إن الفترة الزمنية التي تمتد من يوم أن أعلن أبو عبد الله الحسين(ع) رفضه لبيعة يزيد بن معاوية، في مجلس والي المدينة الوليد بن عتبة في ذلك الوقت، إلى اليوم الذي التقى فيه الإمام الحسين(ع) بالحر بن يزيد الرياحي، وقد وصل إلى الحر كتاب عبيد الله بن زياد الذي تضمن: أما بعد فجعجع بالحسين حين يـبلغك كتابي ويقدم عليك رسولي، فلا تـنـزله إلا بالعراء في غير حصن ولا ماء، وقد أمرت رسولي أن يلزمك ولا يفارقك حتى يأتبني بإنفاذك أمري، والسلام[o1] .
تعتبر فترة التعريف بالنهضة الحسينية، كما يمكن اعتبارها أهم مقطع من مقاطع هذه النهضة المباركة والثورة المقدسة، لما حوته من محاورات ومراسلات وخطب ووصايا ضبطها لنا التاريخ، فهي أغنى مقاطع هذه الثورة بالنصوص المعرّفة بها، والكاشفة عن هويتها مما ورد عن الإمام الشهيد الحسين بن علي(ع).
كما تعتبر هذه الفترة أيضاً أهم مقاطع هذه الثورة المباركة، بمنظار التحليل التاريخي، من ناحية عدد الخيارات التي كان يملكها المولى الحسين(ع) في هذه الفترة، ومن ناحية موقف الإمام الحسين(ع) إزاء كل من هذه الاختيارات، ثم من ناحية نوع الاختيار الذي أصرّ عليه الإمام(ع) منذ البدء.
إلا أن القارئ والباحث في ما كتب وطرح حول النهضة الحسينية المباركة، من خلال ما يستفيده هؤلاء الباحثون والكتاب من هذه النصوص في هذه الفترة في محاولة منهم للوصول إلى تعريف صحيح وتام لهذه الثورة المباركة، يجد أنها لم تسلم في الغالب من عثرات القصور والخطأ في الاستنـتاج في كثير مما كتب حول هذه النهضة المقدسة، ويكفي التأمل اليسير في كثير من الكتب والدراسات والخطب التي تناولت البحث في حقيقة قيام الإمام الحسين(ع) دليلاً لإثبات ما قلناه، وسيأتي منا الإشارة إلى أمثلة ذلك.
منشأ الاشتباه والخطأ في التفسير:
هذا ولعل السبب الأساس الذي يمكن إرجاع ما حصل من عثرات وخطأ يعود إلى عدم الانـتباه إلى ثلاثة أمور رئيسية:
الأول: معرفة المخاطب في تلك النصوص الصادرة من الإمام الحسين(ع).
الثاني: النظر إلى هذه النصوص كوحدة في مجموعها.
الثالث: رد المتشابه منها إلى المحكم.
ومن المعلوم أن معرفة هوية المخاطب من أهم العناصر في فهم واستيعاب روايات أهل البيت(ع)، لأنهم (ع) إنما يخاطبون الناس على قدر عقولهم، ومستوى بصيرتهم ودرجة ولائهم لهم، ونوع علاقتهم بأعدائهم.
وهذه نقطة مهمة يجب حضورها دواماً في ذهن الباحث المتأمل في النصوص الواردة عنهم(ع).
ولا شك أن الإمام الحسين(ع) كان قد خاطب أخاه محمد بن الحنيفية في محاوراته معه ووصاياه إليه خطاباً مختلفاً عن خطابه مع أخيه عمر الأطرف الذي كان قد أشار على الإمام أبي عبد الله(ع) بقوله: فلولا ناولت وبايعت[o2] .
كما أنه(ع) يخاطب أم سلمة(رض) خطاباً يخـتلف عن رده على كتاب عمرة بنت عبد الرحمن التي عظمت عليه ما يصنع وأمرته بالطاعة ولزوم الجماعة.
وخاطب(ع) الشاعر الفرزدق في محاوراته معه بمنطق اختلف عن منطقه مع عبد الله بن مطيع العدوي الذي كان همه الأكبر أن يكون ماء بئره عذباً وكثيراً.
