وأما الحديث عن النصوص، فقد عرفت اختلافها، وهي على طائفتين:
الأولى: ما جعلت المدار على سقوط قرص الشمس، وأنه متى سقط دخلت وقت المغرب:
منها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله(ع) قال: سمعته يقول: وقت المغرب إذا غربت الشمس فغاب قرصها[1]. وتقريب دلالتها على المدعى أن يقال: الظاهر أن المراد من غروب الشمس ما يقابل طلوعها، ولا يختلف اثنان في أن طلوع الشمس يتحقق بطلوع القرص، وهو الدائرة النورانية المرئية، فيكون المقصود بغروبها إذاً هو استتار تلك الدائرة وخفائها عن الأفق، نعم يختلف الأمران في أنه يكتفى في تحقق الطلوع بطلوع جزء من القرص، أما الغروب، فلا يتحقق إلا باختفاء جميع أجزائه.
ومنها: صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر(ع): وقت المغرب إذا غاب القرص فإن رأيت بعد ذلك، وقد صليت أعدت الصلاة ومضى صومك، وتكف عن الطعام إن كنت أصبت منه شيئاً[2].
وهي لا تقصر عن سابقتها من حيث الدلالة، إن لم يقل بكونها أوضح منها في ذلك، لكونها بينت تحقق الغروب بذهاب القرص، فلاحظ.
ومنها: مرسلة الصدوق قال: قال أبو جعفر(ع): وقت المغرب إذا غاب القرص[3].
وهي كما سبقها من حيث الدلالة، إلا أن المشكلة فيها من ناحية السند، فإنها ضعيفة بالإرسال، وإن كانت من مراسيل الصدوق(ره) الجزمية، لما ذكرناه في محله من عدم الفرق بين ما أرسله جازماً، وما جاء عنه بعنوان روي، فلاحظ.
ومنها: ما رواه جابر عن أبي جعفر(ع) قال: قال رسول الله(ص) إذا غاب القرص أفطر الصائم، ودخل وقت الصلاة[4].
وهي من حيث الدلالة على المدعى صريحة جداً، نعم في سندها ضعف لوجود عمرو بن شمر، لتضعيف النجاشي إياه، وعدم وجود ما يصلح لمعارضته في مقام إثبات وثاقته، فلاحظ.
ومنها: مرسلة علي بن الحكم عمن حدثه عن أحدهما(ع)، أنه سئل عن وقت المغرب؟ فقال: إذا غاب كرسيها، قلت: وما كرسيها؟ قال: قرصها، فقلت: متى يغيب قرصها؟ قال: إذا نظرت إليه فلم تره[5].
ولا يخفى صراحة دلالتها في المدعى، خصوصاً وأن السائل قد كرر الطلب في بيان حقيقة الموجب لتحقق الغروب، وقد كانت إجابة الإمام(ع) بينة صريحة. نعم لا تصلح الرواية المذكورة للدلالة على المدعى بسبب الإرسال، ويمكن جعلها مؤيداً، فلاحظ.
هذا وقد احتمل صاحب الوسائل(ره) أن يكون المقصود من قوله(ع) إذا نظرت فلم تره، ليس نفي رؤية القرص فقط، بل نفي رؤيته، ورؤية أثره، وهو الشعاع والحمرة المشرقية[6].
وهو خلاف الظاهر جداً، والمصير إليه يحتاج قرينة واحة، وهي مفقودة في المقام.
ومنها: معتبرة إسماعيل بن الفضل الهاشمي عن أبي عبد الله(ع) قال: كان رسول الله(ص) يصلي المغرب حين تغيب الشمس حيث يغيب حاجبها[7].
وهي وإن كانت تحكي فعلاً عن المعصوم(ع)، وبالتالي يدعى إجماله، وعدم دلالته في الإلزام أو الترخيص، إلا أن ذلك غير متصور في المقام، ضرورة أن الحكاية تكشف عن إيقاعه الصلاة بعد غيبوبة قرص الشمس، وهذا يعني الإشارة إلى أنه قد دخل وقت الصلاة، لذا أوقع صلاته(ص)، فلاحظ.
نعم احتمل صاحب الوسائل(قده) فيها النسخ، وهو كما ترى.
ومنها: خبر عمرو بن أبي نصر، قال: سمعت أباب عبد الله(ع) قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول في المغرب: إذا توارى القرص كان وقت الصلاة، وأفطر[8].
ودلالتها وإن كانت تامة، إلا أنها تعاني ضعفاً سندياً بوجود موسى بن جعفر البغدادي، فإنه لم تثبت وثاقته، فلاحظ.
ومنها: خبر الصباح بن سيابة وأبي أسامة، قالا: سألوا الشيخ(ع) عن المغرب فقال بعضهم: جعلني الله فداك، ننتظر حتى يطلع كوكب؟ فقال: خطابية؟! إن جبرائيل نزل بها على محمد(ص) حين سقط القرص[9].
ويستفاد من تعبيره(ع) بالخطابية، أن الانتظار لحين ذهابا لحمرة المشرقية كان من مكذوبات أبي الخطاب، وأن الوقت الفعلي لصلاة المغرب هو سقوط القرص وغيبوبته، كما هو واضح.
هذا وقد يمنع الاستناد إلى الخبر المذكور بلحاظ كون أحد روايـيه هو الصباح بن سيابة، وهو ممن لم ينص على وثاقته في كلمات الأصحاب.
ومنها: خبر أبي أسامة الشحام، قال: قال رجل لأبي عبد الله(ع): أؤخر المغرب حتى تستبين النجوم؟ فقال: خطابية؟! إن جبرائيل نزل بها على محمد(ص) حين سقط القرص[10].
وهي من حيث الدلالة لا تختلف عما تقدمها، نعم في سندها كسابقتها زيد الشحام، أبو أسامة، وقد نص الشيخ(ره) على وثاقته، كما أن العلامة(ره) ذكره في القسم الأولى من الخلاصة، وحكى كلام النجاشي فيه، وتمنت عبارته أنه عين ثقة، مع أن الموجود في نسخة النجاشي خلوها من هذا التعبير، لذا أشار بعض الأعاظم(ره) إلى وجود احتمالين في العبارة المذكورة:
الأول: أن يكون هناك اختلاف في نسخة كتاب النجاشي في هذا المورد، بحيث تكون نسخة العلامة(ره) مشتملة على هذه العبارة دون غيرها من النسخ.
الثانية: أن يكون التعبير المذكور من العلامة(ره) نفسه اعتماداً منه على توثيق الشيخ(قده) له[11].
أقول: إن وجود مثل هذه التعبيرات في كلمات العلامة(ره) تعتبر واحدة من صغريات البحث في قبول توثيقات المتأخرين بين الأعلام، كما فصل في محله، فلاحظ.
ومنها: معتبرة صفوان بن مهران قال: قلت لأبي عبد الله(ع): إن معي شبه الكرش المنثور، فأوخر صلاة المغرب حتى عند غيبوبة الشفق ثم أصليهما جميعاً يكون ذلك أرفق بي؟ فقال: إذا غاب القرص فصل المغرب، وإنما أنت ومالك لله[12].
ومنها: صحيحة بكر بن محمد عن أبي عبد الله(ع) قال: سألته عن وقت صلاة المغرب؟ فقال: إذا غاب القرص[13].
وقد اتضح مما تقدم عرضه تمامية دلالة هذه النصوص على أن الغروب يتحقق بسقوط القرص، وأنه متى غابت الشمس بأن غاب قرصها، فقد جاز الإفطار، ووجبت صلاة المغرب.
وقد أعترض على دلالة هذه النصوص على ما ذكر باعتراضات:
منها: إننا نسلم بدلالة النصوص المذكورة على أن الغروب يتحقق بسقوط القرص، إلا أن التعبير بـ(سقوط القرص) لا يخلو عن إجمال، إذ يمكن حمله على تحقق الغروب بمجرد سقوط القرص، فيكون سقوطه كاشفاً عن تحقق غروب الشمس الذي هو المعيار في دخول وقت المغرب، أو يكون سقوط القرص نفسه هو السبب لدخول وقتها. كما يمكن حمله على أن المقصود من سقوط القرص ذهاب الحمرة المشرقية، لأنه علامة على غروب الشمس، أو علامة على سقوط القرص.
والحاصل، إن التعبير بسقوط القرص تعبير مجمل، يمكن التمسك به لكلا القولين، سواء القائلون بأن الغروب يتحقق بمجرد غيبوبة قرص الشمس، أو ذهاب الحمرة، فتكون هذه النصوص صالحة للدلالة على القولين، ومع التردد يكون اللفظ مجملاً، فلا يصح الاستناد إليها حينئذٍ.
والإنصاف، أن تصور الإجمال في بعض النصوص ممكناً، إلا أن جملة منها تأبى ذلك، ففي صحيحة عبد الله بن سنان، والتي تضمنت قوله(ع): إذا غربت الشمس، فغاب قرصها، فإن التعبير بقوله(فغاب) يشير إلى أن المقصود هو ذهاب القرص، فأي معنى يتصور للقول بذهاب الحمرة، وأي إجمال يحتمل في المقام. ولاحظ معتبرة الهاشمي، إذ جاء فيها: حيث يغيب حاجبها. وكذا لاحظ رواية الخثعمي.
