ولادة المنقذ
أثار بعض الأساتذة(وفقه الله) إشكالاً، مفاده: أنه لا يمكننا إثبات ولادة الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، لو اعتمدنا على خصوص المنهج السندي في التعاطي مع الروايات، لأن النصوص المتضمنة للحديث عن ولادته الميمونة لا تنهض لإثبات ذلك، لأن أغلبها ضعيفة سنداً، ولا تفيد علماً، ويعتبر في المسألة العقائدية إفادتها للعلم.
وقد استشهد لذلك بما جاء في كتاب الكافي، فقد ذكر الشيخ الكليني(ره) في باب ولادة الصاحب، واحداً وثلاثين رواية، وقد استعرضها جميعاً الشيخ المجلسي(ره) في مرآة العقول، ولم يعتبر منها إلا خصوص الأحاديث ذات الأرقام التالية: الرابع، والثامن، والخامس عشر، وقد عبر عنه(ره) حسن كالصحيح، والعشرون، والاربع والعشرون، والخامس العشرون، وقد عبر عنه بأنه كالصحيح، والسادس والعشرون، والتاسع والعشرون، والحادي والثلاثون[1].
والذي صح من هذه النصوص عند مؤلف كتاب الصحيح من الكافي، الشيخ البهبودي، هو خصوص حديثين فقط[2].
وقد ذكر غواص بحار الأنوار(ره) في بحاره نصوصاً تتضمن الإخبار عن حدث الولادة أكثر من أربعين رواية[3].
ووفق ما ذكر صاحب كتاب مشرعة البحار لم يصح منها إلا خصوص الحديث الخامس بشرط أن يكون المقصود من الخشاب الواقع في السند هو الحسن بن موسى. لكن فيه تردد، لأنه من الطبقة السادسة، فهو مجهول[4].
وأما رواية السيدة حكيمة(رض)، فهي ضعيفة السند لعدم توثيقها[5].
ولا يتوهم أحد أن السيد الأستاذ(حفظه الله) منكر لوجود الناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، كما أنه ليس منكراً للولادة المباركة له(بأبي هو وأمي)، بل هو يقرر أنه لا يمكن الاعتماد على المنهج السندي في اعتبار النصوص لإثبات ولادة الناحية المقدسة(عج).
تحليل الدعوى:
وكيف ما كان، فإن كلامه(زيد في علو مقامه) ينحل إلى دعاوى ثلاث:
الأولى: أن مسألة ولادة الناحية المقدسة من المسائل العقائدية التي يلزم في ثبوتها إفادة العلم، وهذا يعني أنه لا يصح إثباتها بما يكون مفيداً للظن، فلو أريد إثباتها بالنصوص، لابد وأن تكون النصوص مفيدة للعمل والتواتر.
الثانية: أن الأمور العقدية يعتبر في ثبوتها حصول العلم، فلو أريد الاستناد في إثباتها إلى النصوص، لابد وأن تكون متواترة.
الثالثة: إن النصوص الموجودة في المقام والتي تعرضت للحديث عن ولادة الصاحب(بأبي هو وأمي) لا تصلح للإثبات، لأنها لا تفيد العلم، وهي مجرد أخبار ظنية.
ولا يذهب عليك أن هناك بعض العناوين متى أحرزت لم تحتج في مقام الإثبات إلى تمامية دليل عليها، لأنها تكون من اليقينيات، وعلى رأسها كون الشيء ضرورياً. وهذا يوجب التساؤل، بأن الولادة المباركة للناحية المقدسة(عج)، هل تعدّ من الضروريات، ما يستوجب عدم حاجتها إلى إثبات، لأنها تكون من المسلمات، أم لا؟
ضروري الدين وضروري المذهب:
ومن الواضح جداً، أن ذلك يستوجب الإحاطة أولاً بحقيقة الضروري، وتحديد المقصود منه، ومعرفة أقسامه، ثم تطبيق المورد عليه ليرى إن كان يصلح ليكون صغرى من صغرياته أم لا.
وليس خافياً على القارئ مدى أهمية البحث المذكور أعني تحديد حقيقة الضروري، والتشعبات التي يحويها، ولذا نحاول الاقتصار قدر المستطاع على ما لا يوجب الخروج بالبحث عن مساره الذي عقد له، فنقول:
لم تتضمن الكتب اللغوية بياناً لحقيقة الضروري بما يكون متناسباً والمقام، وهذا يحول دون الاستفادة مما جاء فيها حول ذلك.
