الإعجاز القرآني(3)
مظاهر الإعجاز القرآني:
لا يختلف اثنان ممن قرأوا القرآن الكريم على تضمنه كلاماً فريداً من نوعه، غريباً في نسجه، قد امتزجت فيه الحقائق بالبلاغة والمعارف، والمواعظ والإرشادات، ولم يستطع أحد من الجن والأنس مجاراته، ولهذا القرآن مظاهر تكشف عن إعجازه:
الإعجاز البياني:
مما تسالمت عليه جميع الأمم أن القرآن الكريم معجز في أسلوبه وبيانه، وقد قصرت عقول البلغاء وقرائحهم عن الاتيان بمثله، ويشهد لما ذكر الواقع الخارجي، فإنه لا زال يتحدى الناس بقوله:- (فأتوا بسورة من مثله)[1]، وقوله سبحانه:- (فليأتوا بحديث مثله)[2]، ويدل على عجزهم أنه لو كان لهم القدرة والقابلية على المجاراة لبان ذلك وتحقق خارجاً.
ويعرف هذا المظهر من مظاهر الإعجاز من خلال أمور:
أحدها: بداعة الأسلوب: فقد جاء القرآن الكريم بكلام جديد غير ما كان معروفاً عند العرب، لأنهم كانوا بين أسلوبين: النثر، أو الشعر. وقد جاء بأسلوب ليس شعراً ولا نثراً، إلا أنه يحمل خصوصية الاثنين معاً. وقد وجدوا أن بعض الآيات القرآنية تنسجم تماماً مع الأوزان الشعرية مع أنها ليست شعراً، مثل قوله تعالى:- (وجفان كالجواب وقدور راسيات)[3]. وكذا قوله تعالى:- (مسلمات مؤمنات قانتات تائبات عبادات سائحات)[4].
ثانيها: دقة التعبير وتناسبه: ويشار بذلك للفصاحة بحيث تكون المفردات متناسبة، ومؤلفة بصورة متناسقة في تركيبها من دون وجود شذوذ فيها، ولا ثقل على اللسان والسماع.
ثالثها: وحدة النسق في الشكل والمضمون: وقد أشير إلى ذلك في قوله تعالى:- (أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً)[5].
الإعجاز المعرفي:
ويقصد منه مجموعة المعارف والاعتقادات التي جاء بها القرآن الكريم، ودعا الناس إلى الإيمان بها، ويشهد لهذا المظهر من مظاهر الإعجاز القرآني، أمور:
أحدها: ما تضمنته الآيات الشريفة من وصف للنبي الأكرم محمد(ص)، بصفة الأمية، بأي تفسير فسرت الأمية، فإن الجميع متفق على ما تضمنه القرآن الكريم من المعارف التي أبهرت ولا زالت تبهر عقول الفلاسفة والعلماء، وعلماء الأديان، منذ ظهور الإسلام وإلى اليوم، ولا زال العالم المتحضر يقرّ بقصوره أما ما تضمنه القرآن، وبينه النبي(ص) من المعارف.
ثانيها: عدم تأثره بعلوم الآخرين: فإنه لو سلم أنه(ص) قد تعلم ما جاء به في القرآن الكريم من الأديان السابقة، أو أخذها من أحد علماء زمانه، فإن لازم ذلك أن يتأثر بآرائهم ومعتقداتهم، ولم تخرج المعتقدات الموجودة في عصره(ص)، عن أراء جاهلية وثنية، مبنية على الخرافات والأوهام، وأراء مأخوذة من العهدين، كتب اليهود والنصارى.
ولا تجد في ما جاء به النبي الأكرم(ص) شيئاً منهما، فقد غيّر أراء الجاهلية وأبطلها، ورد آراء اليهود والنصارى، وبيّن التحريفات التي حصلت لكتابيهما، وأبطل مزاعمهما في التوحيد والنبوة، وقام بتأسيس معتقدات جديدة متوافقة مع الفطرة والعقل.
ثالثها: دقة المعارف التي جاء بها القرآن الكريم وعمقها، وسلامتها، ويشهد لذلك أن ما جاء به القرآن الكريم أعلى قدرة من البشر.
الإعجاز التشريعي:
فإن المراجعة التاريخية للواقع الذي كان عليه المجتمع الذي بعث فيه النبي(ص)، يكشف عن مستوى الانحطاط الفكري المظلم في الأنظمة التي كانت تسود تلك المجتمعات قبل نزول القرآن الكريم. وليس ما يوجد اليوم في الأنظمة الوضعية أفضل حالاً مما كان في ذلك العصر، ما يعني وجود جاهليتين، جاهلية قديمة، وجاهلية حديثة.
وعلى أي حال، فقد تحدى القرآن الكريم كلتا الجاهليتين في أن يأتيا بمثل تشريعاته الكاملة التامة التي استوفت حاجات الانسان ولامست فطرته ووجدانه، فقد جعل حياة الإنسان يسودها العدل والرحمة والمحبة، وأنشأ حضارة قوية ولا زالت آثارها باقية في القلوب.
ومنشأ التفوق في التشريعات القرآنية، يعود لأربعة أمور:
أحدها: الاعتدال وتلبية جميع الحاجات الإنسانية سواء كانت الحاجات مادية، أم كانت الحاجات معنوية.
ثانيها: شمولها لكافة جوانب الحياة الانسانية في عالمي الدنيا والآخرة، فجاءت التشريعات في العبادات والمعاملات والقضاء ونظام العقوبات، والآداب والسنن والعلاقات الاجتماعية، والاقتصاد والسياسة، وهكذا. ولذا قالوا إنه ما من واقعة إلا ولله سبحانه وتعالى فيها حكم.
ثالثها: ثبات أحكامه، وعدم تغيرها وتبدلها حسب الأهواء والمصالح كما في القوانين الوضعية.
رابعها: عدالة منفذيها واستقامتهم بالعدالة الشرعة والعلمية، أعني الخبروية.
ولا يتوهم أحد وجود مثل هذه الميز في العهدين، بل هما خاليان منها، خصوصاً وأن التوراة والإنجيل قد تعرضا للتحريف، فصارا بين الإفراط والتفريط. حيث أغرقت اليهودية في المادية، وأغرقت المسيحية في الروحية.
الإعجاز العلمي:
فقد أكد القرآن الكريم على أنه مستودع لجميع الحقائق، وقد أحصى كل أسرار الكون ودقائقه والتشريع. قال تعالى:- (ونزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء وهدى ورحمة وبشرى للعالمين)[6].
والداعي إلى الحكم بكون القرآن مشتملاً على المعارف العلمية، هو حكم العقل القطعي لجهات:
منها: أن القرآن الكريم هو كلام الباري سبحانه وتعالى، وصادر عن جهة علمه عز وجل اللامتناهي، فلابد وأن يشتمل على خزائن علمه.
ومنها: يمثل القرآن الكريم كتاب الله تعالى التدويني، وهو مطابق لكتاب الله تعالى التكويني، فلابد وأن يشتمل على أسراره وقوانينه.
وقد تحدث القرآن الكريم عن كثير من الحقائق العلمية التي لم تكن معروفة وقت نزوله، ولم يدركها الناس في ذلك الزمان، وإنما عرفت بعدما تطور العلم، وتوالت الاكتشافات، ولا زالت هناك بعض الحقائق العلمية التي ذكرها القرآن بعدُ غير معلومة، ولا واضحة لعدم وصول العلم الحديث إليها. فمن ذلك مثلاً قوله تعالى:- (وأنبتنا فيها من كل شيء موزون)[7]، فإن وقت نزول هذه الآية لم يكن المعنى المراد فيها واضحاً، لأنها تشير إلى حقيقة علمية وهي أن كل شيء في الأرض خاضع للوزن والتوازن، وهو يشير بذلك إلى حقيقة علمية هي أساس التركب الكيميائي في الأشياء، وهذا ما أثبته العلم الحديث من أن كل موجود حجراً كان أو نباتاً، أو معدن، يتركب من أجزاء وعناصر خاصة لها وزنها الخاص، وهذا التوازن هو أساس تركيبه الماهوي.
نعم لم يتعرض القرآن الكريم للحديث عن العلوم العصرية والاكتشافات العلمية الحديثة بنحو التفصيل، وإنما اكتفى بالإشارة لذلك، تاركاً المجال للإنسان للبحث والتفكير والإبداع في اكتشاف تفصيلاتها[8].
[1] سورة البقرة الآية رقم 23.
[2] سورة الطور الآية رقم 34.
[3] سورة سبأ الآية رقم 13.
[4] سورة التحريم الآية رقم 5.
[5] سورة النساء الآية رقم 82.
[6] سورة النحل الآية رقم 89.
[7] سورة الحجر الآية رقم 19.
[8] الحقائق والدقائق في المعارف الإلهية ج 4 ص 264-314(بتصرف).