منع الإصرار من قبول الأعمال

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
212
1

قال الإمام أبو عبد الله الصادق(ع): لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار[1].

يتفق علمائنا على تقسيم الذنوب إلى كبائر وصغائر، وإنما يختلفون في أن هذا التقسيم، هل هو تقسيم حقيقي، أم أنه تقسيم إضافي، ونقصد بكونه تقسيماً حقيقياً، أي أن هناك نوعين من الذنوب، نوعاً يعبر عنه بالكبائر، وهو يتصف بهذا الوصف، ويسمى بهذا الاسم من دون علاقة له بغيره من الذنوب، ومن دون ملاحظة ذنوب أخرى، ونوعاً آخر يعبر عنه بالصغائر، ووصفه بهذا الوصف يعود لنفسه من دون مدخلية لملاحظة غيره من الذنوب.

أما التقسيم الإضافي، فهو يقرر أن الذنوب كلها كبائر، ولا يوجد عندنا ذنب في حد ذاته صغيرة، وإنما يطلق على بعض الذنوب عنوان الصغيرة بلحاظ إضافته إلى ما هو أعلى منه من الذنوب، وبلحاظ النظر إلى ما يكون أشد أثراً منه، فالنظر إلى المرأة الأجنبية كبيرة من الكبائر، لكنها عندما تقاس بالنسبة إلى مصافحتها، أو ممارسة ما لا ينبغي ممارسته معها، فإنه يكون صغيرة من الصغائر، وهكذا.

وبالجملة، يفترق التقسيمان في عدّ القائلين بالتقسيم الحقيقي الذنوب قسمين، كل واحد منهما مستقل عن الآخر، ولا ربط له، بينما القائلون بالتقسيم الإضافي، فإنهم يقررون أن اتصاف ذنب بوصف الصغيرة متوقف على لحاظ ما هو أعلى منه من الذنوب، وهكذا.

ومع أننا لسنا بصدد الحديث عن هذا الجانب، وبيان أي القولين هو الصحيح، لأنه يحتاج إلى ملاحظة أدلة كلا القولين، والنظر فيها، وهو بنفسه يصلح أن يكون دراسة مستقلة إلا أننا نلفت نظر القارئ أن القول بالتقسيم الحقيقي، هو الموافق لظاهر غير واحدة من الآيات القرآنية الشريفة، كما يظهر من نصوص عديدة.

ومنها النص الذي جعلناه مفتتح حديثنا، فإنه يتضمن الإشارة إلى كون الذنوب منقسمة إلى قسمين، وبعضها قد يتحول من كونه ذنباً صغيراً فيصبح كبيراً، كما أن ما يكون منها كبيراً، قد يمحى، ويغفر لصاحبه، وعلى أي حال، فقد أشار(ع) إلى أن الصغائر من الذنوب قد تتحول لكبائر، وذكر أن لذلك موجباً بحيث تكون الذنوب كذلك بنظر الشرع الشريف. نعم ما ينبغي الإحاطة به في المقام، هو أن صيرورة الصغائر كبائر، هل يعني انقلاب حقيقتها إلى حقيقة ثانية أخرى تغاير الحقيقة السابقة لها، أم أن المقصود أنها تأخذ حكمها ليس إلا، وبعبارة أخرى، هل تتحول الذنوب الصغيرة لتكون ذنوباً كبيرة، فتنقلب عما كانت عليه، وتتبدل، أم أنها  تبقى كما هي إلا أن حكمها يكون حكم الكبيرة، فالنظر إلى المرأة الأجنبية هل ينقلب ليكون عوضاً عن الصغيرة، فيصبح كبيرة، أم يكون الحكم المترتب عليه، هو حكم الكبيرة؟

لا يخفى أنه لو كنا ومقتضى القول بالتقسيم الإضافي، فإننا لا نحتاج لهذا البحث أساساً، ضرورة أنه لا صغيرة أصلاً في البين، وإنما الموجود كله كبائر، ينطبق عنوان الصغيرة على واحد منها بلحاظ الإضافة، وليس بلحاظ الحقيقة، بخلاف ما لو بني على كون التقسيم تقسيماً حقيقياً، فإنه يأتي البحث المذكور.
وكيف كان، فالظاهر أن المستفاد من النصوص، كون المقصود أخذ الذنب المتصف بكونه صغيرة في بعض الحالات حكم الكبيرة، فيكون له جميع ما للكبيرة من آثار، ونتائج، فلاحظ.