فالإنصاف، إن القول بوجود إجمال، وعدم وضوح للمقصود من هذه النصوص مجازفة.
ومنها: ما جاء في الحدائق، وحاصله: إن لفظ القرص ولفظ الشمس بمعنى واحد، ولفظ الغيبوبة ولفظ الغروب، بمعنى واحد، فإذا كان التعبير بغروب الشمس يتضمن إجمالاً، وأمكن حمله على القولين، فكذلك لفظ غيبوبة القرص، يكون مستبطناً للإجمال، ويمكن حمله على القولين[14].
وقد عرفت فيما تقدم عدم وجود إجمال في غيبوبة الشمس، إذ أنه معنى واضح، كما أن الأكثر وضوحاً منه غيبوبة القرص، خصوصاً وأن الظاهر أن التعبيرين يعودان معنى واحد، بمعنى أن غيبوبة القرص تفيد غيبوبة الشمس، فلاحظ.
ومنها: ما ذكره الفقيه المحقق السيد البروجردي(قده)، من وجود محتملات في هذه النصوص:
أحدها: أن يكون الاعتبار باستتار الشمس وغيبوبتها عن الأنظار مطلقاً، سواء كان ذلك بسبب وجود مانع كالجبل، أو وجود حاجب، أم لا.
ثانيها: أن يكون الاعتبار باستتارها عن أفق المصلي بحيث لا يكاد يراها أحد من الساكنين في هذا الأفق، حتى مع عدم وجود حاجب، أو مانع.
ثالثها: أن يكون الاعتبار باستتارها ووقوعها تحت الأفق الذي يكون المصلي واقعاً فيه، وكذلك عن أفق جميع الأراضي الموافقة لهذه الأرض من حيث الأفق.
رابعها: أن يكون المراد استتارها عن الأفق الحقيقي المنصف للكرة.
ووفقاً لما تقدم، نقول، بأن لفظة الاستتار والغيبوبة وإن لم تكن من الألفاظ المجملة بحسب المفهوم، إلا أنه يجري فيها باعتبار المستور عنه هذه الاحتمالات الأربعة، فتكون الروايات من هذه الحيثية مجملة[15].
وأجيب عنه، أولاً: بأن المنساق عرفاً من روايات هذه الطائفة هو استتار القرص عن الأفق الظاهري لبلد المصلي، فلا إجمال في المستور عنه، وبالتالي لا إجمال في روايات هذه الطائفة.
ثانياً: إن المستفاد من الآية الكريمة والنصوص التي دلت على إناطة دخول الوقت بسقوط قرص الشمس وغيبوبتها عن الأنظار طبقاً للأفق الظاهري، وهو الخط المنحني الذي تبدو السماء عنده منطبقة على الأرض، هو أن المناط في الغروب ليس الأفق الحقيقي، أو تمام الأفق، واختلاف الأفق الظاهري باختلاف البلدان وارتفاع الأرض والماء لا ضير فيه حينئذٍ، فالنهار العرفي أمر منضبط، والمتبع في أوقات الصلوات هو التحديد الشرعي للوقت والذي تنطق به الأدلة، وإن خالف الحسابات الفلكية[16].
ويمكن التأيـيد لما ذكر أن النصوص الشريفة لما كانت بصدد بيان الوظيفة الشرعية للمكلف، فإن ذلك يساعد على كون المقصود هو الأفق الظاهري لبلده، ولا معنى لبقية المحتملات الأخرى، فلاحظ.
[1] وسائل الشيعة ب 16أبواب المواقيت ح 17.
[2] المصدر السابق ح 17.
[3] المصدر السابق ح 18.
[4] المصدر السابق ح 20.
[5] المصدر السابق 25,
[6] المصدر السابق ص 181.
[7] المصدر السابق ح 27.
[8] المصدر السابق ح 30.
[9] وسائل الشيعة ب 18 من أبواب المواقيت ح 16.
[10] المصدر السابق ح 18.
[11] معجم رجال الحديث ج ص 375.
[12] المصدر السابق ح 24.
[13] وسائل الشيعة ب 23 من أبواب المواقيت ح 3.
[14] الحدائق الناضرة ج 6 ص 166.
[15] نهاية التقرير ج 1 ص 166.
[16] مسائل من الفقه الاستدلالي الحلقة الثالثة ص 38، 40.