ويحاور الإمام الحسين(ع) عبد الله بن جعفر وابن عباس حواراً يخـتلف كثيراً عن حواره مع عبد الله بن عمر صاحب الموقف والرأي المريب! الذي كان لا يرى إلا: أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل[o3] .
حتى ضاق الإمام الحسين(ع) ذرعاً به، وباقتراحاته المريـبة، فقال له: أفٍ لهذا الكلام أبداً ما دامت السموات والأرض….[o4] .
هذا والتأمل في هذه النصوص وغيرها مما يذكر في كلماته وخطبه ورسائله(ع) في هذه الفترة المهمة، يجد أثر نوع المخاطب في نوع كل منها بيناً وجلياً واضحاً.
كلام السيد المقرم:
وممن انـتبه إلى هذه النقطة المهمة المؤرخ المحقق السيد المقرم(قده) إذ نراه يقول: وإنما لم يصارح بما عنده من العلم لكل من رغب في إعراضه عن السفر إلى الكوفة لعلمه بأن الحقائق لا تفاض لأي متطلب بعد اختلاف الأوعية سعة وضيقاً وتباين المرامي قرباً وبعداً، فلذلك(ع) يجيب كل أحد بما يسعه ظرفه وتـتحمله معرفته، وعقليته، فإن علم أهل البيت(ع) صعب مستصعب لا يتحمله إلا نبي مرسل أو ملك مقرب، أو مؤمن امتحن الله قلبه بالإيمان[o5] .
كما أن تأثير نوع المخاطب على درجة صراحة ووضوح محتوى النص يفرض أن تعامل هذه النصوص معاملة وحدة واحدة في مجموعها، ومضمونها، لأن النظر إلى بعضها وربما تكون مبهمة ومتشابهة أو غير صحيحة، دون البعض الآخر قد يؤدي بالباحث إلى استنـتاج نظرة تكون في الغالب قاصرة أو خاطئة.
كما لو نظر الباحث فقط إلى مثل هذا المقطع من المحاورات الواردة بين الحسين(ع) وبين الفرزدق لما سأل الإمام: ما أعجلك عن الحج. فأجابه الإمام(ع) : لو لم أعجل لأخذت[o6] .
وعندما يصل الإمام الحسين(ع) إلى منطقة الثعلبية تدور بينه وبين أبي هرة الأزدي:
فلما أصبح الحسين وإذا برجل من الكوفة يكنى أبا هرة الأزدي، أتاه فسلم عليه. ثم قال: يا ابن بنت رسول الله، ما الذي أخرجك عن حرم الله وحرم جدك محمد(ص)؟…
فقال الحسين: يا أبا هرة إن بني أمية أخذوا مالي فصبرت، وشتموا عرضي فصبرت، وطلبوا دمي فهربت، وأيم الله يا أبا هرة لتقتلني الفئة الباغية، وليلبسهم الله ذلاً شاملاً وسيفاً قاطعاً، وليسلطن الله عليهم من يذلهم حتى يكونوا أذل من قوم سبأ إذ ملكتهم امرأة منهن فحكمت في أموالهم ودمائهم[o7] .
فإن ظاهر هذه النصوص يوحي بأن الإمام(ع) كان همه الأكبر هو النجاة بنفسه!! فقد صبر على أخذ ماله وشتم عرضه، وحين أرادوا قتله هرب لينجو بنفسه!! هذه حدود مظلوميته لا أكثر!! وكأنه ليس هناك رفض بيعة، ولا طلب إصلاح، وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر، ولا قيام!!!.
وهذا المعنى والتصور الخاطئ قد انطلى على بعض الناس، بحيث توهموا أن أساس الحركة الحسينية والخروج، إنما هو طلب النجاة والفرار من الاغتيال والقتل!!.
هذا وقد يقتصر بعض الباحثين والكتاب وأصحاب الخطب المنبرية نظرهم على مثل رد الإمام الحسين(ع) على المسور بن مخرمة، حينما كتب إليه ألا يغتر بكتب أهل العراق، حيث قال الإمام أبو عبد الله(ع): أستخير الله ذلك[o8] .
