القرآن الكريم هو كتاب الله الذي أنزله على رسوله محمد(ص)، وهذا اللفظ علم له، كما أن التوراة والإنجيل علمان لما نزل على موسى وعيسى(ع)، وتسميته بالقرآن تعود للمعنى اللغوي، وقد ذكرت في ذلك عدة أقوال:
الأول: أنه مأخوذ من قرأ، أي جمع، وقد سمي بذلك باعتبار أنه جامع لثمرة الكتب السماوية، أو جامع لثمرة العلوم والمعارف[1]، أو جامع لما فيه من الأحكام والقصص والوعد والوعيد، وغير ذلك[2].
الثاني: هو مأخوذ من القراءة[3]، ولذا عرف القرآن بكلام الله المنـزل على رسول الله(ص) المكتوب في المصاحف[4].
الثالث: هو مأخوذ من القرن، أي قرن الشيء بالشيء، وقد سمي به لقِران السور والآيات والحروف فيه.
الرابع: أنه مأخوذ من القرائن[5]. وهناك كلام أنه اسم علم غير مشتق قد أطلق على كلام الله سبحانه وتعالى[6]. أو غير ذلك.
ولا حاجة لمزيد بحث حول معناه اللغوي أو الاصطلاحي، لأنه من توضيح الواضح، ولا ثمرة عملية في تحقيق أنه مشتق أو جامد. نعم الأولى أن يصرف الجهد في البحث عن حقيقته وأصله، لأنه وقع الخلاف بين المسلمين بعد اتفاقهم على أنه وحي من الله سبحانه وتعالى لنبيه الكريم محمد(ص)، فقالت الأشاعرة بأنه الكلام النفسي وهو قديم وليس مخلوقاً، وهو مكتوب في مصاحفنا محفوظ في قلوبنا مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا غير حال فيها، لأنه ليس من جنس الحروف والأصوات، لأنها حادثة وهو صفة أزلية قديمة، وهو قائم بذات الله. وهذا قول باطل لما يرد عليه من الإشكالات.
وحتى نعرف حقيقة القرآن الكريم لابد من ملاحظة الآيات الشريفة والنصوص الواردة عن المعصومين(ع) لمعرفة ذلك، لأنه ليس للعقل مجال في إدراك شيء عن حقيقة القرآن الكريم من دون الاستعانة بالنقل.
حقيقة القرآن:
لقد عبر القرآن الكريم عن نفسه أنه حديث، ومحدث، ومجعول، ومنـزل ومقروء، ومجموع، وجميع هذه الأوصاف من لوازم الوجود الممكن والحادث، وهذا ما يقضي به العقل، لأن القرآن قد نص على أنه كلام الله سبحانه وتعالى، والكلام حدوثي الذات، لأن وجوده غير قارٍ، بل لا يوجد جزء منه إلا بعد انعدام الجزء السابق. نعم يبقى في البين سؤال وهو: بعد الفراغ عن كون القرآن الكريم حادثاً، فهل أن حقيقته وجودية عينية، والألفاظ معبرة عنه، أم هو وجود لفظي قد سمعه النبي الأكرم محمد(ص) بإذنه الشريفة، ودون في المصحف الشريف، أو هما الأثنان في رتبتين، لأن القرآن المكتوب هو تنـزيل وجعل للقرآن الحقيقي؟ احتمالات، بل أقوال: والصحيح منها هو الثالث، لأنه المستفادة من حكم العقل، وكما أنه مقتضى الآيات القرآنية، والروايات، توضيح ذلك:
من المعلوم أن القرآن الكريم لا يختلف عن النبي الأكرم محمد(ص) في أن له جنبتين، جنبة إلهية، وجنبة رسالية، فهو من حيث ذاته نور ملكوتي، ولكنه في قوس النـزول كلام عربي يفهمه الناس، فهو من حيث ذاته نور إلهي، ومن حيث تنـزله كتاب يخاطب الناس ويهديهم، كما أن النبي والإمام(ع)، كذلك، فإنهما حقيقة نورية تجسدت في الوجود البشري، ومن هنا نصت الأخبار على التطابق التام بين القرآن الصامت والقرآن الناطق، وقد نص حديث الثقلين على أنهما لن يفترقا حتى يردا الحوض. ولعل هذا منشأ تفسير الكتاب الكريم في النصوص المتضافرة بأمير المؤمنين(ع)، وأنه الكتاب المبين.
والحاصل، إن الوجود القرآني والوجود النبوي متحدان في الملكوت والعالم الغيبي وهما وجود واحد، وحقيقة تكوينية واحدة عبر عنها بالحبل الممدود بين السماء والأرض ولذا لن يفترقا.
نعم هما مختلفان في وجودهما التنـزيلي فقد تجسد النبي(ص) في بشر هو أكمل ما للكمال البشري من جمال وجلال، وفي كتاب كريم وهو القرآن الكريم.
فتحصل أن القرآن الكريم في حقيقته الملكوتية هو حقيقة نورية، مقدسة في كتاب مكنون، لا يمسه ألا المطهرون، لكن في وجوده الملكي الدنيوي هو كتاب اقتضت الضرورة أن يكون كذلك، لأن عالم الملكوت هو عالم الواقعيات والحقائق المتحررة عن المادة، وعالم الملك ثقيل مقيد بالمادة، ومن المعلوم أن الإنسان قاصر عن إدراك الحقيقة الملكوتية، إلا إذا كانت متجسدة بالصورة الملكية.
أدلة الحقيقة القرآنية:
يمكن عرض أدلة وشواهد متعددة تثبت ما ذكر في بيان الحقيقة القرآنية، نشير لبعضها:
الأول: ما تضمنته النصوص المتواترة من بيان ما للقرآن الكريم من خواص، وآثار، فإنها تشير إلى أن له وجوداً ملكوتياً علوياً قبل تنـزله إلى عالم الدنيا، مثلاً قوله تعالى:- (وأنزلنا إليكم نوراً مبيناً)، وقوله عز من قائل:- (وننـزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين)، وذلك لأن هذه الأوصاف حقائق واقعية، فإن هذا التعبير صريح في أنه نزل من الملكوت بهذه الصفة، شفاء ورحمة للمؤمنين، وقد أوجب هذا التزام بعض أهل المعرفة أن له وجهاً حقيقياً جسمانياً في عالم الغيب.
الثاني: وصف نزول القرآن الكريم بالتنـزيل والجعل، فإن حقيقة التنـزيل لغة وعرفاً هو ترتيب الشيء ووضعه مع تكرار وتواصل، ويقابله النـزول والإنزال الذي هو عبارة عن نقل الشيء من علو إلى أسفل. وقد اختص القرآن الكريم دون بقية الكتب السماوية بالتنـزيل حتى صار علماً له، فقال سبحانه وتعالى:- (تنـزيل من الرحمن الرحيم)[7]، هذا يعني أن القرآن قبل تجليه في عالم الملك وظهوره في عالم الشهادة كانت حقيقته عالية موجودة، ثم ظهرت في كتاب.
ولا يخفى أن التـنزيل، قد يكون تنزيلاً مكانياً، وقد يكون تنـزيلاً مقامياً، ومن الواضح أنه لا يقصد من النـزول هنا النـزول المكاني، بل هو نزول مقامي، وهذا ما يؤكده القرآن فلاحظ قوله تعالى:- (إنا أنزلناه قرآناً عربياً)[8]، ذلك لقصور البشر عن إدراك حقيقته والوصول إليه وتعقل مفاهيمه، إلا بإنزاله بالألفاظ العربية.
الثالث: النصوص التي دلت على أن للقرآن أكثر من تجلٍ وظهور على حسب مراتب الناس ومقاماتهم، فقد جاء عن الإمام الصادق(ع) أنه قال-في حديث-: كتاب الله عز وجل على أربعة أشياء: على العبارة والإشارة، واللطائف والحقائق، فالعبارة للعوام، والإشارة للخواص، واللطائف للأولياء، والحقائق للأنبياء[9]. فإن المستفاد منه وجود مراتب أربع وجودية للقرآن، فيظهر للعوام بالعبارة، ويظهر للخواص بالإشارة وهي رتبة أعلى وأعمق، لأنها تتضمن ما يفوق العبارة من المعاني ويظهر للأنبياء والأولياء بالحقائق واللطائف، وجميع معاني القرآن الكريم حقائق، إلا أنه قد اختلفت الأسماء بحسب مراتب المعنى وبطونه.