كما أن كتب قدماء الفقهاء(رض) كالمفيد والمرتضى، والشيخ(ره)، وغيرهم، قد خلت من ذكر ضابطة واضحة لبيان حقيقة المفهوم المذكور. بل إن الموجود في كلماتهم استعمال لفظة: المعلوم من الدين. والظاهر أن أول استعمال للفظة الضروري كان في عصر المقدس الأردبيلي(ره)، وجرى الأعلام(رض) على ذلك بعده.
وقد تعددت التفسيرات الواردة في كلمات الفقهاء بياناً لحقيقة الضروري، والقيود المعتبر توفرها فيه، فقد ذكر الفقيه الهمداني(ره) في مصباحه أن الضروري هو كل ما كان ثابتاً في الشريعة من وجوب الصلاة والزكاة والصوم والحج ونحوها من الضروريات التي لا تكاد تختفي شرعيتها على من تدين بهذا الدين[6].
وجاء في كلام بعض الأعاظم(ره) أنه ما كان من جملة الواضحات[7].
ومن أفضل التعريفات التي ذكرت بياناً لحقيقته، ما جاء في كلام فقيه عصره المرجع الديني السيد الكلبيكاني(ره)، فقد ذكر أن مفهوم الضروري عند الفقهاء، لا يختلف عما جاء في كلام المناطقة، ذلك أن المناطقة قد قسموا القضايا إلى نظرية وضرورية، وقد عرفوا القضية الضرورية بأنها التي لا تحتاج في إثباتها إلى ترتيب قياس، وإقامة دليل وبرهان، مثل قولهم: النار حارة، فإن حرارة النار لا تحتاج دليلاً ولا برهاناً على ثبوتها. وهذا بنفسه هو المقصود من الضروري في البعد الديني أيضاً، وعليه، فكل حكم اعتقادي، أو عملي فرعي في الإسلام، لم يحتج في إثبات أنه من الإسلام ومن تشريعاته، وقوانينه إلى دليل، فهو ضروري، كوجوب الصلاة، ووجوب الحج، ووجوب الصوم، وما شابه، وكثبوت الجنة والنار، وهكذا.
وقريب من التعريف الذي ذكره السيد الكلبيكاني(ره)، ذكر العلامة المجلسي(ره)، حيث قال في تعريف الضروري بأنه: ما لا يكون فيه اختلاف بين جميع الأمة من ضروريات الدين التي لا يحتاج العلم بها إلى نظر واستدلال.
ويبقى تحديد الفئة التي ينطبق عنوان الضروري عندها، فليس معيار ذلك ثبوته عند فئة معينة من المسلمين، وإلا لزم أن يكفّر كل فئة الفئة الأخرى، بل المدار في كون الشيء ضرورياً أن يكون ثابتاً عند المعظم من عامة المسلمين. وهذا يعني أن المطلوب في صدقه خارجاً أن يكون ثابتاً عند عامة الناس، فليس مجرد الاختلاف بين فئة من المسلمين مع فئة أخرى يوجب خروج الفئة المعينة من الإسلام، ومنه يتضح أن ما يقوم به أتباع الفرقة الوهابية، من تكفير المسلمين لمجرد زيارتهم قبر النبي الأكرم محمد(ص)، والأئمة الأطهار(ع)، أو التوسل بهم، أو غير ذلك، ليس صحيحاً، لعدم عدّ ذلك من الضروريات التي توجب مخالفتها المروق من الدين.
ولا يخفى أن الشيء لا يكون ضرورياً مباشرة، وإنما يكون في بداية الأمر شيئاً من المجعولات والقوانين الإسلامية، التي يدل عليها دليل شرعي، فيعرف أنه ثابت في الدين، ثم يتدرج حتى يبلغ ليصبح ضرورياً، ويتم ذلك من خلال أمور عدة، تساعد على ذلك:
منها: أن يكون محط عناية الشارع المقدس واهتمام كبير يدل على التأكيد عليه، ويتجلى ذلك من خلال كثرة الحديث عنه، وجعله عنصراً محورياً في أغلب التكليفات السماوية، كالصلاة على سبيل المثال، فإن المتابع للآيات الشريفة، يقف على أنه لا يكاد يتحدث عن التكليف، إلا وجعلت الصلاة عنصراً أساسياً في الخطاب.
ومنها: قيام الأدلة الواضحة بنحو كلي عليه، من الكتاب العزيز والسنة الشريفة، دون أن يكون هناك ما يعارضها من الأدلة المماثلة.