ومثل ذلك قوله(ع) لأخيه محمد بن الحنفية: يا أخي سأنظر فيما قلت[o9] .
أو قوله لعبد الله بن مطيع العدوي: أما في وقتي هذا أريد مكة، فإذا صرت إليها استخرت الله تعالى في أمري بعد ذلك[o10] .
أو قوله(ع) لعبد الله بن الزبير: والله لقد حدثت نفسي بإتيان الكوفة، ولقد كتب إليّ شيعتي بها وأشراف أهلها، وأستخير الله[o11] .
ومثل ذلك قوله لعبد الله بن عباس حين جاء يحذره من التوجه إلى العراق، فقال له الإمام الحسين(ع): إني أستخير الله، وأنظر ما يكون[o12] .
ذلك لأن ظاهر مثل هذه النصوص يوحي بأن الإمام(ع) لم تكن لديه خطة على الأرض في مسار النهضة منذ البدء، ولا علم له بما هو قادم عليه في مستقبل أيامه من مصير، بل كانت توجه حركته بوصلة الاستخارة.
وهذا المعنى من الواضح على المتـتبع يتنافى مع الكثير من النصوص التي وردت عنه(ع) في نفس هذه الفترة، فضلاً عن كون هذه النصوص متنافية مع اعتقاد الشيعة الإمامية بمسألة علم المعصوم(ع).
كذلك الحال إذا اقتصر نظر الباحث أو الكاتب والخطيب مثلاً على النصوص المتعلقة برسائل أهل الكوفة إلى الإمام الحسين(ع)، خصوصاً النصوص الواردة عنه(ع) في ذلك، لأن نـتيجة مثل هذا النظر ستكون اعتبار رسائل أهل الكوفة هي سبب قيام الإمام الحسين(ع)، وهذا من أشهر الإشتباهات التي تحصل في تحليل قيام الإمام الحسين(ع) بنهضته المباركة، وثورته الإصلاحية.
وكذلك لن يكون الاستنـتاج سديداً وصحيحاً إذا اقتصر مثلاً على النصوص التي تعلقت بالرؤيا التي رأى فيها الإمام الحسين(ع) جده المصطفى محمد(ص) رسول الإنسانية، وأمره فيها بأمرٍ لا شك في كونه أمراً إلهياً، عليه أن يمضي إليه، ويقوم بتـنفيذه.
ومثل ذلك في عدم المقبولية والبعد عن الصحة، الاستـنـتاج الذي يقتصر على النصوص التي توحي بأن الحسين(ع) كان يأمل بالنصر والنجاح، وتسلم زمام الأمور، وأنه كان يسعى لإقامة دولة الحق، وأنه كان يتوقع ذلك ويرجوه، وأنه لم يكن يعلم بمصيره.
كل تلك النـتائج القاصرة أو الغير سديدة، إنما تنشأ نـتيجة الأخذ الجزئي المفكك، حيث أنه يتم بسبب القراءة المقتصرة للنصوص على زاوية دون ملاحظة بقية الجوانب، فتقرأ طائفة من النصوص وتهمل البقية، وكأنها غير موجودة، ولهذا لن تكون النـتائج حينئذٍ إلا بهذه الكيفية كما لا يخفى.
أما لو تم الأخذ بجميع النصوص المتعلقة بهذه الفترة كمجموعة واحدة كما أشرنا لذلك في مطلع حديثنا، أخذاً كلياً موحداً، فهو أحد عناصر تمامية الاستنـتاج وبعده عن الخطأ والقصور.
تعامل النصوص محكم ومتشابه:
وكأنـنا ندعو إلى التعامل مع هذه النصوص كما يتم التعامل مع آيات القرآن الكريم، فكما يرد متشابهه إلى محكمه، كذلك يرد متشابه القول الصادر عن أهل البيت(ع) إلى المحكم من قولهم.
ولا يخفى أن النصوص الصادرة عن المولى الحسين(ع) في هذه الفترة تشتمل على متشابه لا يتجلى معناها الحق للنظرة الأولى، ويؤدي الاقتصار عليها في النظر إلى نتائج غير تامة، بل قاصرة وخاطئة أيضاً.
