المظلومية دافع التغيير

لا تعليق
كلمات و بحوث الجمعة
224
1

 

المظلومية دافع التغيير

 

مثلت مظلومية الإمام الحسين(ع) عنصر قوة في نهضته المباركة، ولم تكن سبباً موجباً لضعفها، كما أنها أحد الموجبات التي جعلها تتخذ شعاراً ونموذجاً للأحرار في العالم ينطلقون منها في الوصول إلى غاياتهم وأهدافهم، فكانت المظلومية الحسينية دافعاً يتحرك من خلاله جميع الأحرار في قيامهم ضد الظلمة والطغاة للوصول إلى أهدافهم وغاياتهم ضد الظلم والاستبداد والقهر وما شابه ذلك.

ومع وجود هذا الأثر للمظلومية الحسينية في الواقع الحياتي، فإن الأمر يستدعي الوقوف عندها رغبة في معرفة كيفية الاستفادة منها في مجالات الحياة المختلفة مثل الناحية السياسية، والاجتماعية، والأخلاقية فضلاً عن الناحية الدينية، وبقية النواحي الأخرى.

 

حقيقة المظلومية:

الموجود في كلمات اللغويين حول مفهوم المظلومية وحقيقته، أنه عبارة عما يلحق المظلوم بفعل الظالم من الجور والأذى والحيف والتجاوز والابتزاز ونهب الحقوق والقتل وسلب الممتلكات.

وعناصرها فردان، المتعدي، ويعبر عنه بالظالم، والمتعدى عليه ويقال له مظلوم، والفعل الواقع وهو الظلامة.
والحاصل، إن المستفاد من كلماتهم أن حقيقة هذا المفهوم هو كل تعدٍ يصدر من الظالم تجاه المظلوم، سواء كان التعدي مادياً أم كان معنوياً. ولذلك مصاديق متعددة، فمن مصاديق التعدي المعنوي الإهانة والسباب، والشتم، والإضطهاد، وغير ذلك. وأما مصاديق التعدي المادي، فمثل سلب الحقوق، والأذى بالضرب مثلاً، والجور بنحو يتضمن التجاوز حتى يصل إلى القتل، وسلب الممتلكات، وغير ذلك.

 

المظلومية والرؤية الدينية:

وقد أولى الشارع المقدس هذا المفهوم أهمية خاصة كما يظهر ذلك لكل من راجع النصوص الدينية، سواء الآيات القرآنية الشريفة أم النصوص المعصومية المباركة.

وقد اعتنت هذه النصوص بالمظلوم عناية خاصة، كما تصدى القرآن الكريم للدفاع عنه في غير واحدة من آياته المباركة بحماسة وقوة، حتى أنه قد عمد إلى مراعاة أحاسيسهم ومشاعرهم.

وقد عرض القرآن الكريم ذلك بصور مختلفة وبأساليب متعددة حسب المورد الذي تذكر فيه:

 

فمن تلك الموارد، قوله تعالى:- (والذين إذا اصابهم البغي هم ينتصرون وجزاء سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على الله إنه لا يحب الظالمين، ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل، إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض) ، فإن التعاطف القرآني في هذا النص مع المظلومين واضح جداً، ويتجلى ذلك من خلال نفيه السبيل عليهم وجعله السبيل على الظالمين، ومعنى نفي السبيل أنهم ليسوا في موقف المحاسبة، أو في موضع المحاكمة والمراقبة.

بل أكثر من ذلك، فإن ظاهر الآية الشريفة جعل القرآن الكريم واحدة من مهام ومسؤوليات المظلومين قيامهم بمحاربة المظلوميات بكل ألوانها والسعي للقضاء عليها وعلى صناعها، وليس السعي في إنتاجها وصناعتها بأي وجه من الوجوه.

وبالجملة إن المستفاد من الآية الشريفة جعله سبحانه وتعالى حق المواجهة للمظلومين مع الظالمين، وهذا يشير إلى وجود مناشىء قرآنية للنهضة الحسينية المباركة، وأن نهضة الإمام الحسين(ع) كانت نابعة ومستقاة من القرآن الكريم.

 

ومنها: قوله تعالى:- (والذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة ولأجر الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون) ، فيلزم كل من وقع عليه ظلم أن يعمد للهجرة من بلده الذي ظلم فيه، ولا يحق له البقاء فيه، حتى يرفع الظلم عن نفسه، وهذا يعني أن الهجرة من بلد الظلم يشكل وظيفة مطلوبة من المظلوم تنفيذها وتطبيقها خارجاً،  فلا يبقى مستسلماً لما وقع عليه.