وقد عبر عن الأولى بالعبارة لأنها كلام يـبين به ما في النفس من المعاني، فيعبر بها الذهن من الألفاظ إلى المعاني[10]، وعبر عن الثانية بالإشارة لأنها تشير إلى المعاني الخفية التي لا يدركها الناس من مظاهر العبارة، وهي أدنى المراتب، وتكون معرفتهم بلحاظ الظاهر، وهو ظن على اختلاف مراتبه[11]. والثالثة عبر عنها باللطائف لأنها أدق وأعمق ويحتاج الحصول عليها مضافاً إلى نباهة العقل، صفاء القلب ونورانيته، لأن اللطيفة دقيقة لا تدرك إلا بلطافة ورفق[12]. وهما صفتان للقلب. ويحتمل أن يكون منشأ التعبير عنها بهذا الوصف لأن إدراكها يوصل أهلها إلى الحق، ولذا صارت صفة الأولياء لأنهم يرون الله سبحانه في كل شيء. والرابعة الواقعيات إذا أدركت بالكنه والجوهر، فلا تتبدل ولا تتغير[13]. ومن المعلوم أن آلة درك الحقائق هو الشهود القلبي المتقوم بالإحاطة الوجودية على مرتبة حق اليقين.
ومن خلال ما تقدم، تتضح مجموعة من الأمور:
منها: لا يختلف العوام والخواص في أن فهمهم للقرآن الكريم يتم عبر ألفاظه، فالعوام يفهمون منه الكلمات المؤلفة بحسب لغة العرب، ويتوصلون إلى مقاصده الأولية بالعبارة، ولذا يكون ظاهر القرآن حجة على الجميع، وإلى هذا يشير قوله تعالى:- (بيان للناس)[14].
وهناك رتبة أعمق تستند إلى العقل والاستنتاج الذي يقوم على قواعد العلم والمنطق السليم، ودلالات الإشارة، وهذا هو فهم الخواص أي العلماء، وهو ما يتعلق بالتفسير، لأن التفسير أصله الكشف والإظهار، وهما لا يصدقان إلا بإظهار المخفي والمستور.
ثم إن إدراك حقائق القرآن ولطائفه لا يكون من خلال العبارات والإشارات، وإنما يكون إدراكها باليقين القلبي والإحاطة الوجودية، فهما لا يتقومان بالعبارات، بل بالإدراك والرؤية لباطن القرآن وأسراره، وحقائقه الوجودية التي هي من عالم الوجود الواقعي لا الكتبي ولا اللفظي. بل يستفاد من بعض النصوص أن البيت المعمور هو قلب النبي(ص)، والإمام(ع)، لأن قلبهما النوراني هو بيت الله وعرشه بناء على أن المقصود بالمؤمن في ما ورد عنهم(ع): أن قلب المؤمن عرش الرحمن[15]، هو خصوص المعصوم(ع). ولعل قوله تعالى:- (إنه لقرآن كريم* في كتاب مكنون* لا يمسه إلا المطهرون* تنـزيل من رب العالمين)[16]، يشير إلى هذا المعنى أيضاً، على أساس أن المقصود من الكتاب المكنون هو قلب النبي(ص) والإمام(ع)، ووصفا بالمكنون باعتبار أنهما يفيضان من علوم القرآن ما يتناسب مع قابليات البشر واستعدادهم، فجوهر القرآن وحقائقه الواقعية مكنونة لديهما، ويفيضان منه على قدر الحاجة والاستعداد، ولذا نفى أن يمسه أحد إلا المطهرون،، وهم المعصومون(ع)، ويؤكد ذلك وصفه بالكريم، فيكون المعنى أنه مصون محفوظ الكرامة والشأن في قلوبهم، لأن البشر مهما بالغ في احترام القرآن الكريم،، لا يبلغ مقدار ما يستحقه من التكريم، فكرامة القرآن التي تليق به تحفظ في قلب المعصوم لا غير.
وقد كان وصف قلب المعصوم(ع) بالكتاب بلحاظ ما يحويه من العلوم والمعارف الإلهية، أو بلحاظ كونه مجمع علوم القرآن ومعارفه، أو لكونه مظهر العلم والإرادة الربانية، وهو يتوافق مع معنى الكتاب لغة، كما أنه يتوافق مع مدلول ما جاء عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، حيث وصف الكتاب بأنه الاسم الأكبر الذي يعلم به علم كل شيء الذي كان مع الأنبياء[17]، والمقصود من الاسم الأكبر هو المعصوم(ع).
