س: اتخذت الحكومة السعودية إجراء يمنع دخول الحجيج السعوديـين إلى مكة المكرمة لأداء مناسك الحج ما لم يكونوا حاملين تصريحاً يصدر عنها يقضي بجواز دخول حامله، أو لا يكون الشخص لابساً ثوبي الإحرام، بل يكون لابساً المخيط.
ولما كان جملة من الحجيج لا يملكون تصاريح، إما لعدم استحقاقهم إياها، لعدم انطباق شروط الاستخراج عليهم، أو لعدم سعيهم إلى استخراجها، بصورة مباشرة، أم بواسطة، لذا صاروا يلبسون المخيط ويدخلون به لأداء المناسك. والسؤال، إذا لبس المحرم المخيط والحال هذه هل يجب عليه الكفارة أم لا؟…
ج: لا يخفى أن المحتملات في المسألة ثلاثة:
الأول: أن يكون لبسه للمخيط عن عمد واختيار.
الثاني: أن يكون لبسه المخيط من باب الاضطرار.
الثالث: أن يكون لبسه المخيط من باب الإكراه.
أما بالنسبة للمحتمل الأول، فالحكم فيه واضح، لأن لبس المخيط من محرمات الإحرام على الرجال المنصوص عليها في كلمات الفقهاء، وتجب فيها الكفارة.
وأما المحتمل الثاني، فقد اختلف فقهائنا في ثبوت الكفارة على اللابس وعدمها، فقيل بالثبوت، إما فتوى وإما احتياطاً، وقيل بعدم ثبوتها في حقه.
وأما المحتمل الثالث، فقد اتفق الفقهاء على عدم ثبوت الكفارة فيها عليه.
وما تقدم من عرض لبيان حكم كل واحد من المحتملات الثلاثة المتصورة في المسالة، لا خفاء فيه، إنما تكمن المشكلة في أن المسألة محل البحث تندرج تحت أي واحد من المحتملات الثلاثة السابقة، فهل هي من صغريات المحتمل الأول، أم الثاني، أم الثالث.
قد يدعى أنها من صغريات المحتمل الأول، وذلك لأن المحرم يعمد إلى لبس المخيط باختياره وإرادته عامداً، حتى قبل الوصول إلى الجهة المسئولة عن تطبيق النظام، مع احتمال مروره منها دونما مسائلة، وهذا يجعل إقدامه على لبس المخيط من الميقات أو من بعده وقبل نقطة التفتيش، لبساً للمخيط متعمداً، فيأخذ حكمه.
وهو بعيد، ضرورة أنه لا يعدّ فعله المذكور من صغريات العمد، لأنه لو خلي وإرادته وقراره لم يعمد إلى فعل ذلك، وإنما أقدم عليه فراراً من المنع عن دخول مكة المكرمة لأداء المناسك.
وعليه سوف ينحصر الأمر في اندراج المسألة تحت أحد المحتملين الأخريـين، فهو إما اضطرار، أو أكراه.
ولكي يتسنى لنا تحديد اندراجها تحت أي منهما، نحتاج بيان حقيقة كليهما، ومن ثمّ يعمد إلى تطبيقهما على المقام.
معنى الاضطرار:
المضطر: وهو في اللغة عبارة عن الاحتياج إلى الشيء، والإلجاء إليه[1].
وأما في الاصطلاح فلم يحدده الفقهاء في جميع الموارد، نعم حددوه في بحث الأطعمة والأشربة، ولهم فيه تفسيران:
الأول: ما يخاف فيه من تلف النفس.
الثاني: ما يخاف فيه من تلف النفس، أو الطرَف، أو وجود مرض، أو زيادته، أو الضعف المؤدي إلى التخلف عن الرفقة مع الضرورة إليهم ونحو ذلك.
وقد تطور هذا التعريف، فأضيف إليه: الخوف على نفس محترمة غير نفسه، كالحامل تخاف على الجنين، والمرضع تخاف على الرضيع.
وعلى هذا فالمضطر هو من احتاج إلى شيء أو ألجأ إليه، سواء كان منشأ احتياجه وإلجائه إليه هو خوفه على نفس أو حذراً من تلف طرف، أو وجود مرض، وما شابه ذلك. ولذا ذكر بعض الأعاظم(ره) في كتاب الصوم من موسوعته الفقهية أن إفطار الحامل المقرب، سواء كان الخوف على نفسها، أم كان خوفها على جنينها على مقتضى القاعدة[2]، وهو بذلك يشير إلى أنه من مصاديق الاضطرار، فلاحظ.
معنى الإكراه:
وأما الإكراه: وهو في اللغة: حمل الغير على أمر وهو كاره. قال الجوهري: وأكرهته على كذا حملته عليه كُرهاً[3].
وعند التأمل في هذا التعريف اللغوي يمكننا القول أنه يتضمن شروطاً ثلاثة حتى يقال بتحققه خارجاً:
الأول: تحميل المكرَه شيئاً بالتهديد والوعيد.