وتعتبر هذه الهجرة هجرة في سبيل الله تعالى، وهي أول خطوات المقارعة للظلم والظالم، ومن بعدها تأتي الثورة والمواجهة مع الظالمين، وإلى هذا يشير قوله تعالى:- (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) ، ويعتبر هذا النص القرآني مرسوماً إلهياً في الإسلام لإعلان الحرب المفتوحة على الظالمين، وحث المظلومين على الجهاد.  ويساعد على ذلك استثناؤه سبحانه وتعالى ثورة المظلومين من ثورة الغاوين على الظالمين، قال تعالى:- (والشعراء يتبعهم الغاوون، ألم ترى أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا) ، وهو بهذا ينفي عن عملهم الذي يقومون به بالمواجهة مع الظلمة صفة الغواية.
بل نجد أنه سبحانه وتعالى قد أجاز للمظلوم ما قد منعه على الآخرين فقد قال عز من قائل:- (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعاً عليماً).

ومما يشير لمدى العناية والاهتمام القرآني بالمظلومين جعله سبحانه وتعالى سلطان القتل لمن قتل مظلوماً، فيمكن لوليه أن يقوم بذلك وفق شروط مذكورة في محله.

بل قد اعتبر الباري سبحانه وتعالى صفة الظلم فتنة من الفتن التي ينبغي على المؤمنين الحذر والاتقاء منها، فقال سبحانه:- (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة).

وبالجملة، يظهر من خلال الصور العديدة التي عرضها القرآن الكريم للمظلومية مدى دعمه وتأييده لأصحابها وعنايته الخاصة بهم.

 

ولم يكتف القرآن الكريم بذلك، بل عمد إلى تخليد الكثير من المظلوميات المأساوية، والمؤلمة التي شهدها التاريخ البشري، ليكشف بذلك عن تضامنه مع المظلومين واستنكار ما اقترفته أيدي الظالمين من انتهاكات وجرائم بحق الإنسانية.

ومن أوائل تلك الظلامات التي خلدها القرآن الكريم، جريمة قتل قابيل لأخيه هابيل، قال تعالى:- (فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله). وهو بهذا يعمد إلى تخليد هابيل على مر العصور والأزمنة.
ومن تلك الظلامات التي خلدها أيضاً ما وقع على الأنبياء والمرسلين من قتل وتعذيب وتنكيل، قال عز من قائل:- (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم) ، وهذا سوف يكون سبباً لخلود الأنبياء والمرسلين نتيجة ما وقع عليهم.

ومن تلك الموارد أيضاً التي خلدها القرآن الكريم نتيجة ما وقع على أصحابها من ظلامة، نبي الله يوسف(ع)، فقد ابتدأت ظلامته بعدما ألقاه أخوته في الجب، ثم أصبح عبداً رقيقاً، ولاقى من الأذى حتى زج به في السجن، كما هو مفصل في قصته(ع).

والمورد الرابع الذي يمكن ذكره في المقام، الفتيات اللاتي كن يقتلن من دون جرم ولا سبب أيام الجاهلية إلا لأنهن فتيات، يقول سبحانه وتعالى:- (وإذا المؤودة سئلت).

 

التضامن مع المظلوم:

لا ريب أن مقتضى العناية الخاصة والاهتمام الصادر من الشارع المقدس تجاه المظلوم، لزوم التضامن والتعاطف معه، إلا أن ذلك مشروطاً، ما يعني المنع من التضامن مع كل مظلوم والتعاطف معه، بل يكون ذلك مختصاً بمن يكون مستجمعاً شروطا خاصة، تضمنتها النصوص الشريفة، وهذا يستوجب تنويع المظلومين من حيث استحقاقه للتعاطف وعدمه إلى نوعين:

 

أحدهما: من لا يستحق التعاطف والتضامن معه، وذلك لكونه من أعان على نفسه، حيث لم يدفع عن نفسه ما وقع عليه من ظلم، فلم يقم بالمطالبة بحقوقه مثلاً، ولم يطالب بحريته الدينية، ولم يتخذ أي موقف تجاه ما وقع عليه من اضطهاد، وهكذا.

 ثانيهما: من يكون مستحقاً للتضامن والتعاطف، لأن ما وقع عليه من ظلم كان خارجا عن إرادته، وقد عمد للتحرر من ذلك والتخلص منه، إلا أنه لم يوفق لذلك.

