قال تعالى:- (ولا أقسم بالنفس اللوامة)[1].
مدخل:
ابتدأت هذه السورة المباركة سورة القيامة بقسمين،ثانيهما الآية التي افتتحنا بها المقام،وكان قبلها القسم بيوم القيامة.
ونحتاج في البداية أن نتعرف العلاقة والرابطة الموجودة بين القسمين،حيث أن معرفة ذلك تعيننا على معرفة المراد من النفس اللوامة التي محل بحثنا.
والظاهر أن بين الآيتين علاقة وارتباطاً وهو كونهما يحملان نفس الشيء حيث أن القيامة تعني عودة الحياة للإنسان بعد الموت وهذا يستدعي وجود سؤال وحساب وجزاء بعد ذلك حتى لا يكون العود عبثياً.
والنفس اللوامة تؤدي نفس هذا العمل فهي محكمة لكنها محكمة ومحلها في دار الدنيا،فهي تنشط عندما يقوم الإنسان بأعمال الخير والصلاح وينال الثواب،وتقوم بدور التأنيب عند ارتكاب الأعمال السيئة والرذيلة وتؤثر على الوجدان،تؤنبه وتعذبه.
فالنفس اللوامة محكمة صغرى داخل الإنسان وظيفتها الحفاظ على الإدارة العامة لهذا المخلوق.
وكما توجد محكمة في هذا العالم الصغير،لابد من وجود محكمة لهذا العالم الكبير وهو المعاد.
فالنتيجة هي أن القسم الثاني يشير على الظاهر إلى ثبوت القسم الأول وهو المعاد،وهذا هو الرابطة والعلاقة بين القسمين.
النفس اللوامة:
إذا لاحظنا الآيات القرآنية نراها تضمنت الإشارة إلى حالات متعددة للنفس الإنسانية،ووصفـتها بأسماء مختلفة.
1-النفس الأمارة بالسوء:وهي النفس العاصية التي تدعو الإنسان إلى القبائح والرذائل باستمرار،وتزين له الشهوات،قال تعالى على لسان زوجة عزيز مصر حينما نظرت إلى عاقبة أمرها:- (وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي)[2].
والنفس الأمارة بالسوء هي التي تمشي على وجهها تابعة لهواها،قال تعالى:- (أرءيت من أتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلاً)[3].
2-النفس اللوامة:وهي ما ينصب عليها حديثنا،وهي نفس يقظة وواعية نسبياً،فهي تزل أحياناً لفقدها للحصانة الكافية أمام الذنوب والخطايا،وعادة ما تستيقظ هذه النفس بعد الوقوع في الآثام لتتوب وترجع إلى طريق الخير والسعادة.
وبتعبير آخر:إن هذه النفس قد يصيبها الانحراف،بل هو ممكن في حقها إلا أنه بنحو مؤقت غير دائمي فتعود سريعاً إلى نهج الحق والصواب.
وعلى أي حال هذه النفس هي نفس المؤمن التي تلومه في الدنيا على المعصية والتثاقل في الطاعة وتنفعه يوم القيامة.
ويعبر عن هذه النفس أيضاً بالضمير الأخلاقي،وهو قد يكون قوياً عند البعض ضعيفاً عاجزاً عند آخرين.
إلا أن الشيء الذي ينبغي الالتفات له هو أن هذه النفس لا تندثر وإن كثرت مساوئ الإنسان وذنوبه،نعم هي تضعف كما عرفت قبل قليل.
3-النفس المطمئنة:وهي النفس المتكاملة التي انتهت إلى مرحلة الإطمينان والطاعة،انتهت إلى مقام التقوى التامة والإحساس بالمسؤولية.
وهذه النفس يصعب انحرافها عن الجادة القويمة لعمق الارتباط والعلاقة مع الباري جلا وعلا،قال تعالى:- (يا أيتها النفس المطمئنة.ارجعي إلى ربك راضية مرضية.فادخلي في عبادي.وادخلي جنتي)[4].
الضمير:
قلنا أن النفس اللوامة عبارة عن الضمير الأخلاقي أو الضمير الوجداني داخل النفس البشرية فما هو الضمير؟….
هذه الكلمة تتكرر في أحاديثنا الاجتماعية كثيراً فيوصف شخص بكونه صاحب ضمير حي أو يقال فلان ضميره ميت،كما يقال لشخص ثالث بأنه لا ضمير له،فما هذا الضمير الذي يذكر في الأحاديث والكلمات اليومية مكرراً؟….
الضمير:هو الوجدان أو هو ذلك الشيء الذي سماه القرآن في حديثه عنه بالقلب،ونسب إليه ووصفه بالعمى والرعب والمرض والتشتت والإثم والريب والرين والقسوة واللهو وغير ذلك من صفات السوء.
ونسب إليه في نفس الوقت صفات الصحة والحسن والكمال كالفقه والتقوى والإطمينان والثبات والإيمان والطهارة والرأفة والخشوع والهداية إلى غير ذلك.
وقد ربط القرآن الكريم مصير الإنسان وحياته الذاتية والاجتماعية والدنيوية والأخروية بحركة هذا القلب والأوضاع والحالات التي يعيشها أو يتصف بها.