والحاصل، هناك حالات يتحول فيها الذنب الصغير ليكون ذنباً كبيراً، لكن هذا التحول على ما يبدو تحول حكمي، وليس تحولاً حقيقياً، فلا ينقلب الشيء عن صورته التي هو عليها، فالمرأة التي تخرج من بيتها دون تغطية منها لقدمها، وهي تعلم بوجوب ذلك عليها، وتصر على العدم، سوف يكون حكمها حكم مرتكب الكبيرة، لا أن ترك تغطية القدم، يتحول إلى كبيرة، فلاحظ.

متى يكون الذنب الصغير كبيراً:

وقد تضمنت كلمات علماء الأخلاق ذكر حالات ينقلب فيها الذنب الصغير ليكون ذنباً كبيرة، من الناحية الشرعية، متى ما اتصف الإنسان بواحد من تلك الحالات[2]، وهي:

استصغار الذنب:

والنصوص في هذا الجانب مستفيضة، ومعنى استصغار الذنب، تحقيره بنظر فاعله، فلا يرى أنه مما يستحق عليه العقوبة من الله سبحانه وتعالى، بل يرى أن هذا فعل عادي لا يستوجب أن يعاقبه الله تعالى عليه، فعن أمير المؤمنين(ع)، قال: أشد الذنوب ما استخف به صاحبه[3]. وعن الإمام الكاظم(ع)، قال: لا تستكثروا كثير الخير ولا تستقلوا قليل الذنوب فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يكون كثيراً[4].
 
الاغترار بستر الله تعالى:

فيغتر مرتكب الكبيرة بستر الله تعالى عليه وحلمه عنه، وإمهاله إياه، وينسى أنه سبحانه الله يمهل ولا يهمل، فيتمادى في طغيانه، ويستمر على ارتكاب الصغائر من الذنوب، ويغفل عن أن الله تعالى يمدّ له في طغيانه، ويمهل له ليزداد إثماً، قال تعالى:- (ولا يحسبن الذين ظلموا أنما نملي لهم ليزدادوا خيراً لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين). ويتصور هذا المسكين أن الله سبحانه غير غاضب عليه، ولا منه، ولا يلتفت إلى أنه عز وجل يستدرجه، وهذه أخطر حالات الغضب الإلهي، فعن الإمام رئيس المذهب(ع)، وقد سئل عن الاستدراج، فقال: هو العبد يذنب الذنب فيملي له، ويجدد له عندها النعم فتلهيه عن الاستغفار من الذنوب، فهو مستدرج من حيث لا يعلم[5]. وفي رواية أخرى يـــــبين(ع) الاستدراج الإلهي، فيقول: وكم من مستدرج بستر الله عليه[6]. ولهذا جاء التحذير من أمير المؤمنين(ع) من التهاون في التوبة اتكالاً على الستر الإلهي والغفلة عن كونه استدراجاً، يقول(ع): الحذر الحذر، فوالله لقد ستر حتى كأنه غفر[7].

الفرح بالصغيرة:

وهو أن يرتكب المكلف الذنب فيفرح لكونه قد فعل ذلك الفعل، ويعتبر حصوله عليه نصراً مؤزراً، فالشاب الذي يلاحق فتاة من الفتيات ويظفر بعد ذلك بها، ويتحدث معها، يعتبر نفسه قد حقق انتصاراً كبيراً جداً، إذ استطاع أن يوقع بها.
ومن الطبيعي أن الفرح بما فعل من معصية، سوف يصعب عليه التخلص منها، وتركها، ضرورة أنه يرى حلاوة ما أقدم عليه من فعل، فكيف يمكنه هجرها وتركها، ولا ريب أن هذا له أبلغ الأثر في تسويد قلبه، وتلوثه.

التجاهر بالصغيرة بعد فعلها في الخفاء:

فيعمد إلى إظهار ما فعله للآخرين، فالشاب الذي تمكن أن يوقع فتاة أجنبية في حبائله، ويكون شيطاناً يغويها عن طريق الهداية، يعمد إلى إبلاغ أصدقائه بما تحصل عليه، وما ناله من وصول إلى تلك الفتاة، وإجراء حديث معها، فيتجاهر أمامهم بمعصيته، ويظهر لهم علناً بعدما كان يمارسها في الخفاء.
أو من يعمد إلى مشاهد الأفلام البعيدة عن التعاليم الإسلامية، والقيم الدينية، ويعمد إلى تبادلها علناً مع أصدقائه، فهو بهذا الفعل يعلمه بمشاهدته إياها، ويتجاهر أمامهم بذلك.