والحاصل، هناك شروط لابد من توفره في الشخص المظلوم كي ما يكون محلاً للتضامن معه والتعاطف، نعم لا يستفاد من الآيات الشريفة هذا التفصيل، ذلك أن شيئاً من الآيات التي تحدثت عن هذا المفهوم وما يرتبط به، لم تشر من قريب أو بعيد لاعتبار شيء في استحقاق المظلوم للتضامن والمساندة والمساعدة. وهذا يعني اطلاقها فتكون المساندة والتعاطف لكل من كان متصفاً بهذا الوصف مطلقاً.

 

إلا أن الحق عدم تمامية الاستدلال المذكور، ذلك إن الآيات الشريفة ليست في مقام البيان من هذه الجهة، وعليه يلزم الرجوع للنصوص المباركة، وهي وإن لم تختلف عن الآيات القرآنية من حيث العناية والاهتمام بالمظلوم والعناية بها، إلا أنها تضمنت شيئاً اضافياً وهو عرض لشروط اللازم توفرها في المظلوم الذي يستحق المساندة والمساعدة والتعاطف، وتلك الشروط هي:

 

الأول: الإخلاص في التوجه لله سبحانه وتعالى، فيعتقد أن لا ناصر له على من ظلمه إلا الله سبحانه وتعالى. ويشير إلى هذا قول النبي الأكرم محمد(ص): اشتد غضبي على من ظلم من لا يجد ناصراً غيري.

الثاني: أن لا يكون المظلوم مشاركاً للظالم في صناعة مظلوميته، فلا يكون المظلوم مستسلماً للظالم وقابلاً بما وقع عليه من ظلامة دون أن يبرز أيما رفض واعتراض لذلك. فالمظلوم مطالب أن يسعى لرفع ما وقع عليه، ويعيد لنفسه كرامتها وعزتها، ويستفاد هذا الشرط من عدة آيات قرآنية مثل قوله تعالى:- (أذن للذين يقاتلون أنهم ظلموا وأن الله على نصرهم لقدير) ، ويظهر هذا أيضاً من الآيات المتحدثة عن الهجرة بالنسبة للمظلومين، وغير ذلك.

والحاصل، تركز الآيات القرآنية على مطلوبية رفع المظلوم الظلامة عن نفسه، ولو لم يسع الإنسان في ذلك كان مشتركاً في ظلامة نفسه، ما يمنع من التعاطف والتضامن معه.

 الثالث: أن لا يكون المظلوم ظالماً لآخرين بما يماثل ظلامته، فلا يستحق المظلوم من قبل جهة ما لمصادرة حقوقه ومنعه من حريته، ما دام في منزله مصادرا لحقوق عياله وسالباً لحرياتهم.

ويشير لهذا الشرط ما ورد عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع)، أنه قال: إن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي لا أجيب دعوة مظلوم دعاني في مظلمة ظلمها ولأحد عنده مثل تلك المظلمة.

 

الرابع: أن لا يكون المظلوم راضياً بظلم الآخرين، بمعنى يعتبر في استحقاق المظلوم التعاطف والتضامن أن لا يكون متضامناً مع الظالمين في ظلمهم للآخرين. فإن تضامنه معهم ينفي عنه صفة المظلومية، ويجعله شريكاً معهم في الظلامة فيكون متصفاً بصفة الظلم، ويكون ظالماً. ويستفاد اعتبار هذا الشرط من النصوص، فقد ورد عن أبي عبد الله الصادق(ع) أنه قال: من عذر ظالماً بظلمه سلط الله عليه من يظلمه فإن دعا لم يستجب له، ولم يأجره الله على ظلامته.

ومن الواضح أن الموجب لعدم استحقاقه الأجر منه سبحانه وتعالى يعود لكونه ظالماً نتيجة رضاه بظلم الظالم.

 

الخامس: عدم تجاوز الحدود الشرعية المجعولة من قبل الشارع المقدس، فلا يسرف في دائرة التصرف المتاح له التصرف فيها، ولا يتعدى ما أجيز له الحركة فيه. فيتقيد حين دعائه على عدوه بالانتقام بالحدود المسموحة له من الشارع المقدس، فلا يتجاوزها، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: إن العبد ليكون مظلوماً فلا يزال يدعو حتى يكون ظالماً.