والظاهر أن المراد من الضمير هو الجانب الروحي الذي خلقه الله عز وجل في الإنسان،وهو الذي تتمركز فيه مجموعة من الصفات والأفعال الداخلية،والتي تتأثر بالإرادة والاختيار صعوداً ونزولاً وتكاملاً وتسافلاً والتي لها قابلية النمو والتـربية والتطور كالخير والعدل والإحسان.
ولا يخفى أن هذا الاتجاه قابل للتغيير والانحراف كما هو قابل للتكامل،كل ذلك بسبب أفعال الإنسان الإرادية التي يقوم بها،أو المؤثرات الخارجية.
وهذا الضمير عامل مهم في تعديل الغرائز النفسانية،بل هو أحد العوامل التي يعتمد عليها في تعديل غرائز الإنسان وتقويمها وتهذيبها.
وظيفة الضمير:
عرفنا سابقاً أن الضمير هو النفس اللوامة وعرفنا أنها محكمة داخلية وظيفتها رقابة الإنسان ومجازاته على كل ما يصدر منه من فعل أو عمل.
وعلى هذا فهذا الشيء تكون له وظيفة رئيسية في واقع الحياة البشرية لأن له الدور الأكبـر في تعديل الغرائز وتنظيمها والسيطرة عليها،إلا أنه توجد بعض العوامل تؤدي إلى موت هذا الضمير فتنتفي وظيفته المناطة به والملقاة عليه.
عوامل موت الضمير:
أشار القرآن الكريم إلى أسباب عديدة تؤدي إلى موت الضمير،وسوف نلخصها في سببين رئيسيين:
الأول:انهيار القاعدة الأخلاقية:
واختلال موازينها وضوابطها،ومن أهم أسباب هذا الانهيار التمرد على الله سبحانه وتعالى حيث أنه يؤدي إلى قسوة القلب وموت الضمير لكونه يكشف عن نقض العهود والمواثيق المأخوذة على الإنسان عند خلقه.
كما أنه يعبر عن كفران النعمة بدل شكرها،ويعبر أيضاً عن التخلي عن تحمل المسؤولية للاستخلاف الإنساني،وخيانة الأمانة التي تحملها الإنسان.
وبالجملة كل إنسان لا يكون منسجماً في سلوكه وتصرفاته مع الأحكام والحدود الشرعية فلا يطبق أحكام الله سبحانه ولا ينعكس إيمانه بالله تعالى على أعماله والتـزاماته يصاب بموت الضمير.
الثاني:حب الدنيا:
والانغماس في لذاتها وشهواتها والحرص على زخارفها واللهو بالأولاد والأموال عن ذكر الله سبحانه وتعالى.
وقد تحدثت الآيات القرآنية عن ما لهذا السبب من تأثيـر في قسوة القلب وبالتالي موت الضمير،قال تعالى:- (ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وان الله لا يهدي القوم الكافرين.أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم وأولئك هم الغافلون)[5].
وتحدثت نصوص أهل البيت(ع)عن ذلك،فقد ورد عن رسول الله(ص):حب الدنيا رأس كل خطيئة.وعن أمير المؤمنين(ع)في وصفه أثر حب الدنيا على قلب الإنسان:ومن لهج قلبه بحب الدنيا التاط قلبه منها بثلاث،هم لا يغب وحرص لا يتـركه وأمل لا يدركه.
وقد كان من أهم مقاصد الدين معالجة هذا السبب من خلال الوعظ والتحذير وبيان الدور الحقيقي للحياة الدنيا وموازنتها بالحياة الآخرة بأساليب متعددة،قال تعالى:- (زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب.قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا من الله والله بصير بالعباد)[6].
ومع أن حب الدنيا غريزة في النفس الإنسانية،إلا أن القرآن الكريم سعى إلى علاجها من خلال إثارة عوامل الورع والتقوى،ومن خلال التعويض عن نعيم الدنيا الزائل بثواب الآخرة ورضوان الله عز وجل.
مضافاً إلى بيان حقيقة الحياة الدنيا وتقويمها،قال تعالى:- (وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)[7].
وتزداد قوة هذا السبب وتأثيره إذا انتشرت وبشكل عام أسباب التـرف والدعة وانفتحت على الناس أبواب الأموال والثـراء والرخاء.
خاتمة:
بقي أن نشير إلى أن الإنسان يسمع نداء الضمير ويحس بتأنيبه فضلاً عن رقابته ليكون حكماً في المحكمة الصغرى ما لم يقيد بسلاسل الأسر ويغل بحلقات الأهواء وحب الجاه،خصوصاً وإن تكرار الذنوب مما يغطي الفطرة الطاهرة ويميت الضمير.
أما من قيد ضميره بمثل ذلك بحيث صار رهين ذنوبه ومعاصيه وكثرت خطاياه فهذا إن لم يمت ضميره بعد،إلا أنه صار أخرس لا يتكلم فلا صوت يصله يؤنبه ولا كلام يصيبه يوبخه.
—————————————————
[1] سورة القيامة الآية رقم 2.
[2] سورة يوسف الآية رقم 53.
[3] سورة الفرقان الآية رقم 43.
[4] سورة الفجر الآيات رقم 27-30.
[5] سورة النحل الآيتان رقم 107-108.
[6] سورة آلا عمران الآيتان رقم 14-15.
[7] سورة الحديد الآية رقم 20.