الإنسان مدني بالطبع،ولهذا يحتاج إلى قانون ينظم علاقاته الاجتماعية وروابطه.
ولما كان القرآن الكريم كتاب إصلاح وتغيير،لم يهمل هذا الجانب في نظرته المتكاملة لحياة الإنسان،بل أعطى الإسلام العلاقات الاجتماعية بعداً عبادياً،من خلال ربطه العلاقات الاجتماعية بمسألة الثواب والعقاب،والبعد والقرب من الله سبحانه.
فمثلاً تعرض الإسلام لصلة الرحم،وجعلها وجهاً من أوجه العبادة والدين،يقول تعالى:- (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله)[1].
وأشار سبحانه وتعالى إلى الإحسان للجار وابن السبيل وذي القربى،كما حث على المعاشرة الجميلة.
وتعرض أيضاً لبعض السبل السلبية التي تؤدي لانهيار المجتمع مثل اتباع الظن وترك البحث عن العلم واليقين،قال تعالى:- (وما يتبع أكثرهم إلا ظناً إن الظن لا يييغنيي من الحق شيئاً)[2].
ومن القضايا الاجتماعية والأخلاقية التي أولاها الإسلام عناية خاصة،قضية العشرة والمخالطة والصداقة،قال تعالى:- (الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين)[3].
وقد اعتنت بعض النصوص الواردة عن أهل بيت العصمة(ع)بالعشرة مع الناس،والحث على ذلك،لأن الإنسان لا غنى له عن العيش مع الناس والحياة معهم.
والعشرة بالكسر تعني الصحبة والخلطة،من المعاشرة وهي المصاحبة والمخالطة.
هذا وسوف يكون حديثنا على طبق النصوص المتعرضة لذلك على ضوء ما جاء في كتاب الأصول من الكافي لشيخنا الكليني أعلى الله في الخلد مقامه.
الحديث الأول:
قال أبو عبد الله(ع):عليكم بالصلاة في المساجد،وحسن الجوار للناس،وإقامة الشهادة،وحضور الجنائز،إنه لابد لكم من الناس إن أحداً لا يستغني عن الناس حياته،والناس لابد لبعضهم من بعض.
أقول:يتعرض هذا الحديث لبيان منهج أهل البيت(ع)في التـربية الأخلاقية لأصحابهم،إذ يحث الإمام الصادق(ع)أصحابه على مشاركة الناس حياتهم والتواجد في الأماكن العامة التي يتواجد الناس فيها.
فيشير الحديث إلى أن الناس لا غنى لبعضهم عن بعض،ولذا ذكر في كتب الكلام وغيرها،أن الإنسان مدني بالطبع،فهو يحتاج إلى الآخرين في التمدن والتعيش والبقاء،إذ لا يقدر أحد على إصلاح جميع ما يحتاج إليه من المأكول والمشروب والملبوس والمسكن وغيرها،وهذا فيه دلالة على أفضلية الاجتماع والتآلف ورفض العزلة.
روايات العزلة:
لكن هناك نصوص تتعرض إلى العزلة وتمدحها،وترجحها على المخالطة والمعاشرة،مما حدى ببعض العلماء أن يرجحها مطلقاً على المخالطة.
وهناك قول آخر لبعض العلماء بترجيح روايات المخالطة على العزلة مطلقاً.
هذا وقد استند القائلون بتفضيل العزلة للنصوص التي وردت في مدح العزلة وأشارت إلى فوائدها.
والصحيح أن يقال:أن ترجيح أحدهما على الآخر مطلقاً في غير محله،وإنما تختلف الأفضلية بالنظر إلى الأشخاص والأحوال والأمكنة والأزمان.
وذلك بأن ينظر كل شخص لخليطه،وما هو الباعث على مخالطته،وفوائد هذه المخالطة،وما يفوته من ترك العزلة،ثم يوازن ليظهر له ما هو الأفضل.
وقد تحمل النصوص الواردة في العزلة على ما إذا خاف الإنسان على دينه،فالعزلة من شرار الناس وأهل البدع.
مفاد الحديث:
وكيف ما كان فقد تعرض الحديث إلى أربعة أمور:
1-الصلاة في المساجد،سواء كانت الصلاة جماعة أم فرادى،وذلك في خصوص الفريضة لأن النافلة في البيت أفضل كما هو المعلوم.
ثم إن الصلاة في المساجد فرد من أفراد المخالطة إذا كان هناك تعارف بين المصلين،وكان هناك تفقد لأحوال بعضهم البعض،وسؤال كل واحد عمن افتقده ليستخبر حاله،ويتعرف على أمره.
أما لو كانت الصلاة في المسجد عارية عن ذلك بأن اقتصرت على الصلاة فيه فقط،ثم الخروج منه،فإن هذا وإن كان حسناً في نفسه،لكنه لا يحقق المعاشرة والمخالطة المطلوبة.
2-حسن الجوار،بأن تحفظ الجار غائباً،وتكرمه شاهداً،وتنصره مظلوماً،وتستر عيوبه،وتغفر ذنوبه،وتخلص بصحبته،وتقيل عثرته،ولا تسلمه عند الشدائد.
وبالجملة تقوم بفعل كل ما يكون فيه رضاه،وترك كل ما يتضمن أذيته.
3-إقامة الشهادة،لهم وعليهم دون فرق بين الموردين.
4-حضور الجنائز.
——————————————————————————–
[1] سورة الأحزاب الآية رقم 6.
[2] سورة يونس الآية رقم 36.
[3] سورة يونس الآية رقم 36.
2
حسن الجوار
الحديث الثالث:
عن حبيب الخثعمي قال:سمعت أبا عبد الله(ع) يقول:عليكم بالورع والاجتهاد واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى واحضروا مع قومكم مساجدكم وأحبوا الناس ما تحبون لأنفسكم،أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره.
أقول:بقي عندنا الكلام في هذا الحديث حول ما جاء في ذيله وهو حق الجار على جاره،خصوصاً إذا كان الجار قد راعى حق جاره عليه،لأن معاملة الإحسان بالإحسان أحسن وأتم،ومعاملته بالإساءة أقبح وألوم.
تحديد الجار:
ونحتاج في البداية أن نتعرف على الجار من خلال تحديد مفهومه،فنقول:
الجار من المفاهيم التي يرجع في تحديدها إلى العرف،فما ذكره العرف في بيان مفهومه وتحديد سعة دائرته أو ضيقها يكون هو المراد من المعنى.
هذا والظاهر أن العرف يحدده بأنه الشخص الذي يكون قريباً منك وملاصقاً أو شبه الملاصق لدارك،فعلى هذا كل من كان بالقرب من بيتك يقال له جار.
وقد جعل حريمه في الشرع بمقدار أربعين داراً.
حسن الجوار:
وقد أمرنا الله سبحانه وتعالى بحسن الجوار،فقد جاء في الكتاب العزيز قوله تعالى:- (واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وبالوالدين إحساناً وبذي القربى واليتامى والمساكين والجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب)[1].
وورد الحث على ذلك أيضاً من خلال السنة المباركة،فعن رسول الله(ص)أنه قال:أحسن مجاورة من جاورك تكن مؤمناً[2].
وعنه(ص):ما زال جبرئيل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه[3].
وعن أمير المؤمنين(ع):ما تأكدت الحرمة بمثل المصاحبة والمجاورة[4].
وعن أبي عبد الله الصادق(ع)قال:عليكم بحسن الجوار فإن الله أمر بذلك[5].
وقال(ع):حسن الجوار يزيد في الرزق[6].
هذا ويتمثل حسن الجوار في الإحسان له في كل أنواع الخير والبر،وكل ما يعبر من حركات وأفعال يقصد بها تعظيم الجار والاهتمام به والقيام بشؤونه.
كما أنه يتمثل أيضاً بالكلمة الطيبة والابتداء بالتحية،والرد عليه بما هو الأحسن،وأن يلاقيه بالبسمة الحانية والعناية الفائقة.
وقد ورد عن أبي عبد الله(ع)أنه قال:اعلموا أنه ليس منا من لم يحسن مجاورة جاره.
وقد فسر الإمام الكاظم(ع)حسن الجوار بتفسير آخر،فقال(ع):ليس حسن الجوار كف الأذى،ولكن حسن الجوار الصبر على الأذى[7].
وهذا المعنى لا يختلف عما ذكرناه،وإنما هو بيان حسب الظاهر إلى أقل مراتب أداء حق الجار والله أعلم بحقائق الأمور.
الاهتمام بالجار:
ولقد ركز الدين الإسلامي مسألة الاهتمام بالجار فلم يقصرها على خصوص أداء حقه،بل تعدى إلى اعتباره أهم من الدار،بمعنى أن على الإنسان أن ينتخب بداية جاره،ثم بعد ذلك يقدم على اختيار الدار،فقد جاء رجل إلى رسول الله(ص)،فقال:يا رسول الله،إني أردت شراء دار،أين تأمرني أشتري؟في جهينة أم في مزينة أم في ثقيف أم في قريش؟…
فقال له رسول الله(ص):الجوار ثم الدار،الرفيق ثم السفر[8].
جار السوء:
هذا وقد تعرضت النصوص إلى جار السوء كما تعرضت لحسن الجوار،كما بينت ما يترتب عليه من آثار سواء في الدنيا أم في الآخرة،فعن رسول الله(ص):يا علي أربعة من قواصم الظهر…وجار سوء في دار مقام[9].
وجاء عنه(ص):أعوذ بالله من جار السوء في دار إقامة،تراك عيناه ويرعاك قلبه،إن رآك بخير ساءه،وإن رآك بشر سره[10].
ومن طريف ما يحكى في حسن الجوار:
أن رجلاً كان جاراً لأبي دلف ببغداد،فأدركته حاجة وركبه دين فادح حتى احتاج إلى بيع داره،فساوموه فيها،فسمى لهم ألف دينار،فقالوا له:إن دارك تساوي خمسمائة دينار.
فقال:أبيع داري بخمسمائة،وجوار أبي دلف بخمسمائة.
فبلغ أبا دلف الخبر فأمر بقضاء دينه ووصله،وقال:لا تنتقل من جوارنا.
وذكر المحدث الكاشاني(ره)في الوافي أن ما جرى على يعقوب النبي من ذهاب ابنيه وفقد بصره،لأنه أكل يوماً وله جار صائم لم يدعوه.
هذا ومن حق الجار التعرف عليه،ومعرفة أحواله واستخبار شؤونه من مرض وصحة وغنى وفقر وحاجة وفاقة.
جعلنا الله تعالى ممن يؤدي حق الجار ويرعاه
——————————————————————————–
[1] سورة النساء الآية رقم 36.
[2] آمالي الصدوق ص 168.
[3] آمالي الطوسي ص 520.
[4] غرر الحكم 9528.
[5] آمالي الصدوق ص 294.
[6] كتاب الزهد للحسين بن سعيد ص 115.
[7] تحف العقول ص 409.
[8] مستدرك الوسائل ج 8 ص 429.
[9] الخصال ص 206.
[10] الكافي ج 2 ص 669.