 

المظلومية الحسينية:

لا يختلف اثنان في أن واقعة الطف قد حملت بين جوانبها صوراً متعددة من صور الظلم والاضطهاد والقهر، بل اشتملت على صور من ذلك قد اختصت بها فلم تجر في غيرها من الوقائع. وهذا يستوجب العمد لمحاولة تحديد كيفية قراءة هذه المظلومية الحسينية ومحاولة معرفة اهدافها، فإن المظلومية لا تنحصر في خصوص البعد العاطفي المتمثل في البكاء ليلاً ونهاراً مثلاً دون أن يكون هناك هدف آخر. بل تكون سبباً لحصول الوعي والمعرفة، وإيجاد الحلول والإيجابيات.

وقد أوجب هذا تعدد ألسنة النصوص في الحديث عن ذلك:

 

منها: ما تضمن التأكيد على عنوان مظلومية الإمام الحسين(ع)، فقد أولت نصوص كثيرة مظلوميته(ع) اهتماماً خاصاً، غايتها تخليد هذه الصورة في النفوس ليحصل تلازم بين كربلاء والمظلومية في الأذهان والنفوس، وقد ابتدأ هذا التأكيد منذ عهد نبي الله آدم(ع)، فقد ورد في الخبر: يا آدم يقتل في هذه الأرض ولدك الحسين ظلماً فسال دمك موافقة لدمه.

 ومنها: لعن الأمة الظالمة وتحميلها مسؤولية ما واجهه الإمام الحسين(ع)من مظلومية ومأساة، فقد ورد في الزيارة: ضمنت الأرض ومن عليها دمك وثارك يا ابن رسول الله. بل أكثر من ذلك وهو لعن الأمة الظالمة: لعن الله أمة ظلمتك، ولعن الله أمة قتلتك، ولعن الله سمعت بذلك فرضيت به.
ومنها: ما تضمن ثبوت العذاب الأبدي لظالميه(ع).

ومنها: شهادة المؤمن وإقراره بمظلوميته(ع)، أمام الله سبحانه وتعالى، فقد ورد في الزيارة: أشهد أنك قد قتلت مظلوماً وإن الله منجز لكم ما وعدكم.

 

توظيف المظلومية الحسينية:

ثم إن هذه النصوص وغيرها تشير إلى لزوم توظيف المظلومية الحسينية في صورتها الحية في الواقع الديني والاجتماعي والسياسي، فتدل المظلومية الحسينية على لزوم تحمل المسؤولية المطلوبة، وليس الحديث منصباً على مجرد عرض لقضية تاريخية مجردة عن كل هدف وغاية. ويتضح ذلك بملاحظة جوانب ثلاثة:

 

الجانب الديني:

فقد مثلت المظلومية الحسينية، أول أسس الإحساس بالمسؤولية، وهي تتمثل في وقوف المظلوم في وجه الظالم، يقول الإمام الحسين(ع): إنما خرجت طلباً للإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر واسير بسيرة جدي وأبي. ويفعل دور الإحساس بالمسؤولية بمواجهة المظلوم للظالم كما قام بذلك الإمام الحسين(ع) يوم عاشوراء، فيقف المظلوم بكل إباء وحرية للدفاع عن الدين بجميع فصوله، وقيمه وشعائره، وقوانينه، وأهدافه.

 

الجانب الاجتماعي:

ونقصد بذلك ما كان يطلبه الإمام الحسين(ع) من الناس، فقد كان يطالبهم بالعودة إلى انسانيتهم، وأخلاقهم التي نشأوا عليها، كما ذكر ذلك في خطبته يوم عاشوراء، حيث قال(ع): فارجعوا إلى انفسكم وراجعوها……، فإن للعرب مجموعة من الأخلاقيات والقيم والآداب، لابد إن توجد عند كل. عربي، فمن فقدت منه لم يكن عربياً.

والحاصل، إن الإمام(ع) قد عمد إلى استثمار كل ما يمكن استثماره. كما كان يدعو لتحريك الجانب الإنساني في نفوس الظلمة.

الجانب السياسي:

فقد كانت للإمام الحسين(ع) رؤية سياسية محكمة استطاع أن يهز بها عروش الظالمين، ويشير إلى هذا الحادثة التي نقلت بين الإمام زين العابدين(ع) ورجل جاء يسأله عن المنتصر في المعركة الإمام الحسين(ع)، أم يزيد؟ وقد طلب منه(ع) أن ينتظر دخول وقت الصلاة، فلما رفع المؤذن صوته بالأذان(ع) هل عرفت الآن من هو المنتصر1؟

 

 

*****************************

1 مجلة الإصلاح الحسيني العدد التاسع ص 13-41(بتصرف).

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة