كان حديثنا فيما تقدم حول كيفية الوسائل والارشادات التي ينبغي للمريض بمرض الذنوب أن يتبعها لكي يحظى بالعلاج، وقد أشرنا إلى أنه قد صدر عنهم(ع) مجموعة من الإرشادات على المريض إتباعها، وقد تحدثنا عن الأول، منها، ونوقع الحديث الآن في البقية إن شاء الله تعالى.
الإرشاد الثاني: استشعار الندم الحقيقي:
فلابد لكي يؤثر الدواء، ويعطي مفعوله الحقيقي من أن ينطلق الاستغفار من قلب متوجع، قد اكتوى بنار الندم، وانصهر بتأنيـبات الجناية، وعاش الشعور بالإثم والحسرة، لما فرط في جنب خالقه سبحانه وتعالى، وذرف الدموع والعبرات لما صدر منه من معاصي ومخالفات، كادت تودي به في الهلكات، وتجره إلى النقمات والويلات.
إن الاستغفار البارد لا يحمل حرارة التوجع والندم، فلن يكون مثل هكذا استغفار ناجعاً في علاج مرض الذنوب والمعاصي، إذ أن التوجع والندم تعبير عن صدق التوبة والإنابة إلى الله تعالى، فحينما يضع المذنب ذنوبه بين يدي ربه الرحيم، غافر الذنوب جميعاً، في لقاء حار معه، يـبكي خوفاً وطمعاً، رغبة ورهبة، حباً وشوقاً، حياءاً وخجلاً، فسوف تظلله حينئذٍ فيوضات الله سبحانه، ورحماته بعباده العاصين، المذنبين، المسرفين على أنفسهم، قال تعالى:- ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم)[aa1] .
إن رحمة الله سبحانه وتعالى واسعة، وكرمه كبير، مهما كان الذنب من العبد كبيراً، وقد أشير لهذا المعنى في بعض الأدعية المأثورة: اللهم إن مغفرتك أرجى من عملي، وإن رحمتك أوسع من ذنبي، اللهم إن كان ذنبي عندك عظيماً فعفوك أعظم من ذنبي، اللهم إن لم أكن أهلاً أن أبلغ رحمتك فرحمتك أهل أن تبلغني وتسعني لأنها وسعت كل شيء.
إن الإنسان بحاجة إلى وقفة تذلل واستكانة وتضرع بين يدي الله سبحانه، يغسل من خلالها قلبه بالآهات والحسرات، ويرسل من عيونه القطرات والعبرات، فإنها تطفئ غضب الباري سبحانه وتعالى، وتجعله من المقربين المحبوبيـين إليه، قال سبحانه وتعالى:- ( إن الله يحب التوابين والمتطهرين)[aa2] .
كما أن كل من أراد التوبة النصوح الصادقة، عليه أن يندم، فقد ورد في مناجاة التائبين: إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإني وعزتك من النادمين، وإن كان الاستغفار من الخطيئة حطة فإني لك من المستغفرين.
ليعترف التائب بين يدي ربه بذنوبه، وهو العالم بها، فإن الله سبحانه يحب أن يعترف العبد بذلك، ويتضرع إليه تعالى طلباً للمغفرة والرحمة والرضوان، فقد ورد في بعض أدعية شهر رمضان المبارك: إلهي إن كنت لا ترحم في هذا الشهر الشريف إلا لمن أخلص لك في صيامه وقيامه، فمن للمذنب المقصر إذا غرق في بحر ذنوبه وآثامه، إلهي إن كنت لا ترحم إلا المطيعين فمن للعاصين، وإن كنت لا تقبل إلا من العاملين، فمن للمقصرين، إلهي ربح الصائمون، وفاز القائمون، ونجا المخلصون، ونحن عبيدك المذنبون، فارحمنا برحمتك وأعتقنا من النار بعفوك، واغفر لنا ذنوبنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا مضافاً إلى أن بكاء الإنسان من ذنوبه في الحقيقة، إنما هو بكاء على ما أفناه من عمره في المعصية، فقد ورد في دعاء أبي حمزة الثمالي: وأعني بالبكاء على نفسي، فقد أفنيت بالتسويف والآمال عمري، وقد نزلت منـزلة الآيسين من خيري، فمن يكون أسوأ حالاً مني إن أنا نقلت على مثل حالي إلى قبر لم أمهده لرقدتي، ولم أفرشه بالعمل الصالح لضجعتي، ومالي لا أبكي ولا أدري إلى ما يكون مصيري وأرى نفسي تخادعني، وأيامي تخاتلني، وقد خفقت عند رأسي أجنحة الموت، فمالي لا أبكي، أبكي لخروج نفسي، أبكي لظلمة قبري، أبكي لضيق لحدي، أبكي لسؤال منكر ونكير إياي، أبكي لخروجي من قبري عرياناً ذليلاً حاملاً ثقلي على ظهري، أنظر مرة عن يميني وأخرى عن شمالي، إذ الخلائق في شأنٍ غير شأني لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه، وجوه يومئذٍ مسفرة ضاحكة مستبشرة، ووجوه يومئذٍ عليها غبرة ترهقها قترة[o3] .
الإرشاد الثالث: أن يصمم المستغفر على عدم العودة للذنب:
من العناصر التي تعطي للاستغفار دوره الفاعل في حياة الإنسان أن يخـتـزن هذا الاستغفار التصميم الجاد والعزم الصادق على عدم العودة إلى الذنب، وإلا كان استغفاراً خاوياً كاذباً.
وهذا يعني أن المسألة ليست مسألة هدنة مؤقتة مع الشيطان، كما يفعل بعض الناس في المواسم العبادية، كشهر رمضان المبارك على سبيل المثال، بحيث يقرر الكثيرون الإقلاع عن الذنوب والمعاصي، ولكنهم يعيشون في أعماقهم الرغبة الأكيدة في العودة إلى ممارستها بعد انقضاء الشهر الشريف.
ومن الواضح أن مثل هذا الإقلاع لا يقال له توبة صادقة، واستغفاراً جاداً.
ثم إن المعنى الذي ذكرناه يستفاد من ما ورد عن أمير المؤمنين(ع)، إذ يقول: التوبة على أربعة دعائم: ندم القلب، واستغفار باللسان، وعمل الجوارح، وعزم على أن لا يعود[o4] .
فالذين يستغفرون الله تعالى وهم يستبطنون في داخلهم نية العودة إلى الذنب، فهؤلاء يهزؤون بالاستغفار، فعن الإمام الرضا(ع) قال: من استغفر بلسانه ولم يندم بقلبه فقد استهزأ بنفسه.
وعن أبي عبد الله الصادق(ع) قال: المقيم على الذنب وهو منه مستغفر كالمستهزئ.
أو أنهم لا يملكون وعي الاستغفار، فالاستغفار الصادق، الواعي، يعبر عن مفارقة حقيقية للذنوب والمعاصي، وهذه المفارقة الحقيقية تفرض العزم الدائم، والإصرار المستمر على مجانبة الشيطان والاستقامة على خط الطاعة لله تعالى، وإذا لم يكن الاستغفار كذلك فهو كلمات فارغة خاوية راكدة.
نعم لا ينكر أن هناك لحظات ضعف قد يسقط الإنسان فيها، فتأسره مثلاً شهوة بطن محرمة، أو شهوة فرج زائغة، أو لذة ضاغطة، أو رغبة جامحة، أو نزوة طائشة، أو غفلة عابرة، إلا أنه سرعان ما يستنفر مخزون الخوف من الله تعالى في داخله، ومخزون التقوى، فيعود إلى الله سبحانه، ويستغفر ويندم، ويـبكي ويتوب. قال تعالى:- ( إن الذين إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون)[o5] . وقال عز من قائل:- ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهو يعلمون* أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين)[o6] .
الإرشاد الرابع: الاستغفار الصادق يفرض على الإنسان أن يتدارك ما فرط فيه:
لا يخفى أن الإنسان تصدر منه في مرحلة التمرد والعصيان والمخالفة الكثير من التفريطات في حق الباري سبحانه وتعالى، فيجب عليه أن يعيد حساباته في تدارك ما فرّط فيه:
1-فإن كان ما فرط فيه ترك فريضة من الفرائض كالصلاة والصوم، والحج والزكاة، والخمس، فيجب عليه أن يمارس التدارك لهذه الفريضة.
2-وإن كان ما فرط فيه ذنباً من الذنوب ومعصية من المعاصي التي ترجع إلى حق الباري سبحانه وتعالى، ولا تخص أحداً من الخلق، فهنا يكتفى بالتوبة والندم، والاستغفار، والإكثار من الطاعات لتكفير المعاصي والذنوب.