الثاني: كون ما هدد به المكرَه ضررياً عليه.
الثالث: علم المكرَه بقدرة المكرِه على تنفيذ تهديده ووعيده.
هذا ولم تخـتلف حقيقته في المصطلح الفقهي عن المعنى الذي ورد في كلمات اللغويـين، كما أشار لذلك بعض الأساطين(قده)[4]. وهذا يعني أنه ليس للإكراه حقيقة شرعية.
ولذا قال بعض الأعيان(ره) في تعريفه: الإكراه هو حمل الغير على إيجاد ما يكره إيجاده مع التوعيد على تركه بإيقاع ما يضرّ بحاله عليه، أو على من يجري مجرى نفسه كأبيه وولده نفساً، أو عرضاً، أو مالاً، بشرط أن يكون الحامل قادراً على إيقاع ما توعد به مع العلم أو الظن بإيقاعه على تقدير عدم امتـثاله، بل أو الخوف به وإن لم يكن مظنوناً، ويلحق به موضوعاً أو حكماً ما إذا أمره بإيجاد ما يكرهه مع خوف المأمور من عقوبته والإضرار عليه لو خالفه، وإن لم يقع منه توعيد وتهديد، ولا يلحق به ما لو أوقع الفعل مخافة إضرار الغير عليه بتركه من دون إلزام منه عليه، فلو زوّج امرأة ثم رأى أنه لو بقيت على حباله لوقعت عليه وقيعة من بعض متعلقيها كأبيها وأخيها مثلاً، فالتجأ إلى طلاقها فطلقها يصح طلاقها[5].
وقد جعل المحقق الحلي(ره) للإكراه مقومات ثلاثة يتحقق مفهومه خارجاً متى تحققت:
الأول: قدرة المكرِه على تنفيذ وعيده وتهديده.
الثاني: غلبة الظن عند المكرَه بفعل المكرِه ما توعد به عند امتناع المكرَه.
الثالث: أن يكون المتوعد به ضررياً على المكرَه.
قال(ره): ولا يتحقق الإكراه ما لم يكمل أمور ثلاثة: كون المُكرِه قادراً على فعل ما توعد به، وغلبة الظن بأنه بفعل ذلك مع امتناع المكرَه، وأن يكون ما توعد به مضراً بالمُكرَه في خاصة نفسه، أو من يجري مجرى نفسه، كالأب والولد، سواء كان ذلك الضرر قتلاً، أو جرحاً، أو شتماً أو ضرباً.
ويختلف بحسب منازل المكرَهين في منازل الإهانة. ولا يتحقق الإكراه مع الضرر اليسير[6].
ولو عأردنا أن نتعرف الوجه في اعتبار كل واحد من هذه الأمور الثلاثة، أمكن القول أن موجب اعتبار قيدية الأمر الأول منها هو عدم تصور الإكراه دون وجود هذا القيد، لأنه لو كان المكرَه قادراً على دفع الضرر عن نفسه، أو لم يكن المكرِه قادراً على تنفيذ وعيده، لم يتحقق مفهوم الإكراه أصلاً.
كما أن الوجه في اعتبار ثالث الشروط، هو عين ما تقدم في اعتبار أولها، أي أنه لا يتصور حصول الإكراه ما لم يكن هناك ضرر على المكرَه، ولو كان ضرراً يسيراً.
نعم الكلام في اعتبار الأمر الثاني، وصريح عبارة بعض الأعيان(قده) التي نقلناه قبل قليل واضحة في عدم اعتباره، مع أن المحقق الحلي، وكذا الشيخ الأعظم(ره) يلتـزمان باعتباره، ولعل الوجه في عدم الاعتبار والاكتفاء بالخوف العقلائي، هو صدق عنوان الإكراه حينئذٍ في هذا المقدار، فلا حاجة للترقي كما هو مقتضى الاعتبار، فتأمل.
ويمكن التمسك لعدم الاعتبار بمعتبر أو مرسل عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: سمعته يقول: لو أن رجلاً مسلماً مرّ بقوم ليسوا بسلطان فقهروه حتى يتخوف على نفسه أن يعتق أو يطلق ففعل، لم يكن عليه شيء[7].
هذا ويعتقد الكثيرون أن الإكراه ينحصر في خصوص الإجبار، مع أنه فرد من أفراده، وهو-الإجبار-أخص منه، ويمكن التفريق بينهما من خلال أن الإجبار لا يكون متضمناً قصداً عند الإقدام على الفعل المجبر عليه، كمن أجبر على الإفطار بأن أمسكه اثنان أو أكثر وقاموا بجعل الطعام في حلقه. أما المكره، فإن الفاعل يكون عند فعله ما أكره عليه قاصداً للفعل، كمن أكره على طلاق زوجته إرضاء لأبيه مثلاً، فإنه أقدم على ذلك دونما إجبار من قبل والده له على ذلك.
الفرق بين الإكراه والاضطرار:
ومن خلال ما تقدم بياناً لحقيقتي الاضطرار والإكراه، يتضح لنا أن الإكراه لا يكون إلا من خلال وجود مكرِه للمكرَه، كمن أكرهه الظالم على دفع مبلغ من المال إليه، فإن إقدامه على ذلك يكون بسبب وجود من يكرهه على ذلك. وهذا يعني أن حقيقة هذا المفهوم تتوقف على وجود المكرِه. ولا ينحصر الإكراه كما عرفنا فيما تقدم في الإجبار، فلا تغفل.
وهذا بخلاف الاضطرار، فإنه لا يتوقف في تحقق معناه على وجود من يوقع المضطر في اضطراره، كحركة المرتعش، وكذا لو صدر منه الضرب للغير بيد الغير من دون قصد منه لذلك ولا إرادة. وهذا يعني أن هنا سعة في مفهومه. كما أن الاضطرار يتقوم بالاحتياج فما لم يكن هناك احتياج لا يكون اضطرار.
نعم قد يكون في الاضطرار إيعاد من الغير، لكنه ليس إكراهاً، فلا ينبغي الخلط بينهما، توضيح ذلك:
قد يحتاج الإنسان حاجة شديدة إلى الطعام تجبره على بيع داره من أجل دفع ذلك الجوع عنه، أو يقدم على بيع داره من أجل أداء دينه، أو من أجل أن يدفع ظالماً يطالبه مالاً من دون بيع داره، فهنا يقدم على بيع الدار في الحالات الثلاث، وفي جميعها لا يقال بأن هذا من الإكراه، لأن كان صادراً من حاجة، ومن دون ضرر مترتب عليه، فلاحظ.
والحاصل، إن الذي ذكرناه في بيان الفرق بين الاضطرار والإكراه أشير له في كلمات الشيخ الأعظم(قده)، حيث قال: فيكون الفرق بينه(الإكراه)وبين الاضطرار المعطوف عليه في ذلك الحديث اختصاص الاضطرار بالحاصل لا من فعل الغير، كالجوع والعطش والمرض[8].
وواضح جداً أن كلام شيخنا الأعظم(ره) يؤكد ما كنا نصر عليه فيما مضى من أن الإكراه لا ينحصر في خصوص الإجبار، وإنما هو مصداق من مصاديقه، ذلك لأننا لو قلنا بأن الإكراه هو الإجبار، فذلك يعني عدم بقاء فرق بينه وبين الاضطرار، فتدبر.
هل يعتبر عدم القدرة على التفصي:
ثم إن أصحابنا اختلفوا في أنه لكي ينطبق مفهوم الإكراه خارجاً هل يعتبر فيه عجز المكلف على التفصي والتخلص عن ما أكره عليه، ولو بتورية أو بغير أم لا يعتبر ذلك، أقوال بينهم، أختار الشيخ الأعظم(ره) البناء على عدم مدخلية التمكن من التخلص عن إيعاد المكره، لا في مفهوم الإكراه، ولا في حكمه الشرعي، مما يعني أن الإكراه يصدق بمجرد تحميل الغير، وإيعاده الضرر على المكرَه، سواء تمكن من التخلص أم لم يتمكن، كما أن حكمه الشرعي يرتفع بذلك أيضاً.
تطبيق المفهوم على المصداق:
هذا وبعد الفراغ عن بيان حقيقة مفهومي الاضطرار والإكراه، ينبغي العمد لتطبيق أحدهما على المسألة محل البحث، فيقال:
إن التأمل في ما تقدم بياناً للمفهومين يقضي بكون المورد من صغريات الإكراه دون الاضطرار، وذلك لأنه قد عرفت أن أحد مقومات الإكراه وجود المكرِه بخلافه في الاضطرار، فضلاً عن أن المكرَه كما ذكرنا يعمد إلى الفعل قاصداً ومريداً دونما إلجاء ولا حاجة، وهذا بخلافه في الاضطرار، مضافاً إلى التهديد والوعيد-خلافاً لبعض الأعيان-، وجميع هذه الأمور متحققة في المسألة محل البحث، كما هو واضح، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقائق الأمور، وهو الهادي لسواء السبيل.
——————————————————————————–
[1] لاحظ الصحاح، ولسان العرب، والقاموس المحيط، مادة ضرر.
[2] مستند العروة ج 22 ص 50، وقد أشرنا لمفاد عبارته(ره)، فلاحظ.
[3] الصحاح ج 6 ص 2247.
[4] نهج الفقاهة ص 320.
[5] تحرير الوسيلة كتاب الطلاق المسألة رقم 4.
[6] شرائع الإسلام ج 3 ص 13.
[7] وسائل الشيعة ب 37 من أبواب مقدمات الطلاق ح 2.
[8] المكاسب شروط المتعاقدين،شرطية القصد.