ومنها: أن يستفاد من الأدلة الدالة على الموضوع بأنه من الشعائر والركائز الدينية.
وليست الضروريات على مستوى واحد، بل هي من المفاهيم المشككة، فيختلف ضروري عن ضروري آخر، فالصلاة مثلاً من الضروريات الفقهية، إلا أنه لا يجعل في عرضها أي عنوان من العناوين الفقهية الأخرى التي ثبتت ضروريته، بل هي مقدمة عليه، وأعلى رتبة منه.
تقسيم الضروري:
وينقسم الضروري إلى قسمين، لأنه قد يكون ضروري الدين، وقد يكون ضروري المذهب، ويفرق بينهما:
أن ضروري الدين عبارة عن: ما يكون التدين به وعدم إنكاره شرطاً في تحقق الإسلام.
وأما ضروري المذهب، فهو الذي يكون الاعتقاد به وعدم إنكاره شرطاً في الانتماء للمذهب، كالرجعة على سبيل المثال، والنكاح المنقطع، والبداء كما لا يبعد ذلك.
ومن المعلوم أن الولادة الميمونة للمنقذ(روحي فداه)، ليست من ضروريات الدين قطعاً، لأنه لا يتصور البناء على كفر من أنكرها ما دام معترفاً بنبوة النبي الأكرم محمد(ص)، ومصدقاً برسالته، وهل أن ولادته الشريفة تعدّ من ضروريات المذهب أم لا؟
الظاهر أن ولادته الشريفة(بأبي هو وأمي) تعدّ من ضروريات المذهب، بمعنى أنه(ع) قد ولد، وأنه حي يرزق، وأنه من ولد الإمام الحسن العسكري(ع)، وأنه الإمام الثاني عشر، وقد غاب لمصلحة اقتضت ذلك. وعليه، فقد يقال بأن كل من أنكر ولادته، فإنه خارج من ربقة المذهب، وإن لم يكن خارجاً من ملة الإسلام.
وتمامية ما ذكر، تعتمد على أن تكون الولادة المباركة من أصول المذهب، لأن ما يوجب الخروج من المذهب إنكار ما كان من أصوله، وليس مطلق إنكار ما يعتقد به فيه. فيلزم احراز أن الشيء من أصول المذهب، وأنه يعتبر في الإيمان بالمعنى الأخص، فما لم يكن معتبراً فيه، لا يكون انكاره موجباً للخروج من المذهب[8].
والظاهر، أنه لا مجال للتشكيك في أن ولادته الشريفة(روحي له الفداء) تعدّ من أصول المذهب، بل تعدّ من ضرورياته، وأن من أنكره كان خارجاً منه، وليس متصفاً بالإيمان بالمعنى الأخص.
ولا ريب في أن الاعتقاد به(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، وأنه المصلح الغيبي الذي سيكون في آخر الزمان ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً جوراً، من ضروريات الدين، وأنه لا مجال لإنكارها، وهذا مما اتفقت عليه كلمة المسلمين جميعاً، وإنما وقع الخلاف بينهم في أنه ولد(روحي فداه)، أو أنه سيولد في آخر الزمان، ومن الواضح أن هذا لا ينفي الاعتقاد به(عج).
ثم إنه لو منع من أن يكون الاعتقاد بتحقق ولادته الشريفة من ضروريات المذهب، بحيث لا يحتاج إثباتها إلى دليل وبرهان، لما عرفت ذلك في حقيقة الضروري، وذلك للزوم التفريق بين وجوده الشريف، وهو ما يكون ضرورياً، وبين ولادته الميمونة، فلا تكون كذلك، عندها سوف يكون الأمر محتاجاً إلى إقامة الدليل والبرهان على تحقق الولادة، وأحد طرق إحرازها ملاحظة الأخبار الدالة على تحققها خارجاً، وعندها يأتي ما أفاده بعض الأساتذة(وفقه الله)، من عدم صلاحية المنهج السندي للإثبات وعدمه.
على أنه قد يفرق أيضاً بين الولادة وطريق إثباتها، فيبنى على أن الولادة من ضروريات المذهب، دون طريق إثباتها، أعني الأخبار مثلاً، وعليه، لابد من ملاحظة الدليل الدالة على إثباتها، وهو النصوص.
تقسيم الأخبار:
وقبل أن يعمد إلى ملاحظة النصوص الدالة على إثبات ولادته(عج)، لابد من الإحاطة بأنواع النصوص الموجودة في المصادر الحديثية، فقد قسم علماء الحديث والدراية، وكذا علماء الأصول الأخبار إلى ثلاثة أقسام:
الأول: الخبر المتواتر:
وقد عرف في كلماتهم بأنه: الخبر الذي قد بلغ عدد رواته في كل طبقة طبقة حداً يستحيل فيها تواطؤهم واتفاقهم على الكذب بحسب العادة.
ومقتضى التعريف المذكور، أنه يأخذ في تحققه خارجاً ملاحظة العدد في كل طبقة طبقة، وقد أوجب هذا وقوع الاختلاف بينهم في العدد اللازم توفره حتى يحكم بوجوده خراجاً. نعم يظهر من بعض الأكابر(قده)، أنه يمكن تحصيل التواتر من خلال حساب الاحتمال الرياضي والعوامل المؤثرة على ذلك، مع ملاحظة الكثرة العددية، وأنه ليس المدار في تحققه عليها فقط، بحيث يكون التركيز على العدد في كل طبقة طبقة عنصراً مقوماً في تحقق المفهوم، وتفصيل ذلك يطلب من محله[9].
أقسام التواتر:
والمعروف قبل المحقق الخراساني صاحب الكفاية(ره) أن التواتر على قسمين:
الأول: التواتر اللفظي: وهو الإخبار الصادر من جماعة عن قضية معينة يوجب العلم بحصولها وتحققها، وقد يكون الإخبار بلفظ واحد كما لو حصل الإخبار عن كرم حاتم، وقد يكون الإخبار بألفاظ مترادفة مثل: جواد، سخي، وما شابه ذلك. ومن أمثلته حديث الغدير.
الثاني: التواتر المعنوي: وهو اخبار جماعة بألفاظ مختلفة مع اشتراك كل منها على معنى مشترك بينها، سواء كان ذلك المعنى المشترك مدلولاً عليه بالدلالة المطابقية، أم بالدلالة التضمنية، أم بالدلالة الالتـزامية. ومن أمثلة التواتر المعنوي المدلول عليه بالدلالة الالتـزامية الأخبار الواردة في شجاعة أمير المؤمنين(ع)[10].
وقد أضاف إليهما المحقق الآخوند(ره) قسماً ثالثاً، وهو التواتر الإجمالي: ومعناه أن ينقل جماعة كثير أخباراً كثيرة متعددة ومختلفة في اللفظ والمعنى والمدلول، لا تشترك فيما بينها لا في المدلول المطابقي، ولا المدلول التضمني، ولا المدلول الالتـزامي، فهي لا تخبر عن ألفاظ معينة، ولا عن مضمون واحد، إلا أن هناك يقيناً بصدق بعضها، وصدوره، ولا يمكن أن تكون كلها كاذبة، نعم هذا المعلوم الصدق والصدور ليس مشخصاً وواضحاً بعينه، بل هو معلوم بالإجمال.
وقد وقع هذا القسم مورد خلاف بين الأعلام، فقد عرفت أن أول من أسسه وأبتكره هو صاحب الكفاية(ره)، ولم يقبله تلميذه المحقق النائيني(ره)، وقد قبله تلميذ المحقق النائيني(ره)، أعني السيد الخوئي(قده)، وإن لم يقبله بعض تلامذة السيد الخوئي(ره).
عدم مانعية ضعف الأسناد من حصول التواتر:
وقد يتوهم أن ضعف الرواة الواقعين في السند يعدّ مانعاً من تحقق التواتر بأي نحو من أقسامه الثلاثة، فيلزم وثاقتهم لتحققه خارجاً، فما لم يكونوا ثقات لم يحكم بتوفره.
والصحيح أنه لا يعتبر في تحققه وثاقة الرواة الواقعين في الأسناد، بل يحكم بحصوله بأي قسم من الأقسام الثلاثة حتى لو كانوا ضعاف، وذلك لما عرفت أن المدار بنظر المشهور، على ملاحظة العدد الذي يمتنع عادة تواطؤهم واتفاقهم على الكذب.
الثاني: خبر الآحاد المحفوف بالقرائن القطعية الدالة على صدوره:
وهذا من حيث الحجية لا يختلف حاله عن الخبر المتواتر، فكما أن الخبر المتواتر يفيد العلم، كذلك هذا القسم يفيده أيضاً.
ويختلف هذا القسم عن سابقه، أنه لا يعتبر في إفادته العلم تعدد الرواة في كل طبقة طبقة، فإنه قد يحصل العلم منه مع كون الراوي فيه شخصاً واحداً بعدما توفرت القرائن الموجبة لإفادة العلم واليقين.
وقد تضمنت كلمات الأعلام ذكر جملة من القرائن التي تكون موجبة لتولد اليقين والاطمئنان بالصدور ،يمكن طلبها، من البحوث الدرائية والحديثية، والأصولية.
الثاني: خبر الواحد المجرد عن القرينة:
ويقصد منه الخبر الذي لا يكون مفيداً للعلم، واليقين، سواء كان المخبر فيه شخصاً واحداً، أم كان أكثر من ذلك.
وقد وقع الخلاف بين الأعلام في حجية هذا القسم من الأخبار، فانقسموا إلى قولين:
الأول: وهو المشهور بين فقهاء الطائفة، من البناء على عدم حجية خبر الواحد إلا إذا كان محتفاً بقرائن توجب الوثوق والاطمئنان بصدوره، وإلا فلا. ويعرف هذا المسلك بمسلك الوثوق. والمعتبر فيه هو الوثوق النوعي، فلا يكفي حصول الوثوق الشخصي في الحجية.
الثاني: ما أختاره السيد الخوئي(ره)، وتبعه بعض تلامذته، من البناء على جعل الحجية لخبر الثقة، فتحرز أصالة الصدور بوثاقة الرواة الواقعين في سند الرواية، وطريقها. ومتى كان الخبر خبر ثقة أصبح حجة، وأمكن الاستناد إليه حال سلامة المضمون، وعدم وجود مانع من القبول بمتنه[11].
ويعرف هذا القول بمسلك الوثاقة، وهو يقوم على ملاحظة السند، وهو الذي عبر عنه السيد الأستاذ(حفظه الله)في ما أثار من إشكال بالمنهج السندي.
حجية خبر الواحد:
ثم إنه بعد الفراغ عن عرض أنواع النصوص الموجودة في المصادر الحديثية بحيث قد تمت الإحاطة بكبرى ذلك، يلزم ملاحظة صلاحية نصوص الولادة الميمونة الواردة في المصادر الحديثية كالكافي أو البحار لتكون صغرى أي واحد منها.
تطبيق الصغرى:
والظاهر أنه لا يوجد ما يمنع من البناء على أن النصوص الواردة في هذين المصدرين مما أشير إليهما في كلام بعض الأساتذة(وفقه الله) من التواتر الإجمالي، وقد عرفت حقيقته والمقصود منه، وهذا يعني استغناءها عن الملاحظة السندية، لأن مقتضى كون الخبر متواتراً، هو إفادته للعلم الموجب لاستغنائه عن الملاحظة السندية.
ولا مجال في البين للإشكال، بعدم توفر التعدد في كل طبقة طبقة المأخوذ في حقيقة التواتر، لأن الظاهر أنه لا يعتبر ذلك في التواتر الإجمالي، فتأمل جيداً.
وبالجملة، لا يوجد ما يمنع من البناء على تحقق القسم الثالث من أقسام التواتر، وهذا يجعل الإيراد المذكور، في غير محله.
نعم لو قيل: بأنه لم يثبت وجود القسم الثالث من أقسام التواتر، كما أختار ذلك بعض الأكابر(ره).
قلنا: بأن هذا نقاش صغروي، والمفروض أن بعض الأساتذة(وفقه الله) بصدد تسليط الضوء على المنهج السندي المتبع عند السيد الخوئي(ره)، وقد عرفت بناء السيد الخوئي(ره) على ثبوت التواتر الإجمالي.
بل إنه لا يبعد البناء على كفاية نصوص الكافي فقط، التي قد عرفت أن عددها يبلغ واحد وثلاثون حديثاً للبناء على حصول التواتر الإجمالي، لأن الكثرة في كل مورد بحسبها.
نعم قد يصعب البناء على تحقق التواتر بقسميه الآخرين في خصوص نصوص هذا الباب أعني ما جاء في الكافي تحت عنوان باب ولادة الصاحب، لأنه لا يحرز تعدد الرواة في كل طبقة طبقة الموجب لحصول التواتر. نعم لا يبعد توفر ذلك وفق مختار بعض الأكابر(ره) في الاستفادة من حساب الاحتمال الرياضي مع ملاحظة البعد الكمي للرواة دون تحديد لعدد معين. وكذا يجري ذلك أيضاً بالنسبة لما جاء في بحار الأنوار.
نعم يمكن البناء على تحقق التواتر المعنوي بملاحظة بقية النصوص الأخرى المتفرقة التي وردت في الأبواب الأخرى، سواء في الكافي أم في البحار، أم التي وردت في المصادر الحيثية الأخرى، كغيبتي النعماني، والشيخ، وكمال الدين وتمام النعمة، وغيرهم.
ودعوى بعض الأساتذة(وفقه الله)، أنه لا ينبغي الخلط بين النصوص، فلا يضم بعضها، لعدم وحدة الموضوع فيها، فيلزم التفريق بين كل طائفة طائفة بلحاظ ما تتحدث عنه، فالنصوص المتحدثة عن الولادة، لا يمكن أن تضاف للنصوص التي تتحدث عن وجوده الشريف، وكذا لا يمكن ضم نصوص الغيبة، وأنهما غيبتان مثلاً، إلى نصوص السفارة والمشاهدة، وهكذا.
مدفوعة، بأن ذلك لو تم في بعض النصوص بلحاظ أنها أعم من المدعى، كالنصوص التي تتحدث عن ظهوره في آخر الزمان، وأنه يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، إلا أنه لا يتصور جريانه في النصوص التي تتحدث عن ملاقاة السفراء الأربعة(رض) به، أو النصوص التي تتحدث عن التوقيعات الصادرة عنه، وهكذا، لأن هذه موضوعها هو أنه(بأبي وأمي) مولود، وأنه موجود بين ظهراني الأمة، وهذا يتحد مضموناً مع نصوص الكافي الواردة في باب ولادة الصاحب(عج) كما لا يخفى، وكذا مع ما جاء في بحار الأنوار.
بل لو قيل بتوفر التواتر اللفظي، لترادف الألفاظ الدالة على تحقق ولادته الشريفة(روحي لحافر جواده الفداء)، لم يكن بعيداً، فتأمل جيداً.
ثم إنه لو منع من حصول التواتر في النصوص المذكورة بأي نحو من الأقسام الثلاثة، فإنه لا ريب في تحقق القسم الثاني من أقسام الأخبار، وهو خبر الواحد المحفوف بالقرائن القطعية، إذ أن وجود الرواية في الكافي، وكثرة عدد الروايات الواردة في ذلك، وموافقتها لأصول المذهب، وقواعده، وعمل الأصحاب منذ القديم على وفقها، كلها قرائن توجب الوثوق والاطمئنان بالصدور، فيعمل على وفقها، وهذا يعني أن الضعف السندي على فرض تحققه، لا يكون مانعاً من البناء على الاستناد.
وأن أبيت إلا المنع من صلاحية القرائن التي ذكرنا لتولد الاطمئنان بالصدور الموجب للاستناد، والبناء على أن هذه النصوص لا تخرج عن كونها أخبار آحاد لا تفيد أكثر من الظن، فإن بني على حجيتها كانت من الظن المعتبر، وإلا فلا، ولا يصلح خبر الواحد للاستناد إليه في الأمور العقدية. كان هذا موجباً للبحث عن المسائل العقدية، وأنها كلها بنحو واحد، من حيث اعتبار توفر العلم فيها أم لا، وعدم جريان خبر الاحد، من عدمه.
تنويع المسائل العقدية:
ولا بأس قبل العمد إلى عرض ذلك من الإشارة إلى أنه هل يعتبر حصول العلم في كل مسألة مسألة عقائدية، أم يعمد إلى التفصيل فيها؟
لا ريب في اعتبار حصول العلم والتدين في المسائل العقائدية الأصلية التي تعرف بأصول الدين على الاختلاف الموجود في عددها، وقد أوجب هذا اعني اعتبار العلم والتدين جعل ذلك هو المعيار في كون المسألة أصولية عقائدية.
وهناك مسائل عقدية، لا يعتبر فيها تحصيل المعرفة، ولا يجب فيها العلم، بل ولا يجب فيها حصول التصديق والتدين لو حصل العلم بها، نظير تفاصيل البرزخ، وعذاب القبر، وتفاصيل الميزان، وكذا تفاصيل الصراط، وهكذا.
ومقتضى ما تقدم، هو انقسام المسائل العقدية إلى قسمين يختلفان من حيث اعتبار توفر العلم في أحدهما، واشتراط وجود التدين والاعتقاد دون الآخر، وأنهما ليسا على حد سواء.
ثم إنه لو بني على أن مسألة الولادة المباركة للناحية المقدسة(بأبي هو أمي) مسألة عقدية، فمن أي القسمين، من القسم الأول، أم من القسم الثاني؟
لا اشكال في أنها سوف تكون من مسائل القسم الثاني، وليست من مسائل القسم الأول، فلا تعدّ من المسائل الأصلية العقدية، وإنما هي نظير التفاصيل الملحوظة في الجنة والنار، وكذا تفاصيل عذاب القبر، والبرزخ وما شابه ذلك، ونظائر ذلك في الأمور العقائدية كثيرة.
جريان خبر الواحد في المسائل العقدية غير الأصلية:
ومع البناء على أنها من القسم الثاني من المسائل العقدية، فهل يلزم في ثبوتها حصول العلم، أم أنه يكفي فيها الظن المعتبر، وبكلمة، هل يلزم أن يكون ثبوتها من خلال النصوص المتواترة، فلا يكفي في ثبوتها وجود أخبار الآحاد المجردة عن القرينة الدالة على الوثوق بالصدور، أم أنه يكفي في ثبوتها ذلك؟
وقع الخلاف بين الأعلام(رض) في ذلك، وانقسموا إلى فريقين، تولد عنه قولين، أحدهما البناء على كفاية خبر الواحد في ثبوت المسائل العقدية حتى غير الأصلية، وأختار جملة من الأعيان كالشيخ الأعظم الأنصاري(ره)، كفاية ذلك، وقد ذكر المانعون أموراً توجب عدم صلاحيتها للاستدلال، أشير لبعضها، والمرجو من القارئ العزيز الرجوع للمطالب الأصولية:
منها: عدم صلاحية ما دل على حجية خبر الواحد في الأحكام الفرعية للدلالة على كفايته في المسائل العقدية، ولذلك تقريبان:
أحدهما: الاستناد إلى الانصراف، فيقرر أن ما دل على حجيته هناك منصرف إلى خصوص الأحكام الفرعية العملية، لأن الدليل المذكور قد أخذ فيه قيدية التعلم، ومن الواضح أن ما يقبل التعلم هو خصوص الأحكام الفرعية، لأن ذلك يكون مقدمة للعمل، أما تفاصيل العقائد فلا تقبل ذلك حتى يجب العمل بها، فيكون تعلمها مقدمة لذلك.
ثانيهما: قد عرفت في محله أن معنى الحجية في خبر الواحد، هو المنجزية والمعذرية، ومن المعلوم أن مصبهما هو الثواب والعقاب، وهذا لا معنى له في المسائل العقدية، لعدم دورانها مدار الثواب والعقاب، وعليه لن تصلح أدلة حجية خبر الواحد للدلالة على ذلك.
ومنها: إن عمدة الدليل المستند إليه في إثبات حجية خبر الواحد هو سيرة العقلاء، لبنائهم على ذلك، ولم يحرز بناء العقلاء على العمل بخبر الواحد في الأمور العقدية، ومع الشك في ثبوت البناء المذكور، فإنه يعمد إلى منعه، لأن السيرة دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن.
وقد تضمنت كلمات القائلين بحجية خبر الواحد في الأمور العقدية إجابة عن هذين الدليلين الذين ذكرنا، وغيرهما من الوجوه المستند إليها، لكننا نعرض عن ذكرها لكون ذلك مطلباً تخصيصاً بحتاً، يطلبه من يريده من مظانه.
ولما كان كلام بعض الأساتذة(وفقه الله) في المورد مناقشة للمنهج السندي المتبع من قبل السيد الخوئي(ره)، وهذا يستوجب الإحاطة بمختاره(ره) في المسألة، وأنه من المانعين من كفاية خبر الواحد في المسائل العقدية، أم أنه يبني على كفايته في إثباتها؟
والصحيح أنه من القائلين بكفاية ذلك، وأنه يختار ما أختاره الشيخ الأعظم(ره)، قال(قده): وأما إن كان الظن متعلقاً بما يجب التباني وعقد القلب عليه، والتسليم والانقياد له، كتفاصيل البرزخ، وتفاصيل المعاد، ووقائع يوم القيامة، وتفاصيل الصراط والميزان، ونحو ذلك مما لا تجب معرفته، وإنما الواجب عقد القلب عليه والانقياد له على تقدير إخبار النبي(ص) به، فإن كان الظن المتعلق بهذه الأمور من الظنون الخاصة الثابتة حجيتها بغير دليل الانسداد فهو حجة، بمعنى أنه لا مانع من الالتـزام بمتعلقه وعقد القلب عليه، لأنه ثابت بالتعبد الشرعي، بلا فرق بين أن تكون الحجية بمعنى جعل الطريقية كما اخترناه، أو بمعنى جعل المنجزية والمعذرية كما اختاره صاحب الكفاية(قده)[12].
ومقتضى ذلك أنه لن يكون ما أراده الأستاذ(حفظه الله)، في محله، وذلك لأن السيد الخوئي(ره) كما سمعت قائل بكفاية خبر الواحد المعتبر في المسألة العقائدية غير الأصلية، وقد عرفت أن مسألة الولادة ليست من الأصول، وهذا يعني كفاية خبر الواحد المعتبر فيها.
والعجيب غفلة الأستاذ(وفقه الله) عن هذا، وإيراده الإيراد المذكور، والعصمة لأهلها.
خاتمة:
ثم إن جميع ما تقدم ذكره من حديث مع بعض الأساتذة(دام عطائه)، قائم على أن مسألة إثبات الولادة مسألة عقائدية، وبالتالي يأتي جميع ما تقدم.
أما لو بني على أن مسألة إثبات الولادة المباركة للناحية المقدسة(روحي لتراب حافر جواده الفداء)، مسألة تاريخية، فسوف يختلف الأمر تماماً. لأنه يعتبر في المسألة العقدية أن تكون ثابتة بطريق معتبر بعد كفاية خبر الواحد فيها في غير المسألة الأصلية، وهذا ليس معتبراً في المسألة التاريخية، إذ يكفي أن تكون القضية التاريخية مشهورة، ليبنى على ثبوتها.
ومع التأمل في شهرة القضية، فإنه يكفي أن تكون واردة في كتاب معتبر تام النسبة لمؤلفه، دون اختلاف فيه، ولا تكون مشتملة على شيء من الأمور المنافية للعقيدة، من منصب النبوة، والإمامة والعصمة، وما شابه ذلك.
ولا يتصور أن يتوهم أحد أن تكون النصوص المشار إليها في كلام الأستاذ(حفظه الله) والتي وردت في كتاب الكافي، تتضمن ما ينافي المسألة العقدية، وهذا يعني أنه يصح الاستناد إليها، ولو لم تكن تامة الأسناد، لأن الموضوع قضية تاريخية.
ولا يكاد ينقضي تعجبي من السيد الأستاذ، وهو الفطن كيف غابت عنه هذه المسألة، حتى قام يناقش فيها بما ذكره. لكن العصمة لأهلها.
[1] مرآة العقول ج 6 ص 170-201.
[2] زبدة الكافي ج 1 ص 60.
[3] بحار الأنوار ج 51.
[4] مشرعة البحار ج 2 ص 208.
[5] المصدر السابق.
ذكرها السيد الخوئي(ره) في المعجم، مقتصراً على ذكر روايتين لها، إحداهما ما جاء في الكافي من رؤيتها للصاحب(روحي فداه ليلة ولادته.
والثانية، ما جاء في كمال الدين، من أنها هي التي تولت أمر السيدة نرجس(ع).
ومقتضى ما ذكر أن تكون(ع) مجهولة الحال.
ولا يخفى أن البناء على وثاقتها ليس من الصعوبة بمكان، لأنه فرق بين أن يكون الراوي مجهولاً لعدم ذكر الرجاليـين له، وبين أن يكون مجهولاً لتعارض أقوالهم فيه، ومن الواضح أن المقام من النحو الأول.
على أنه يمكن البناء على وثاقته وفق مختار شيخنا التبريزي(قده) المعاريف، لو قبل به.
[6] مصباح الفقيه ج 7 ص 269-270.
[7] التنقيح في شرح العروة ج 2 ص 67.
[8] لا يذهب عليك أن انكار شيء من ضروريات الدين موجبة للخروج من المذهب بطريق أولى، لأنها توجب الخروج من الدين.
[9] الحلقة الثالثة إثبات صغرى الدليل الشرعي بحث التواتر.
[10] منتهى الدراية ج 4 ص 422.
[11] لا يذهب عليك أنه يعتبر في حجية الخبر توفر أصالات ثلاث:
الأولى: أصالة الصدور، وهي التي تكون مرتبطة بالسند.
الثاني: أصالة الظهور، وهذا ذات علاقة بمتن الخبر، ومضمونه، ولا يكفي لحجية خبر ما صحة سنده واعتباره، بل لابد من سلامة مضمونه أيضاً.
الثالث: أصالة الجهة، وهي أن يكون الخبر صادراً بنحو الجد والإرادة، وليس صادراً هزلاً أو تقية أو ما شابه ذلك.
[12] موسوعة الإمام الخوئي(ره) ج 47 ص 276-277.