ولهذا ما هي النـتيجة المتصورة حينما يقتصر الباحث أو الكاتب أو الخطيب على مثل هذا النص الصادر عنه(ع) في هذه الفترة حينما يحدث عمرو بن لوذان، وقد أشار عليه بعدم التوجه إلى الكوفة، معللاً أن أهلها لم يتحركوا عملياً لنصرته، ولم يغيروا شيئاً من أمورهم استقبالاً لمقدمه، فأجابه الإمام(ع) بقوله: يا عبد الله، ليس يخفى عليّ الرأي، ولكن الله تعالى لا يغلب على أمره[o13] .
أو إلى مثل قوله(ع) بعدما ورد عليه كتاب عمرة بنت عبد الرحمن، وقرأه، ووجدها في كتابها: تعظم عليه ما يريد أن يصنع، وتأمره بالطاعة ولزوم الجماعة، وتخبره أنه إنما يساق إلى مصرعه، وتقول: أشهد لحدثتني عائشة أنها سمعت رسول الله(ص) يقول: يقتل حسين بأرض بابل.
وقد كان تعليقه الإمام الحسين(ع) على مثل هذه الكلمات بقوله: فلابد لي إذن من مصرعي[o14] .
وأيضاً مثل إجابته(ع) لعمر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي وقد أشار عليه بعدم التوجه إلى العراق، فقال له الحسين(ع): جزاك الله خيراً يا ابن عم، فقد والله علمت أنك مشيت بنصح وتكلمت بعقل، ومهما يقض من أمرٍ يكن، أخذت برأيك أو تركته[o15] .
أو إلى مثل قوله(ع) لأم سلمة(رض): يا أماه، قد شاء الله عز وجل أن يراني مقتولاً مذبوحاً ظلماً وعدواناً، وقد شاء أن يرى حرمي ورهطي ونسائي مشردين، وأطفالي مذبوحين مظلومين مأسورين مقيدين، وهم يستغيثون، فلا يجدون ناصراً ولا معيناً[o16] .
وإلى مثل قوله(ع) عندما دار بينه وبين عمته أم هانئ(رض) حديثاً: يا عمة، كل الذي مقدر فهو كائن[o17] .
وإلى مثل حديثه مع أخته الحوراء زينب عقيلة الطالبيـين(ع): يا أختاه، المقضي هو كائن[o18] .
حيث لا يخفى على الملاحظ كون هذه النصوص تنطوي على إبهام وتشابه يوحي للنظرة الأولى، بأن هناك جبراً وقهراً لم يكن الإمام الحسين(ع) يملك إزاءه أي اختيار في كل ما جرى عليه! وهذا خلاف واقع الحال، وخلاف الاعتقاد الصحيح!.
إن من يطلع على معنى القضاء والقدر، وأقسام القضاء بما ورد عنهم(ع) لا يؤمن عليه من الوقوع في مزالق الفهم الخاطئ لمعاني مثل هذه النصوص المتشابهات.
ولهذا ينبغي على الكاتب والباحث والخطيب، أن يسعى لفهم الإشارات الكامنة في مثل هذه النصوص، من خلال عرض متشابهات هذه النصوص على محكمات براهين الاعتقاد الحق، وعلى نظائرها من النصوص الأخرى المحكمة حتى يتجلى له معناها الحق تماماً.
————————————————–
[o1]تاريخ الطبري ج 4 ص 308.
[o2]اللهوف ص 12.
[o3]الفتوح ج 5 ص 24.
[o4]المصدر السابق ص 25.
[o5]مقتل الحسين للمقرم ص 65-66.
[o6]الإرشاد ص 243.
[o7]الفتوح ج 5 ص 71.
[o8]تاريخ ابن عساكر ح 255.
[o9]ينابيع المودة ص 404.
[o10]الفتوح ج 5 ص 22.
[o11]تاريخ الطبري ج 4 ص 288.
[o12]المصدر السابق ص 287.
[o13]الإرشاد ص 248.
[o14]تاريخ ابن عساكر ح 255.
[o15]تاريخ الطبري ج 4 ص 387.
[o16]بحار الأنوار ج 44 ص 331-332.
[o17]معالي السبطين ج 1 ص 215.
[o18]الفتوح ج 5 ص 70.