ومنها: إن القرآن والنبي حقيقتان نوريتان في عالم الملكوت، بل وجود النبي سابق على وجود القرآن كما يفيده حديث النورانية، وسائر الأحاديث التي دلت على أن الله سبحانه وتعالى خلق نور محمد(ص) قبل كل شيء، وأنه(ص) كان نبياً وآدم بين الماء والطين، باعتبار أنه(ص) واسطة الفيض وغايته فيكون أصلاً للقرآن، وقد نبعت منه أنواره وفيوضاته، إلا أنه نظراً لقصور الدنيا وعقول أهلها عن فهم هذه الحقيقة، ومن أجل اتمام الحجة، وتحقيق غايات البعثة، تنـزل القرآن على قلبه(ص)، ثم نزل تدريجاً مدة البعثة المباركة.
خصوصيات القرآن الكريم:
للقرآن الكريم خصوصيات يتميز بها على بقية الكتب السماوية الأخرى، كما جعلته أشرف منها وأعلاها مقاماً وأعظمها تأثيراً، وهذه الامتيازات الثابتة له تكشف عن شيء من أسرار الإعجاز الموجود فيه.
ومن أبرز الخصوصيات الثابتة له:
الإعجاز الذاتي:
من المعلوم أن لكل نبي من الأنبياء معجزة تناسب عصره وزمانه الذي بعث فيه، وتنتهي تلك المعجزة بموت النبي وخروجه من عالم الدنيا، فكانت معجزة موسى(ع) العصا، وكان عيسى(ع) يبرأ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى، واختلف القرآن الكريم عن جميع معاجز الأنبياء، فكان باقياً ما بقي الدهر، وهذه ميزة تفرد بها على سائر المعاجز، ولم يخالف في ذلك أحد حتى أصحاب الديانات السماوية الأخرى، فلم يدع أحد منهم أن التوراة أو الإنجيل معجزة خالدة.
ومضافاً إلى أن القرآن الكريم معجزة خالدة، فإنه مهيمن على جميع ما سبقه من الكتب السماوية الأخرى، كما أن كل من يقرأ القرآن الكريم يجد له تفوقاً معنوياً على جميع الكتب السماوية الأخرى وبشهادة أصحابها، وقد أعطاه ذلك هيمنة عليها، كما يشير إليه قوله تعالى:- (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه)[18]، والمقصود من المهيمن هو المسيطر والمراقب، ومقتضى دلالة الآية الشريفة على أن القرآن الكريم مهيمن، يستوجب ثبوت أمور ثلاثة له:
أحدها: كونه مصداقاً لسائر الكتب السماوية، ومؤكداً لمضامينها، فيكون حافظاً لها، وتدل هذه الصفة على حقانية القرآن وصدق النبي(ص)، لأنه لم يكذب من سبقه ممن ثبتت نبوتهم، إذ لو لم تكن دعوته إلهية لكذب ما سبق كما هو المعهود من أصحاب الدعوات الباطلة.
ثانيها: اشتماله على تقويم الأخطاء والتحريفات التي أدخلها اليهود والنصارى على كتبهم، فأشار إلى مواطن التحريف والخطأ زيادة أو نقيصة، كما فضح التلاعب بها، وهذا يشير إلى كونه رقيباً عليها.
ثالثها: تفوقه على الكتب السماوية الأخرى في الأسلوب والمضمون والآثار، وهذا يوجب له سيطرة وحكومة عليها. ما يجعله مسيطراً وحاكماً.
شموليته للمعجزة والشريعة معاً:
لقد كانت شرائع أنبياء أولي العزم السابقين على النبي(ص) مستقلة عن معاجزهم، فالكليم موسى(ع) كانت شريعته في التوراة، ومعجزته العصا، وكذا المسيح عيسى(ع)، نزلت شريعته في الإنجيل، ومعجزته كانت إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، واختلف النبي(ص) عنهم، فجاءت معجزته متحدة مع شريعته، فنـزلت شريعته في القرآن الكريم، وكانت معجزته أيضاً هي القرآن الكريم، فاتحدت معجزته مع شريعته. فكان بنفسه حجة لإثبات نفسه من دون حاجة إلى شيء آخر يثبته.
تداخل غاياته:
لا يخفى أن غايات القرآن الكريم قسمان، غايات موضوعية، ويعبر عنها بالأصيلة،وهي التي يقصد الوصول إليها لأنها مطلوبة بنفسها.
وغايات طريقية، وهي التي تكون تابعة، وهي التي تكون طريقاً موصلاً إلى ما هو أعلى رتبة منها، ولهذا سميت بالطريق، وقد يعبر عنها أيضاً بالغايات الوسيطة.
وقد تكون غاية بلحاظ غاية موضوعية، وبلحاظ آخر غاية طريقية، ما يكشف عن أن ذلك من الأمور النسبية، وليس من الأمور الحقيقية. نعم الغاية الأساس وهي الغاية الأم للقرآن الكريم هي هداية البشر واكمال عقولهم ونفوسهم حتى يكونوا لائقين بمقام العبودية لله سبحانه وتعالى.
ولا يصل الإنسان لهذه الغاية بنفسه، وإنما يكون ذلك بتوجيه من الله سبحانه وإرشاده، وهذا ما جعل الحاجة لبعث الأنبياء والمرسلين وإنزال الكتب السماوية، وقد كانت جميع النبوات السابقة غايات طريقية تمهد إلى نبوة النبي الأكرم محمد(ص)، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، ورسالته خاتمة الرسائل، ودينه خاتمة الأديان، وكتابه خاتمة الكتب السماوية المنزل.
تداخل خطابه:
يخاطب القرآن الكريم العقل البشري في ثلاثة مستويات:
الأول: العقل الجبلي الذي جعله الله عز وجل آلة الإدراك والتفكير والتدبر، وبه يميز الخطأ من الصواب، والحسن من القبيح، والهدى من الضلال، فهو القوة الأولى لإدراك الحقائق، وعلى أساسها يكلف بالنظر والمعرفة والإيمان، ومع انعدامه لعارض من جنون أو مرض، ينتفي الخطاب الإلهي له، لأنه منشأ التكليف في المعارف والاعتقادات وعليه تدور الحجة والاحتجاج، وفيه يتساوى جميع الناس.
الثاني: العقل المكتسب، ويقصد مه العلم في مقابل الجهل، وإطلاق العقل على العلم بلحاظ علاقة الحال والمحل، أو العلة والمعلول، وإلى هذا يشير قوله(ع): ما كسب الإنسان شيئاً أفضل من عقل يهديه إلى هدى[19]. وعلى هذا المستوى من العقل يدور الفهم والنظر في المقدمات والنتائج وإدراك العلاقات والروابط بين الأشياء، ولذا لا يتساوى فيه جميع الناس، بل يختص به العلماء وأهل الفهم.
الثالث: العقل الخالص، ويراد به اللب، وقد سمي به لكونه خالص ما في الإنسان، ومحله القلب، إذ خالص كل شيء لبه، ولب الرجل ما جعل في قلبه من العقل، وهو ليس عاماً، بل خاص يمتاز به بعض الأصفياء من الناس، وهم الذين صفت أرواحهم، وأشرقت فيها أنوار الهدى والتقوى والحكمة ورسخ فيها العلم، ولذا لم يصف القرآن الكريم الكفار والمنافقين والعصاة باللب، بل حصر ذلك في الكمّل من الناس، قال تعالى:- (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب)[20].
ووفقاً لما تقدم، يتضح أن القرآن الكريم يخاطب في الآية الواحدة ثلاثة مستويات من العقول، فالعاقل بحسب عقله الأولي يدرك المعنى الظاهر منها، ويتدبر في محاسنه وآثاره، والعاقل بعقله المكتسب يدرك مقاصده ونتائجه ولوازمه، والعاقل بعقله الخالص يدرك لطائفه وأنواره وبصائره، وهذا يتوافق مع تقدم منا نقله من حديث الإمام الصادق(ع)، والذي تضمن تصنيف القرآن الكريم على العبارة والإشارة واللطائف والحقائق، فتدرك العبارة بالعقل الجبلي، لأن كل عاقل يعرف اللغة يدرك معاني ألفاظه، والعلماء يدركون الإشارات منه، أما الأنبياء، والأولياء وهم الذين زكت نفوسهم وعقولهم فيدركون لطائفه وحقائقه.
اندماج باطنه بظاهره:
وقد اختلف القرآن الكريم بهذه الخصوصية عن بقية الكتب السماوية الأخرى، لأن الكتب السماوية الأخرى، كانت على نوعين، إما أن تكون شرائع ووصايا خاصة لبعض الأنبياء، وهذا يجعل فهمها مختصاً بمن أنزلت له دون غيره، أو أنها كتب سماوية نزلت لعامة الناس الذين بعث فيهم من جاء بها، فتكون جلية واضحة يدركها كل أحد ويفهم ما تضمنته من تعاليم وأحكام، كالتوراة والإنجيل.
أما القرآن الكريم، فقد جاء بأسلوب يمكن فهمه من كل أحد، وتستوعب ما فيه جميع العقول البشرية مع اختلاف قدراتهم العقلية، فيمكن أن يفهمه الإنسان البسيط، كما أنه موضع تأمل وعناية عند العالم الكبير. ولهذا تجد اختلافاً وتعدداً في الأقوال في معاني بعض الآيات القرآنية، حتى قيل أن بعضها فيها مائة قول، كل ذلك نشأ من اختلاف الأفهام والمستويات.
سمات المنطوق القرآني:
وللمنطوق القرآني مجموعة سمات يمتاز بها أيضاً على بقية الكتب السماوية الأخرى:
منها: تنوع الأسلوب والمضمون، ويظهر هذا من خلال الصور التي جاء بها، فتارة يكون كلامه طويلاً، وأخرى يكون قصيراً، ومرة تكون آياته مجملة، وأخرى تكون مبينة، وأحياناً تكون الآيات محكمة، وثانية تكون متشابهة، وتارة تكون الآية حرفاً أو أكثر، كما أن الآية قد تكون إنشاء، وقد تكون إخباراً.
بل قد يختلف حال الآية الشريفة باختلاف حال قارئها، فإنها قد تكون متشابهة عند الإنسان البسيط، لكنها تكون محكمة عند العالم. وقد يكون الأمر بالعكس تماماً، ومثل ذلك يجري في شأن الإخبار والإنشاء، فقد تكون الآية الواحدة إنشائية عند بعض، وإخبارية عند آخرين، وهذا يعني نسبية هذه الأمور، وعدم ثباتها.
ومنها: اشتماله على العديد من الأسرار الخاصة التي لا يعلمها إلا خصوص من خوطب به، وهم المعصومون(ع)، كالآيات المتشابهة في القرآن الكريم[21].
ومنها: حاجته إلى وجود من يتصدى لبيانه وشرحه، كما أنه لا يستغني عن وجود من يخصص مضمامينه ويقيدها، ويقوم بتأويلها، والمتصدي لذلك هو المعصوم(ع). ويظهر هذا جلياً في بعض الآيات القرآنية التي يكون لها معاني باطنة على خلاف ما هو الظاهر منها، ولا تحرز تلك المعاني وتعرف إلا بالرجوع للمعصوم(ع). ونماذج ذلك في المصادر التفسيرية الروائية كثيرة جداً، فلاحظ الآيات التي فسرت بأن المقصود منها هو ولي النعمة(روحي لتراب حافر جواده الفداء).
نعم يلزم الالتفات إلى أنه لا يقبل كل نص ورد في تأويل الآيات الشريفة، إذ أن بعضها مخالف للقواعد المعتبرة في قبول النصوص، كما أنه يلزم تطبيق ما يعتبر في حجية نصوص التفسير فيها، وأيضاً لابد من التفريق بين كون النص الوارد من صغريات قاعدة الجري والتطبيق بالمعنى العام، أو بالمعنى الخاص[22].
[1] مفردات ألفاظ القرآن الكريم مادة(قرأ).
[2] معجم مقايـيس اللغة مادة(قري).
[3] معجم البحرين مادة(قرأ) ج 1 ص 336.
[4] المعجم الوسيط مادة(قرأ) ج 2 ص 722.
[5] كشاف اصطلاحات الفنون والعلوم ج 2 ص 1306.
[6] المصدر السابق.
[7] سورة فصلت الآية رقم 2.
[8] سورة يوسف الآية رقم 2.
[9] بحار الأنوار ج 75 ح 113 ص 278.
[10] معجم مقايـيس اللغة مادة(عبر) ص 703، مفردات ألفاظ القرآن الكريم مادة(عبر) ص 543.
[11] المعجم الوسيط مادة(شور)ج 1 ص 499، معجم مقايـيس اللغة مادة(شور) ص 519.
[12] مجمع البحرين مادة(لطف) ج 5 ص 120-121.
[13] مفردات ألفاظ القرآن الكريم مادة(حق) ص 246، مجمع البحرين مادة(حق) ج 5 ص 148.
[14] سورة آل عمران الآية رقم 138.
[15] بحار الأنوار ج 55 ح 61 ص 39.
[16] سورة الواقعة الآيات رقم 77-80.
[17] مجمع البحرين مادة(كتب) ج 2 ص 154.
[18] سورة المائدة الآية رقم 48.
[19] مجمع البحرين مادة(عقل) ج 5 ص 426.
[20] سرة البقرة الآية رقم 269.
[21] بناء على أن المقصود بالراسخين في العلم في الآية الشريفة هم المعصومون(ع).
[22] الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج 4 ص 217-262(بتصرف)