صفات المتقين الإنفاق من رزق الله
الصفة الثالثة من صفات المتقين، هي الإنفاق مما رزقهم الله سبحانه وتعالى، وهي أيضاً من آثار الإيمان كالصفة الثانية، نعم تختلف عنها في أن الصفة الثانية والتي هي إقامة الصلاة، تمثل الارتباط بين المتقين، وبين الله تعالى، وأما هذه الصفة فإنها تمثل الارتباط بين المتقين والناس.
حقيقة الرزق:
لا ينحصر الرزق الذي عدّ صفة من صفات الله تعالى فإنه الرزاق، في خصوص الجانب المالي، بل يشمل جميع المواهب التي منحها الله تبارك وتعالى للإنسان، فيكون اللفظ مطلقاً شاملاً، ويساعد على استفادة الإطلاق من الآية الشريفة وجود كلمة(ما)، الموصولة، فيكون رزق الله في الآية شاملاً: المال، والجاه، والعلم، والسلطة، وغير ذلك. لأن جميع ما ذكر مصاديق للرزق الإلهي، ويكون إنفاق كل منها بحسبه. ويساعد على ما ذكرنا ما ورد عن الإمام الصادق(ع) بياناً لصفة الإنفاق من الرزق الإلهي والتي تضمنتها الآيات التي تتحدث عن المتقين، وهو قوله تعالى:- (ومما رزقناهم ينفقون)، قال(ع): ومما علمناهم يبثون، ومما علمناهم من القرآن يتلون. حيث ذكر(ع) مصداقين للإنفاق، وهما بث العلم، وتلاوة القرآن الكريم، وهما بعيدان كثيراً عن العامل المادي.
ووفقاً لما ذكر، لن يكون المقصود من الإنفاق المذكور في الآية الشريفة، والذي عدّ إحدى صفات المتقين مختصاً بالبعد المالي كما عرفت. اللهم إلا أن يدعى وجود قرينة مانعة من البناء على سعة المدلول وحصره في خصوص البعد المالي، والقرينة المقصودة هي مناسبة الحكم للموضوع، مما يوجب اختصاص الانفاق عندها في الآية الشريفة بخصوص الإنفاق المالي، كما هو الشأن في بقية الآيات الأخرى. ويؤيد ذلك أنه من غير المتعارف التعبير عن بذل العلم، وتعليمه بالإنفاق، وكذا السعي في قضاء حوائج الناس لوجاهة ومكانة اجتماعية بالإنفاق.
والحاصل، لقائل أن يقول، بأن القدر المتيقن من المقصود بالإنفاق في الآية هو خصوص الإنفاق المالي ليس إلا.
المال مال الله:
وتعدّ الآية المباركة واحدة من الآيات القرآنية التي يستدل بها على إثبات النظرية القرآنية والتي تقرر أن المال مال الله تبارك وتعالى، والإنسان مجرد أمين عليه، ومستخلف فيه، ويشير لهذا المعنى أيضاً قوله تعالى:- (وأنفِقوا مما جعلكم مستخلفين فيه)، فالإنسان لا ينفق من عند نفسه، وإنما هو ينفق مما قد استخلفه الله تعالى فيه.
والقرآن الكريم إذ يشير لهذا المعنى ويؤكد عليه، يعمد إلى دفع وهم قد يحصل عند الإنسان إذ ربما تصور أنه المالك الحقيقي لما يحصل عليه من مال أو يستولي عليه بواسطة أحد الطرق المشروعة، فلا يكون لأحد الحق في أن يتدخل في ما يكون تحت يده، أو يلزمه أن يصرفه في جهة ما أو يصرف منه على جهة ما، وهذا وإن كان في الجملة في محله، اعتماداً على القاعدة المعروفة: الناس مسلطون على أموالهم، إلا أن الذي ينبغي عدم الغفلة عنه أن هذه الملكية الثابتة للإنسان لما تحت يده، منحصرة فيما بين الناس مع بعضهم البعض، وأما بالنسبة للعبد وربه، فإن الأمر يختلف تماماً، لأن الملكية الحقيقية لله تعالى وحده، لا شريك له في ذلك ولا منازع، وهو صاحب السلطة الكبرى، وهو تعالى متى رزق شخصاً ما برزق، فإن العبد إنما يملك مما رزقه الله تعالى مقداراً مخصوصاً منه، ويبقى الباقي لله تعالى. ومثاله البيّن الخمس، فإن العبد متى رزقه الله سبحانه، فإنه يملك أربعة أخماس من المال ملكاً حقيقياً، وأما الجزء الخامس منه، فملك الإنسان إياه ملك صوري، وليس ملكاً حقيقياً، ولا يتوهم أحد أن في رفع يد الإنسان عن ملكية الجزء الخامس جوراً أو تعدياً وظلماً له، لأن المفروض أن مَن ملكه المال قد شرط عليه منذ البداية أنه لا يملك منه إلا أربعة أجزاء وتكون ملكيته للجزء الخامس ملكية صورية.
وهذا المثال مجرد الغرض منه تقريب الفكرة، وإلا فالمالك الحقيقي للأجزاء الخمسة هو الباري سبحانه وتعالى، والمال كله هبة من الله عز وجل.
ومع أن المال مال الله تعالى، والإنسان مستخلف فيه، ولا ينفق من عند نفسه، نجد الله سبحانه وتعالى حين مخاطبة الإنسان ودعوته إياه للإنفاق، لم يخاطبه بما يوجب له الحياء والخجل، وإنما عمد حين المخاطبة إلى استعمال مؤثر آخر، وذلك ببيان ما يترتب على الانفاق من الأجر والجزاء الكبيرين، فقال تعالى:- (فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير).
ومع حث الله تعالى الإنسان على الإنفاق مما رزق الله تعالى عبده، إلا أنه لم يطلب منه انفاق كل ما تحت يده، بل طلب منه أن ينفق مما رزقه سبحانه وتعالى، وهو يتحقق من خلال انفاق بعض ما تحت يده، وهذا المعنى يستفاد من الآية محل البحث لوجود(من)، التبعيضية، قال تعالى:- (ومما رزقناهم)، فإن الآية هكذا: ومن ما رزقناهم، فأدغمت الميم في النون، فصارت: ومما رزقناهم.
قصة وعبرة:
ومع أن الله تعالى قد طلب منا أن ننفق بعض ما عندنا، إلا أن بعض الناس قد امتنع حتى عن انفاق البعض، ومن جميل ما يذكر أن سيداً سافر مع عبده، وبعد مدة من الزمن أرسل له عياله وأهل بيته يطلبون منه النفقة لنفاذ ما عندهم، فأعطي السيد عبده ألف دينار، وأمره أن يوصلها إلى عياله، وأعطاه نفقة السفر عشرين ديناراً، وقبل أن يمشي العبد خطوات، أبلغه السيد أن يعطي العيال ثمانمائة دينار، ويأخذ لنفسه مائتين، ففرح العبد بذلك وشكر سيده كثيراً، وبعد مشي العبد خطوات، أمره السيد أن يدفع لعياله ستمائة دينار، ويأخذ لنفسه أربعمائة، ففرح العبد كثيراً وزاد شكره ومدحه لسيده، فعاد السيد، وأبلغ العبد أن يأخذ هو ستمائة دينار، ويدفع للعيال أربعمائمة، فلم تسع الدنيا العبد من الفرح، ولما ركب السفينة وقبل أن تتحرك، قال السيد لعبده خذ ثمانمائة دينار، وأعطي العيال مائتين فقط، ووصل العبد إلى بلده، ولم يسلم العيال ديناراً واحداً، بل أخذ الألف بأكملها.
وهكذا نحن، فإن الله تعالى فرض علينا الخمس، فجعل في الألف مائتين فقط، وأبقى لنا ثمانمائة، إلا أننا لم نرض بذلك، فأكلنا الألف بأكملها.
موارد الإنفاق:
وربما يعترض على القبول بالاحتمال المتقدم في حصر الإنفاق من رزق الله تعالى في خصوص الإنفاق المالي، بعدم الموجب لعدّ ذلك واحدة من صفات المتقين التي يختصون بها، لأن الانفاق يكون من غيرهم أيضاً كما يكون منهم.
ويندفع الاعتراض المذكور حال الإحاطة بأنواع الانفاق، فإن الإنفاق ليس نوعاً واحداً، بل هو على نوعين:
الأول: الانفاق الالزامي.
الثاني: الإنفاق التطوعي.
الانفاق الإلزامي:
وللنوع الأول وهو الانفاق الالزامي مصداقان:
أحدهما: الضرائب المالية التي تترتب على المال، وهي: الزكاة، والخمس.
ثانيهما: الضرائب المالية، والتي تترتب على الأعمال، وهو عبارة عن الكفارات، والتي تعتبر عقوبة دنيوية يقصد منها تخفيف العقوبات الأخروية على الإنسان بسبب المخالفة التي قام بها.
الانفاق التطوعي:
وأما النوع الثاني، وهو الانفاق التطوعي، فقد حث الشارع المقدس عليه كثيراً، وقد تضمنت جملة من النصوص بياناً لشيء من الدواعي لهذا الحث فإنه يُوجد نوعاً من الترابط والتماسك والاحساس الجماعي بين أفراد المجتمع، فقد قال الإمام الصادق(ع) لعمار الساباطي: إنك رب مال كثير، فتؤدي ما أفترض الله عليك من الزكاة؟ قال: نعم. قال(ع): فتخرج الحق المعلوم من مالك؟ قال: نعم. قال: فتصل قرابتك، وتصل إخوانك؟ قال: نعم، قال(ع): يا عمار، إن المال يفنى، والبدن يبلى، والعمل يبقى، والديّان حي لا يموت، يا عمار إنه ما قدّمت فلم يسبقك، وما أخرت فلن يخلفك. وهو(ع) يشير إلى ضرورة الاحساس بالآخرين عوضاً عن أن يستجيب الإنسان للرغبات، فيتفنن في ألوان وأساليب البذخ.
وقد مثل أهل البيت(ع) هذا النموذج من الاحساس بالمسؤولية إزاء الآخرين، فقد قال رجل للإمام الصادق(ع): بلغني أنك كنت تعمل في غلة عين زياد، شيئاً وأنا أحب أن أسمعه منك، قال: فقال لي: نعم، كنت آمر إذا أدركت الثمرة أن يثلم في حيطانها الثلم، ليدخل الناس ويأكلوا، وكنت آمر في كل يوم أن يوضع عشر ثُبنات[1] يقعد على ثُبنة عشرة، كلما أكل عشرة جاء عشرة أخرى، يُلقى لكل نفسه منه مدّ رطب، وكنت آمر لجيران الضيعة كلهم، الشيخ والعجوز والصبي والمريض والمرأة، ومن لا يقدر أن يجيء، فيأكل منها، لكل انسان منهم مداً، فإذا كان الجذاذ، أوفيت القوّام والوكلاء والرجال أجرتهم، وأحمل الباقي إلى المدينة، ففرقت في أهل البيوتات والمستحقين الراحلتين والثلاث، والأقل والأكثر على قدر استحقاقهم، وحصل لي بعد ذلك أربعمائة دينار، وكانت غلتها أربعة ألاف دينار.
ومن هنا يتضح أن صفة الإنفاق والتي عدّت واحدة من صفات المتقين، يقصد بها الانفاق التطوعي، والذي يحمّل صاحبه روح الاحساس بالمسؤولية إزاء الآخرين، ويسعى للقيام بشؤونهم والانفاق عليهم.
ولم يقتصر دور الشارع المقدس في حث الإنسان على الإنفاق لكونه عملاً إنسانياً، تكافلياً بين أفراد المجتمع، بل تضمنت مجموعة من الآيات تعهد الله تعالى للمنفق بالجزاء على انفاقه في الدنيا والآخرة، قال تعالى:- (وما تنفقوا من خير يُوف إليكم وأنتم لا تُظلمون).
[1] وهي الموضع الذي تحمل فيه، نظير الإناء، أو الزبيل، أو ما شابه ذلك.