ولا ريب في انطباق عنوان إشاعة الفاحشة، على مثل هذا العمل، وهي من الكبائر المنصوص عليها. مضافاً إلى أنه هتك ستر الله تعالى عليه، وفضح نفسه.

موقعية مرتكب الصغيرة الاجتماعية:

فلو كان مرتكب الكبيرة هو الأب، فلا ريب أن ذلك سوف يوجب ارتكاب أبنائه لهذه المعصية، وبنائهم على عدم ترتب العقاب عليها، لا لشيء إلا لأنهم يرون في والدهم القدوة الحسنة التي تتبع، وصدور فعله منه يكشف عندهم عن عدم خطأه، لذلك يقلدونه.

وكذا لو كان مرتكب الكبيرة معلماً، فإن لذلك أبلغ الأثر على طلابه وتلامذته، فإنهم يتخذونه قدوة لهم، ويحاكونه في ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، فهم يرون الخطأ والصواب بعينه، لا بأعينهم، فكل ما يصدر منه من فعل يظنونه صواباً فيحاكونه في فعله، وهكذا، فكل ما كان الفعل صادراً من شخصية ذات موقعية اجتماعية، كان خطرها على المجتمع كبيراً، فإن الذنب الصادر وإن كان صغيرة، إلا أنه يأخذ حكم الكبيرة، لما لذلك من بليغ الأثر وعظيمه على الآخرين، كما عرفت.
 
 
الإصرار والمواظبة على الصغيرة:

وقد أشار الإمام أبي جعفر الباقر(ع) إلى ذلك، في تفسير قوله تعالى:- (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)، قال: الإصرار أن يذنب الذنب فلا يستغفر، ولا يحدث نفسه بتوبة، فذلك هو الإصرار[8].
وهذا رئيس المذهب(ع)، يشير إلى أخذ الصغيرة التي يصر صاحبها عليها حكم الكبيرة، عندما يقول: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الاستغفار[9].

معنى الإصرار:

هذا وبعدما عرفنا الحالات التي يتصف فيها فاعلها بارتكاب الكبيرة، نود أن نركز الحديث على الحالة الأخيرة منها، وهي حالة الإصرار على الذنب الصغير، فيجعله ذلك كبيراً. وأول ما يلزم الإحاطة به معرفة حقيقته، ومعناه، وهذا يستوجب ملاحظة ما ذكره علماء اللغة في بيان ذلك، ومن ثمّ هل لعلماء الأخلاق معنى آخر يغاير المعنى المذكور في كلمات اللغويـين، أم لا.

الموجود في كلمات أهل اللغة، أن أصله أحد أمرين:

الأول: أن يكون أصله هو الشد، من الصرة، والصرّ هو شدة البرد، فكأنما هو ارتباط بالذنب، من خلال الإقامة عليه.
الثاني: أن يكون أصله هو الثبات على الشيء، فيكون معنى الإصرار على الذنب، يعني الثبات عليه.
ولا يخفى عود الأمرين تقريــــباً إلى معنى واحد، بحيث يلتقيان، ويتفقان بصورة كبيرة، لأن الارتباط بالشيء، على ما يـــــبدو لا يتصور من دون أن يكون هناك ثبات عليه.

هذا والظاهر أنه لا يوجد عند علماء الأخلاق، فضلاً عن الفقهاء معنى آخر يغاير ما ذكر في كلمات اللغويـين، فهم يلتـزمون بما جاء في كلماتهم، ولا يختلفون معهم في حقيقته كما هو واضح، لمن راجع كلماتهم.

أقسام الإصرار:

هذا وقد قسم الإصرار إلى قسمين:

الأول: الإصرار الفعلي، وهو يتحقق إما من خلال تكرار العبد المعصية، أو بعزمه على إتيانه في كل حين مع عدم وجود مانع يمنعه من ذلك.
وإن شئت قل، إن العبد عازم دائماً على فعل المعصية، ومقيم عليها، من دون أن يكون راغباً في اجتنابها أو تركها، كما أنه لا يوجد مانع يمنعه من فعلها.
الثاني: الإصرار الحكمي، وهو يعني: عزم العبد على فعل المعصية وارتكاب الذنب متى تمكن من ذلك.
ويفرق القسم الثاني عن الأول، مع تضمن كليهما العزم على فعل المعصية من حيث وجود المانع عن الفعل في القسم الثاني، وعدمه في القسم الأول، فلاحظ.

وللإصرار الفعلي مصاديق ثلاثة:

أحدها: أن يمارس العبد الذنب ويرتكبه مرة بعد أخرى، بشكل مستديم. وهذا أوضح معاني الإصرار، لكونه يتضمن ثباتاً وارتباطاً بالذنب كما لا يخفى.
ثانيها: أن يمارس العبد الذنب، ويترك الاستغفار والتوبة منه، وقد سبق رواية الإمام الباقر(ع) في عدّ هذا الفعل من الإصرار عند تفسير قوله تعالى:- (ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون)، قال: الإصرار هو أن يذنب الذنب فلا يستغفر الله ولا يحدث نفسه بتوبة فذلك الإصرار[10].
ولا يتوهم أحد أن الرواية بصدد حصر حقيقة الإصرار في خصوص ما جاء فيها، ضرورة أن ذلك يستوجب حملها على الحصر الحقيقي، وهو غير ظاهر منها، فضلاً عن أن المستفاد منها كونها بصدد بيان فرد من الأفراد، ومصداق من المصاديق مع سكوتها عن البقية، وعدم إشارتها لشيء منها.
على أنه لو قيل بكون الرواية متضمنة للمصداق الأول من مصاديق الإصرار لم يكن في ذلك مجازفة، لأن المقيم على الذنب، من الطبيعي أن نفسه لا تحدثه بتوبة، ولا باستغفار، وهذا يعني أنها أشارة إلى الفرد الخفي، وأدرجت الفعل الأجلى والأوضح ضمناً، فلاحظ.

ثالثها: أن يمارس العبد الذنب ويرتكب المعصية من دون أن يحصل عنده ندم على فعله الذي فعله، وجرمه الذي ارتكبه، ففي الرواية عن الإمام الكاظم(ع) بسنده عن النبي(ص) قال: إنما شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأما المحسنون فما عليهم من سبيل، قيل: يا ابن رسول الله، كيف تكون الشفاعة لأهل الكبائر والله تعالى يقول:- (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، ومن ارتكب الكبيرة لا يكون مرتضى؟ فقال(ع): ما من مؤمن يرتكب ذنباً إلا ساءه ذلك وندم عليه، وقال النبي(ص): كفى بالندم توبة، وقال(ص): من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن، فمن لم يندم على ذنب لم يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشفاعة وكان ظالماً، والله تعالى ذكره يقول:- (ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع)، فقيل له: يا ابن رسول الله، وكيف لا يكون مؤمناً من لا يندم على ذنب يرتكبه؟ فقال: ما من أحد يرتكب كبيرة من المعاصي وهو يعلم أنه سيعاقب عليه إلا ندم على ما ارتكب، ومتى ندم كان تائباً مستحقاً للشفاعة، ومتى لم يندم كان مصراً والمصر لا يغفر له، لأنه غير مؤمن بعقوبة ما ارتكب ولو كان مؤمناً بالعقوبة لندم، وقد قال النبي(ص): لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار. وأما قول الله عز وجل:- (ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)، فإنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضى الله دينه، والدين الإقرار بالجزاء على الحسنات والسيئات، فمن ارتضى دينه ندم على ما ارتكبه من الذنوب لمعرفته بعاقبته فيا لقيامة.

ولا يخفى أن هذا النص من أمهات النصوص، ومن الأصول الأصيلة في بحثنا، إذ أنه تضمن تقريباً جميع ما تقدم، ولولا مخافة الإطالة، لأشرنا لذلك، لكننا نسأل منه تعالى أن يوفقنا لعقد بحث مستقل فيه. وما يهمنا أنه(ع) قد عدّ عدم الندم، وترك التوبة مصداقاً من مصاديق الإصرار، لأن الندم توبة، ومعنى كون الندم توبة لكونه مقدمة لها، إذ لا يتصور أن تحصل التوبة عند العبد من دون أن يكون نادماً على ما عمل وفعل، بل إن التوبة النصوح متقومة بذلك، ولهذا لا يقال لمجرد الترك للفعل توبة، ولو قيل ذلك، إلا أنه لا يعبر عنها جزماً بالتوبة النصوح، خصوصاً وأن الترك قد لا يكون توبة، وإنما يكون لمانع يمنع من الفعل والإقدام، فتدبر.

هذا وقد يتصور البعض أنه لا فرق بين المصداق الثاني، والمصداق الثالث، فهما أمر واحد، وإن اختلف من حيث التعبير ليس إلا، إلا أنه تصور في غير محله، بل إن بينهما مغايرة بينة، ذلك أن المقصود من القسم الثالث، هو ترك الندم، الذي قد عرفت أنه مقدمة لتحقق التوبة، وأنها لا تتحقق من دونه، بينما كان المصداق الثاني عبارة عن ترك الاستغفار وعدم التوبة، وهذا لا يلازم أن يكون تاركاً للندم، فربما يكون نادماً لكنه لا يكون مستغفراً، وغير تائب، فلاحظ.
ومن خلال التفريق المذكور يتضح أن القسم الثالث هو أشدّ الأقسام الثلاثة، وأعظمها من حيث الأثر، والجرأة على الباري سبحانه وتعالى، لكونه يتضمن تحدياً واضحاً لله سبحانه وتعالى، وجرأة عليه، وهتكاً لحرماته.

الإصرار الحكمي:

وأما بالنسبة للإصرار الحكمي، فإنه لم يتعرض أحد من فقهائنا للحديث عنه، وإنما انحصر ذلك بحسب ما وجدت في الإمام الراحل(ره)، ولعل السر في عدم عدّ أعلامنا(رض) لهذا القسم يعود لما دل من عدم ترتب العقوبة واستحقاقها، فضلاً عن مضاعفتها على خصوص المعصية والذنب الصادر من العبد، فلا يعاقب العبد على سوء النية، ولا على العزم على فعل المعصية، وقد عرفنا طبقاً لما تقدم من تعريف للإصرار الحكمي أنه لا يشتمل على فعل للمعصية، وإنما يتضمن عزماً على العود إليها متى توفرت الظروف المواتية لذلك، وهذا يعني عدم صدور فعل ولا ذنب من المكلف حتى يعاقب عليه.

وقد يعتذر للإمام الراحل(ره) بأنه نظر إلى جملة من العمومات التي يحملها أكثر الفقهاء على الجنبة الأخلاقية، أو حسن الورع والاحتياط، كرواية خلود أهل النار في النار، وأهل الجنة في الجنة بسبب نياتهم، وأمثال ذلك.
وقد يكون الإمام(ره) أخذ جنبة القرب والبعد عن الله تعالى منشأ لذلك، فرتب أن العازم على معاودة الذنب متى تسنى له يكون ذا ذات قبيحة ملوثة، فيكون بعيداً عن رحمة الله تعالى، والبعيد عن ذلك بمنـزلة المطرود، فكيف تناله الرحمة، ولا ينـزل عليه العقاب، فتأمل.

منشأ مضاعفة الإصرار للعقوبة:

هذا وقد يتساءل عن الداعي والموجب لأن تكون العقوبة مضاعفة على المكلف نتيجة كونه مصراً على فعل المعصية، فما هو الموجب لذلك، أو قل ما هو الدليل على ذلك؟
يمكن الاستدلال على ذلك بشيئين:
 
الأول: حكم العقل:

ويمكننا بيان كيفية دلالة حكم العقل على استحقاق المصرّ على الذنب الصغير لعقوبة مضاعفة من خلال أن الموجب لاستحقاق العاصي الذنب يعود لتمرده على الباري سبحانه لفعله المعصية، فيخرج بذلك عن مقتضى عبوديته لله تعالى، ووفقاً لمقدار تجاوزه وتجريه على الله تعالى يكون استحقاقه للعقوبة، ما يعني أن هناك تفاوتاً في ذلك، ومن الطبيعي أنه إذا كان القانون بهذه الكيفية، فهو يستوجب أنه حال تكرار المعصية من العبد من دون حياء، أو مراعاة تكشف عن زيادة تجري وهتك لحرمة المولى سبحانه، فيكون ذلك موجباً لزيادة استحقاق العقوبة، وهو المطلوب.

ويمكن أن يقرب بيان ذلك من خلال طريق آخر، يعتمد على ما ثبت من تبعية الأحكام إلى المصالح والمفاسد، وهذا يعني أن جميع الأفعال الصادرة عن المكلفين لابد وأن تكون خاضعة لهذا القانون، ولا ريب في أن بقاء المصرّ على الصغيرة دون مضاعفة لاستحقاقه العقوبة يستوجب مفسدة كبيرة جداً، فلأجل ترتب المفسدة على الإصرار على المعصية، لابد من كونه مستحقاً لعقوبة مضاعفة.
 
 
الثاني: حكم الشرع:

ويستفاد ذلك من واحد من الأدلة المعتبرة من الشرع الشريف، كالكتاب العزيز أو السنة المباركة على سبيل المثال، ولنقتصر على خصوص آية واحدة من القرآن حذراً من الإطالة، ويمكن للقارئ العزيز متابعة ذلك، سواء في ما يدل على ذلك من آي القرآن، أم ما يدل على ذلك من النصوص الشريفة، يقول تعالى:- (الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون)[11].

وتتضح كيفية الاستدلال بها من خلال الموضوع الذي هي بصدد الحديث عنه، إذ أنها تنهى عن ما يدعيه المدعون من أنه لا فرق بين البيع والربا وتشير إلى أن هناك فرقاً بينهما يستوجب أن لا تكون المعاملة واحدة، وهذا يستوجب ترك المعاملة الربوية، فلو عاد العبد إلى المعاملة الربوية، ولم يتركه كان من المصرين على المعصية، وقد أشارت الآية إلى أن المصرّ على المعصية، يستحق النار، فلاحظ قوله تعالى:- (ومن عاد فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

يــــبقى ما ربما يكون مانعاً من الاستناد للآية الشريفة، وهو أن موردها الربا وحرمته، ولا ريب في أن ذلك كبيرة من الكبائر، فلا مجال للاستناد إليها فيما نحن فيه.
وما ذكر لا يصلح أن يكون مانعاً لما تقرر في محله، من أن خصوصية المورد لا تخصص الوارد، وبالتالي يتعدى منه إلى غيره، فلاحظ.

منع الإصرار قبول الأعمال:

ولنختم الحديث بالإشارة لواحد من الآثار الدنيوية المترتبة على الإصرار، وهو منعه لقبول الأعمال، بمعنى أن إصرار العبد على الذنب يوجب عدم قبول الله تعالى لأعماله، فيكون الإصرار مانعاً من القبول، وإن كانت جميع موجبات القبول متوفر، وبعبارة موجزة، حتى لو كان المقتضي لكون العمل مقبولاً، إلا أن الإصرار على الذنوب يكون مانعاً من قبوله حينئذٍ، فقد سمع أبو بصير أبا عبد الله(ع) يقول: لا والله لا يقبل الله شيئاً من طاعته على الإصرار على شيء من معاصيه[12].

ولا يخفى أن مانعية الإصرار من قبول الأعمال على طبق القواعد المعتمدة في شرطية قبوله، ذلك أن القرآن الكريم يصرح أن هناك قاعدة أساسية لقبول العمل من العبد، ما لم تكن تلك القاعدة متوفرة، فلا يكون
مقبولاً، وهي التقوى، يقول تعالى:- (إنما يتقبل الله من المتقين)[13]، ولا ريب في أن المصرّ على المعصية، وارتكاب الذنب لا ينطبق عليه عنوان المتقي، فكيف يمكن قبول عمله.
 

 

[1] أصول الكافي ج 2 ص 288.
[2] يستفاد هذا المعنى من كتاب إحياء العلوم لأبي حامد الغزالي، وكتاب المحجة البيضاء للفيض الكاشاني، وكتاب جامع السعادات للنراقي.
[3] الكلمات القصار من نهج البلاغة رقم 477.
[4] أصول الكافي ج 2 ص 287.
[5] أصول الكافي ج 2 ص 452.
[6] المصدر السابق.
[7] الحكم من نهج البلاغة الحكمة رقم 29.
[8] أصول الكافي ج 2 ص 288.
[9] أصول الكافي ج 2 ص 288.
[10] أصول الكافي ج 2 ص 288.
[11] سورة البقرة الآية رقم 275.
[12] أصول الكافي ج 2 ص 288.
[13] سورة المائدة الآية رقم 27.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة