي عنه، إذ عين المروي عنه وهو أبو جعفر(ع) مرة، وأخرى أضمر، بأن عبر بأحدهما، لكن ما ذكر من الاختلاف لا يوجب الحكم بالتعدد، فلاحظ.
والاستناد إليها، لدلالتها على توقف دخول وقت صلاة المغرب على غياب الحمرة المشرقية، لكونها العلامة على تحقق غياب قرص الشمس من شرق الأرض وغربها.
لا يقال: إن النص المذكور لم يتضمن ذكراً للصلاة أصلاً، فلا يمكن الركون إليه في مقام الاستدلال على دخول وقت صلاة المغرب حينئذٍ؟
فإنه يقال: إنا نسلم بعدم اشتمال النص المذكور على ذكر الصلاة، إلا أن الظاهر أن النص بصدد بيان ما به يتحقق الغروب الذي تترتب عليه أحكام عديدة في الشرع كدخول وقت صلاة المغرب، وجواز الإفطار وغيرهما[18].
وأورد عليها بعض الأعاظم(ره)، بعدم دلالتها على المدعى أيضاً، لكون المقصود بالمشرق المذكور في الخبر هي نقطة مطلع الشمس، وليس المقصود منه ناحية المشرق في مقابل المغرب الذي هي النقطة التي تدخل فيها الشمس تحت الأفق، ويؤيد ما ذكرنا التعبير عن المشرق بمطلع الشمس في رواية عمار الساباطي قال: إنما أمرت أبا الخطاب أن يصلي المغرب حين زالت الحمرة(من مطلع الشمس)، فجعل هو الحمرة التي من قبل المغرب، وكان يصلي حين يغيب الشفق [19].
ولما كان المشرق مطلاً على المغرب، بمقتضى كروية الأرض، وقد وقع التصريح بذلك في بعض النصوص كما في مرسلة علي بن أحمد بن أشيم[20] المتقدمة، فيدل ارتفاع الحمرة عن نقطة المشرق على دخول الشمس تحت الأفق، فلا يكون للخبر دلالة على أن ذهاب الحمرة عن قمة الرأس، أو عن تمام ناحية المشرق كاشف عن الغروب، وإنما تدل على ارتفاع الحمرة من خصوص النقطة التي خرجت الشمس منها عند الطلوع فيكون دليلاً على غيبوبتها تحت الأفق.
والوجه في جعل ذلك أمارة كاشفة، مع أن المدار في الأحكام المترتبة على الغروب هو دخول القرص تحت الأفق، أن مشاهدته غير متيسرة للمكلفين، لعدم خلو الأرض من الحواجب من الجبال والأطلال ونحوهما[21].
وقد أجيب عما أفاده(ره) منعاً من دلالة النص على مدعى المشهور، بأمور:
الأول: بأن دعوى كون المقصود من المشرق في النص هي مطلع الشمس، عهدتها على مدعيها، إذ أن الظاهر من هذا التعبير عرفاً هو جانب المشرق وناحيته، ويشهد لهذا وقوعه في النص محل البحث تفسيراً للجانب، كما فسر بالناحية أيضاً في مرسل ابن أبي عمير[22] الآتي.
ومجرد ورود التعبير عنه بمطلع الشمس كما في رواية الساباطي، لا يؤيد كون المقصود به النقطة التي تطلع منها الشمس، لأن المراد به أيضاً جانب المشرق في مقابل المغرب، كما يتضح لكل من راجع الرواية التي تضمنت هذا التعبير.
الثاني: لا يخفى أن كلمة الغيبوبة في مقابل الظهور، وهذا يعني أنه لا يتلائم التعبير بها عن انفصال الحمرة عن نقطة المشرق، فلا يصلح التعبير عن ذلك بلفظة الغيبوبة، بل المناسب أن يكون التعبير عن ذلك بالانفصال، والانقطاع، والارتفاع وما شابه ذلك. نعم المناسب أن يكون التعبير بمثل هكذا لفظ عن انتفاء الحمرة رأساً، بحيث لا تكون مرئية للناظر في المشرق.
الثالث: إن حمل النص على المعنى المذكور، يستوجب كذبها، لأن انفصال الحمرة عن نقطة المشرق لا يوجب غروب الشمس عن شرق الأرض وغربها، فإن المراد من شرق الأرض وغربها وإن كان هو مجموع الأراضي المتساوية مع أرض المصلي من حيث الأفق، إلا أنه ليس المراد منهما مجموع الأرض ونقاطها ونواحيها، إذ لا ريب في وجود الاختلاف فيما بينهما من جهة الأفق، وكذا من جهة الليلة والنهارية.
وعليه، لابد وأن يكون المقصود هو مجموع الأراضي المتساوية في الأفق، إلا أن ارتفاع الحمرة عن نقطة المشرق في أرض المصلي لا دلالة له على غروب الشمس في جميع تلك الأراضي، لأن ارتفاع الحمرة عنها ملازم لغيبوبة القرص في خصوص أرض المصلي، ومن البين عدم تحقق الغيبوبة في سائر الأراضي المتساوية بعدُ، إذا اختلفتا في دقائق متعددة.
وبالجملة، إنما يصلح ما أفاده(ره) من الحمل المذكور إذا كان المذكور في النص هو بيان التلازم بين ارتفاع الحمرة عن نقطة المشرق، وبين غروب الشمس بنحو الإطلاق، الظاهر في أرض المصلي. أما لو فرض أن أحد الطرفين غروب الشمس من شرق الأرض، وغربها، فلن يبقى لما أفاده(ره ) موقع أصلاً.
الرابع: إذا كان المدار في الغروب على سقوط القرص في أرض المصلي، فلن يكون لجعل الأمارة حاجة، فإن تشخيص ارتفاع الحمرة عن نقطة المشرق ليس بأهون وأسهل من تشخيص سقوط القرص واستتاره، وكما يمكن ابتلاؤه بحاجب من جبل وطل ونحوهما، يمكن ابتلاؤه به أيضاً، خصوصاً مع أن نقطة المشرق مجهولة عند الغروب نوعاً.
ومجرد كون المشرق مطلاً على المغرب، لا يثبت الملازمة المذكورة، ولا دلالة له على أسهلية تشخيص ارتفاع الحمرة عن سقوط القرص.
والمتحصل مما تقدم، أن تفسير النص بالصورة المذكورة، لا سبيل إليه، بل دلالته على مدعى المشهور، من تحقق الغروب بذهاب الحمرة المشرقية، جلية، فلاحظ.
وما ذكر، وإن كان وارداً عليه(ره)، إلا أن ذلك لا يوجب تمامية دلالة الخبر المذكور على المدعى، لأنه لا دلالة له على حصر الطريق في خصوص ذلك دون ما سواه، ويشهد لذلك الوجدان فإنه يحكم بتحقق الاستتار قبل حصول ذهاب الحمرة المشرقية، نعم لا يختلف أحد في أنه متى غابت الحمرة المشرقية فلا ريب في تحقق استتار القرص.
وبعبارة ثانية يمكن جعل ذهاب الحمرة المشرقية أمارة على تحقق الاستتار وغيبوبة القرص، وكاشف عنه، لا أنه محقق لحصول الغروب، فلاحظ.
وبالجملة، يمكن القول بأن الخبر ليس بصدد بيان محقق الغروب، وإنما هو بصدد بيان ما يكشف عن تحقق الغروب، فتدبر.
ومنها: صحيحة بكر بن محمد عن أبي عبد الله(ع)، أنه سأله سائل عن وقت المغرب؟ فقال: إن الله يقول في كتابه لإبراهيم:- (فلما جنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي) فهذا أول الوقت، وآخر ذلك غيبوبة الشفق، وأول وقت العشاء الآخر ذهاب الحمرة، وآخر وقتها إلى غسق الليل يعني نصف الليل[23].
وتقريب دلالتها على المدعى يتضح من خلال جعلها أول المغرب عندما يجن الليل، وهو ما يتحقق به زوال الحمرة المشرقية، وقد تضمنت كلمات بعض اللغويـين تحديد المقصود من جنون الليل بأنه شدة ظلمته وادلهامه، وقيل اختلاط ظلامه، وهذا يفيد أن المقصود من جنونه ظلمته وستره، ولا ريب في عدم تحقق ذلك بمجرد سقوط القرص.
وبالجملة، لقد تضمنت الصحيحة توقف دخول الغروب على جنون الليل، وهو لا يحصل بمجرد سقوط القرص، بل بذهاب الحمرة المشرقية، فلاحظ.
وأجيب عن دلالتها، بأن الأنجم قد ترى قبل ذهاب الحمرة المشرقية، وتجاوزها عن قمة الرأس بزمان، ولا تتوقف رؤية الكوكب على تجاوزها، بل هي دالة على تحقق المغرب بسقوط القرص[24].
وما ذكر من جواب يمنع عنه أمران، الوجدان، فإنه قاضٍ بخلاف ما ذكر، لأنه يقضي بعدم إمكانية رؤية الكوكب قبل تحقق زوال الحمرة المشرقية. كما أن معتبر شهاب بن عبد ربه، قال: قال لي أبو عبد الله(ع): يا شهاب، إني أحب إذا صليت المغرب أن أرى في السماء كوكباً[25]، لظهوره في تأخر رؤية الكوكب في السماء عن سقوط القرص واستتاره، فلاحظ.
وقد يمنع الاستناد إلى الصحيحة بسبب اضطراب متنها، لأمرين:
الأول: اشتمالها على ما لا يناسب أنه كلام الإمام المعصوم(ع)، إذ جاء فيها: إن الله يقول في كتابه لإبراهيم، وظاهره حكاية الآية الكريمة خطاب الله تعالى لإبراهيم، مع أنها تحكي حال إبراهيم، ولا تحكي خطاباً له أصلاً.
الثاني: لقد أناطت الوقت بجنون الليل، وهذا لا يتناسب مع كون مبدأ وقت صلاة المغرب زوال الحمرة المشرقية، لأنه بمجرد زوالها لا يشتد الظلام، بل لا تتحقق الظلمة الساترة، والحق مناسبة هذا اللسان لمذهب الخطابية، فلابد من التوقف فيها، ورد علمها إلى أهلها.
ويلاحظ عليه، أما بالنسبة للمانع الأول، فإن الاضطراب المتصور في النص، مرجعه إلى نقل الخبر بالمعنى، وهذا لا يوجب اختلالاً في الدلالة، على أن هذا المقطع ليس له ربط بمحل البحث ومدى دلالة الصحيح على المدعى، كما هو واضح.
وأما الثاني، فيتضح جوابه من خلال ما أشير إليه من كلمات أهل اللغة في تقريب دلالته، فلا نعيد.
ومنها: موثقة عبد الله بن وضاح، قال: كتبت إلى العبد الصالح(ع) يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعاً، وتستتر عنا الشمس، وترتفع فوق الليل حمرة، ويؤذن عندنا المؤذنون، أفأصلي حينئذٍ وأفطر إن كنت صائماً؟ أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الليل؟ فكتب إليّ: أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك[26].
وقد روى شيخ الطائفة(ره) هذه المعتبرة بعينها في التهذيب بشيء من الاختلاف، إذ جاء فيها عوضاً عن لفظ الليل، عبارة: وترتفع فوق الليل، وعبارة: حتى تذهب الحمرة التي فوق الليل، عوضاً عن لفظة الجبل.
وعلى أي حال، فقد ذكر أن في المعتبرة احتمالين:
الأول: أن يبنى على أن الشبهة الواردة في المعتبرة هي شبهة حكمية، وليست شبهة موضوعية، لأن مرجعها إلى السؤال عن بيان الغروب الشرعي، بهذا البيان:
إن السؤال الواقع فيها سؤال عن الغروب الشرعي الذي تترتب عليه الأحكام في الشريعة، وقد تردد السائل بين محتملين في تحديده وهما: الاستتار الذي كان هو المدار عند الناس، وعليه يقع الأذان. أو ذهاب الحمرة المشرقية.
الثاني: أن يكون مورد السؤال هو الشبهة الموضوعية، بحيث كان تحقق الغروب الشرعي عند السائل معلوماً، وأنه يحصل باستتار القرص وغيبوبته عن الأفق، إلا أنه يشك في تحققه وعدمه، لحيلولة الجبل واستتار القرص خلفه، نعم الحمرة المرتفعة فوق الجبل تكشف ظناً عن عدم استتاره عن الأفق بالمرة. ولذا أمره(ع) بالأخذ بالاحتياط، لاستصحاب بقاء النهار، وعدم تحقق الاستتار.
ولا يخفى أن الالتـزام بالاحتمال الأول يتنافى وما نعتقده من سعة دائرة علم المعصوم(ع)، لأن المعتبر تضمن الأمر بالأخذ بالاحتياط. على أن هناك مانعاً آخر فيها، وهو عدم ظهور كون الحمرة الواقعة فيها هي الحمرة المشرقية التي يعتمد عليها دعوى المستدل، بل الظاهر منها أن الحمرة هي المحاذية للقرص المرتفعة فوق الجبل الذي يكون في ناحية المغرب، الكاشفة عن عدم تحقق الاستتار.
وعليه سوف يتعين عندها الاحتمال الثاني في المعتبرة، وهذا يستوجب أن تكون أجنبية عن مدعى المشهور، لو لم يقل بدلالتها على مدعى القول الأشهر، لظهورها في المفروغية عن تحقق الغروب بمجرد الاستتار، وإنما السؤال عما إذا كان هناك مانعاً كجبل وما شابه، فلاحظ.
إلا أن يقال، بأنه يمكن توجيه احتمال كون السؤال الوارد في المعتبرة سؤالاً عن الشبهة الحكمية من خلال كون المراد فيها هو بيان الحكم الواقعي في قالب الاحتياط رعاية للتقية.
وهو حسن لو انحصر طريق دلالة الرواية في هذا الأمر، فلا يتصور محمل آخر يمكن حملها عليه.
ومنها: خبر محمد بن شريح عن أبي عبد الله(ع)، قال: سألته عن وقت المغرب؟ فقال: إذا تغيرت الحمرة في الأفق، وذهبت الصفرة، وقبل(أن)تشتبك النجوم[27].
وأجاب عنها بعض الأعاظم(ره) بضعفها سنداً، لجهالة علي بن الحارث، ولعدم توثيق بكار، وبقصورها دلالة، لأن تغير الحمرة إنما يتحقق عند دخول الشمس تحت الأفق، وهو زمان ذهاب الصفرة في قبال اشتباك النجوم، وذهاب الشفق[28].
ومنها: معتبرة يونس بن يعقوب قال: قلت لأبي عبد الله(ع): متى الإفاضة من عرفات؟ قال: إذا ذهبت الحمرة-يعني من الجانب الشرقي-[29]. وتقريب الاستدلال بها على المدعى يتضح من خلال الإحاطة بإتحاد وقت الإفاضة من عرفات، مع وقت وجوب صلاة المغرب، ووقت الإفطار.
وإن شئت فقل، إن المستفاد من المعتبرة تحديد وقت الإفاضة من عرفات بما إذا ذهبت الحمرة المشرقية، فيدل ذلك بالدلالة الالتـزامية على أنه وقت صلاة المغرب، لما عرفت من اتحاد الأوقات الثلاثة.
والإنصاف تمامية التقريب المذكور، وبالتالي البناء على تمامية الدلالة لمقالة المشهور، إلا أن هناك نصوصاً أخرى تدل على أن منتهى التواجد في عرفات، وبدأ وقت الإفاضة يكون بغروب الشمس، فلاحظ معتبرة معاوية بن عمار قال: قال أبو عبد الله(ع): إذا غربت الشمس فأفض مع الناس وعليك السكينة والوقار، وأفض من حيث أفاض الناس، واستغفر الله إن الله غفور رحيم[30].
نعم قد يدعى أنه تحصل المعارضة بين معتبرة يونس، وبين معتبرة معاوية بن عمار، فيعمد إلى الترجيح بعد استقرارها، والترجيح سوف يكون لمعتبر يونس لمخالفته للعامة، فلاحظ.
إلا أن للمنع من تمامية الاستدلال المذكور مجال، إذ قد عرفت توقفه على إحراز اتحاد الأوقات الثلاثة، وقت الإفاضة، ووقت وجوب صلاة المغرب، ووقت الإفطار، وللمنع عن ذلك مجال، لأنه لو كان الدليل على ذلك هو معتبر يونس، فإنه لا دلالة له على ذلك، بل إن المستفاد منه أنه وقت الإفاضة يكون عند ذهاب الحمرة المشرقية، لا أن ذلك هو وقت صلاة المغرب، ووقت الإفطار، كما لا يخفى.
على أن للقول بكون التعبير بالجانب الشرقي الوارد في المعتبرة من كلامه(ع) مجال للتوقف، بل الظاهر أنه من التفسير الصادر من الراوي، فلاحظ.
ومنها: خبر أبي ولاد قال أبو عبد الله(ع): إن الله خلق حجاباً من ظلمة مما يلي المشرق، ووكل به ملكاً، فإذا غابت الشمس اغترف ذلك الملك غرفة بيديه، ثم استقبل بها المغرب عند سقوط الشفق فيسرح الظلمة، ثم يعود إلى المشرق، فإذا طلع الفجر نشر جناحيه فاستاق الظلمة من المشرق إلى المغرب حتى يوافي بها المغرب عند طلوع الشمس[31]. لدلالتها على الملازمة بين غروب الشمس والظلمة، التي هي ذهاب الحمرة المشرقية، وليست مجرد استتار القرص عن الحس المرئي.
ثم إنه بعد تمامية نصوص كل من الطائفتين للدلالة على المدعى، إذ دلت نصوص الطائفة الأولى على مقالة القول بتحقق الغروب بمجرد استتار القرص، وأنه لا ينتظر إلى ذهاب الحمرة المشرقية، بينما كان مفاد نصوص الطائفة الثانية، أن الغروب لا يتحقق إلا بذهاب الحمرة المشرقية، ولا يكون ذلك بمجرد سقوط القرص، بل إن استتار القرص لا يكون إلا بذهابها، وعليه تقع المعارضة بين هاتين الطائفتين، مما يستوجب علاج ذلك التعارض.
إلا أنه قد يمنع من حصول التعارض في المقام أساساً، لا لعدم تمامية دلالة نصوص الطائفتين على المدعى منهما، وإنما لما تقرر في محله من أن التعارض فرع الحجية، ونصوص الطائفة الأولى ليست بحجة، والموجب لسلب الحجية منها أحد أمرين:
الأول: إعراض المشهور عنها، فإنه لم يلتـزم بها أحد من القدماء، وقد تقرر في محله أن إعراض المشهور عن الرواية صحيحة السند كاسر لصحة سندها، بل كلما ازداد الخبر صحة ازداد بالإعراض وهنا، وبالجملة، إن إعراض المشهور يكشف عن وجود خلل في النص المعرض عنه، يمنع من الاستناد إليه.
ويلاحظ على الصغرى أمران:
الأول: أنه قد تبين من خلال عرض كلمات الأصحاب، قول قدمائهم بتحقق الغروب بمجرد سقوط القرص واختفائه عن الأنظار وعدم اعتبار ذهاب الحمرة المشرقية في تحققه، وهذا يعني أن الإعراض حاصل عن نصوص الطائفة الثانية، دون الطائفة الأولى، خصوصاً وقد عرفت فيما تقدم أن أول من قال بتحقق الغروب بذهاب الحمرة هو الفاضل الآبي، فلاحظ.
الثاني: قد تقرر في محله أنه يعتبر في الإعراض الذي يوجب سلب الحجية عن الخبر هو الإعراض الذي ينشأ من وجود خلل ما في الخبر المعرض عنه، لا أن يكون الإعراض إعراضاً اجتهادياً ناشئاً من وجود معارض مثلاً، أوجب التصرف في نصوص الطائفة الأخرى، بتأويلها، أو بحملها على بعض المحامل، أو برفع اليد عنها لتصور التقية فيها مثلاً، كما في المقام، فلاحظ.
الثاني: مخالفتها للإجماع.
ولا يخفى أنه هذا إنما يجري في شأن نصوص الطائفة الثانية دون الأولى، ضرورة أنه لم يبدأ القول بمضمونها كما عرفت إلا منذ عصر الفاضل الآبي(ره)، مع أن قدماء الأصحاب كلهم متفقون على القول بتحقق الغروب بمجرد سقوط القرص، كما هو واضح.
[1] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 3.
[2] مستند العروة ج 11 ص 171.
[3] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 4.
[4] مستند العروة ج 11 ص 172.
[5] مستند العروة ج 11 ص 172-173.
[6] مستند العروة ج 11 ص 173.
[7] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 5.
[8] الوافي ج 7 ص 314 ح 5989.
[9] مستند العروة ج 11 ص 173.
[10] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 8.
[11] مستند العروة ج 11 ص 175.
[12] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 10.
[13] مستند العروة ج 11 ص 176.
[14] روضة المتقين ج 14 ص 263.
[15] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 13.
[16] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 1.
[17] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 7، و11.
[18] نهاية التقرير ج 1 ص 113.
[19] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 10.
[20] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 3.
[21] مستند العروة ج 11 ص 169-170.
[22] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 4.
[23] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 6.
[24] مستند العروة ج 11 ص 174.
[25] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 9.
[26] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 14.
[27] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 12.
[28] مستند العروة ج 11 ص 176.
[29] وسائل الشيعة ب 22 من أبواب إحرام الحج والوقوف بعرفة ح 3.
[30] وسائل الشيعة ب 1 من أبواب الوقوف بالمشعر ح 1.
[31] وسائل الشيعة ب 16 من أبواب المواقيت ح 2.