3-وأما الذنوب والمعاصي التي ترجع إلى حقوق الخلق، فغفرانها يرتبط بالتوفر على رضى هؤلاء من خلال إرجاع حقوقهم، والاستحلال منهم، إن كانوا أحياء، وكان ذلك ممكناً، وإلا فالرجوع إلى ورثتهم فيما هي الحقوق المادية، فإن لم يتمكن لعدم وجود الورثة، أو لعدم معرفتهم، راجع الحاكم الشرعي فيما لديه من أموالهم.
وأما الحقوق المعنوية، فإن تمكن من الاستحلال ولم يترتب على ذلك مفاسد أكبر وجب، وإلا فعليه أن يكثر من الاستغفار والدعاء لهم، فعسى أن يكون ذلك شافعاً له يوم الحساب حينما يقف الخصماء بين يدي الله سبحانه طالبيـن الحق ممن ظلمهم، قال تعالى:- ( فويل للذين ظلموا من عذاب أليم)[o7] .
وقال سبحانه:- ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون)[o8] .
وورد عنه(ص): إياكم والظلم، فإن الظلم عند الله هو الظلمات يوم القيامة.
وقال(ص) أيضاً: بين الجنة والعبد سبع عقبات: أهونها الموت، قال أنس: قلت يا رسول الله فما أصعبها؟ قال: الوقوف بين يدي الله عز وجل إذا تعلق المظلومين بالظالمين.
وفي نهج البلاغة يقسم أمير المؤمنين(ع) الظلم من حيث غفرانه والطلب به فيقول(ع): ألا وإن الظلم ثلاثة: فظلم لا يغفر، وظلم لا يترك، وظلم مغفور لا يطلب، فأما الظلم الذي لا يغفر فالشرك بالله، وأما الظلم الذي يغفر فظلم العبد نفسه عند الهنات، وأما الظلم الذي لا يترك فظلم العباد بعضهم بعضاً[o9] .
الاستغفار توبة متحركة في حياة الإنسان:
يعدّ الاستغفار الدائم متى وقع على صورته الأصيلة توبة متحركة في الحياة الإنسانية، ولذلك ورد التأكيد على الاستغفار في كل الأوقات، وفي كل الحالات، وإن جاء التشديد عليه في بعض الموارد:
منها: الاستغفار قبل النوم:
فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) قال: من استغفر الله مائة مرة حين ينام بات وقد تحاتـت الذنوب كلها عنه كما يتحات الورق من الشجر وأصبح لا ذنب عليه.
ومنها: الاستغفار وقت السحر:
قال تعالى:- ( والمستغفرين بالأسحار)[o10] . وقال سبحانه:- ( كانوا قليلاً من الليل ما يهجعون* وبالأسحار هم يستغفرون)[o11] .
وقد ورد استحباب الاستغفار 70 مرة في صلاة الوتر، وهي جزء من صلاة الليل، وقد ورد التأكيد عليها في الكتاب الشريف والسنة المباركة، وكلمات العلماء.
قال تعالى:- ( تـتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون* فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)[o12] .
ومما يناسب الإشارة ونحن في آخر الحديث عن الاستغفار، بيان ما لقائمي الليل للتهجد، إذ نلاحظ أن الله سبحانه وتعالى قد أشار في كتابه العزيز إلى ما أعدّ للمتقين من نعيم في الآخرة، فقال تعالى:- ( مثل الجنة التي وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير آسن* وأنهار من لبن لم يتغير طعمه* وأنهار من خمر لذة للشاربين* وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميماً فقطّع أمعاءهم)[o13] ، إلا أنه قد أخفى ما أعده للقائمين في صلاة الليل، قال سبحانه:- ( فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون)[o14] .
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للتوبة والاستغفار، وأن يجعلنا من القائمين والمستغفرين بالأسحار بحق محمد وآله الطيـبين الأطهار(ع).
—————————————————
[1]سورة الزمر الآية رقم 53.
[2]سورة البقرة الآية رقم 222.
[o3]دعاء أبي حمزة الثمالي.
[o4]ميـزان الحكمة ج 1 /342/2161.
[o5]سورة الأعراف الآية رقم 201.
[o6]سورة آل عمران الآية رقم 135-136.
[o7]سورة الزخرف الآية رقم 65.
[o8]سورة الشعراء الآية رقم 227.
[o9]نهج البلاغة، الخطبة رقم 175.
[o10]سورة آل عمران الآية رقم 17.
[o11]سورة الذاريات الآية رقم 18.
[o12]سورة السجدة الآية رقم 17.
[o13]سورة محمد الآية رقم 15.
[o14]سورة السجدة الآية رقم 17.