قال تعالى:- (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم)[1].
مدخل:
من المسائل المهمة والدخيلة في مجالات متعددة في الحياة الإنسانية، وفي الحياة الدينية للفرد المسلم، مسألة الظن، إذ أن هذه الكلمة تمثل مبدأً يتدخل في العديد من القضايا المربوطة بالإنسان المسلم، بحيث أنها تدخل في مجاله الإعتقادي، كما تدخل في مجاله الفقهي، كما تدخل في مجاله الاجتماعي.
نعم دخولها في هذه المجالات متفاوت، فربما كان دخولها في بعض المجالات ليس مقبولاً، وربما كان دخولها في مجالات أخرى مقبولة.
هذا وينبغي قبل الحديث عما يتعلق بهذه المفردة، وبهذا المصطلح، نحتاج التعرف على معناه كي ما يتضح مدى أهميته، وفي أي المجالات يكون داخلاً، وفي أي المجالات لا يكون داخلاً، أو بعبارة أخرى لا يكون مقبولاً ومعتمدا.
معنى الظن:
هناك ثلاثة مصطلحات تطلق عادة في الاستعمالات الخارجية، سواء عند أهل الفن والاصطلاح، أم في ألسنة الأفراد، والمصطلحات الثلاثة هي: القطع، الظن، الشك، فما هو المراد بهذه المصطلحات الثلاثة، وما هي النسبة ما بينها؟…
لكي يتضح المعنى المراد من كل واحد من المصطلحات الثلاثة السابقة، نذكر مثالاً: إذا كان الإنسان في سفر، ولم يعلم أنه قطع المسافة الشرعية كي تكون وظيفته القصر، أم أنه بعدُ لم يقطعها، كي ما تكون وظيفته هي التمام، وقد تساوت نسبة الاحتمالين عنده، بحيث لم يتسنَ له أن يرجح أحدهما على الآخر لعدم ما يوجب ترجيح أحد المحتملين على الآخر، فهذا هو الذي يعبر عنه بالشك.
إذاً بناءاً على هذا، سوف نعرف الشك بأنه: الحالة التي يكون فيها استواء كفتي الاحتمالين، أو الاحتمالات لو كانت أكثر من احتمالين، في الإثبات والنفي.
وفي مثالنا السابق، يمكن القول بأن هذا الإنسان عنده يقين سابق بأن وظيفته هي التمام، والآن بعدما سار شيئاً ما خارج بلده، يشك في انطباق عنوان المسافر عليه من عدمه، فيترجح أن وظيفته التمام من خلال الحالة السابقة التي كانت عنده من عدم كونه مسافراً، وهذا يوجب ترجيح جانب التمام على جانب القصر، هذا الترجيح لهذا الظرف على الآخر، نعبر عنه بالظن.
وعلى هذا يمكننا تعريف الظن بأنه: ترجيح كفة أحد الطرفين على الآخر، نتيجة وجود ما يوجب الترجيح.
أما لو كان المكلف في المثال السابق قاطعاً، بأنه لما وصل للمنطقة (أ)مثلاً، لم يـبلغ المسافة الشرعية التي يجب التقصير معها، مما يعني أن وظيفته هي التمام، من دون تردد عنده، فهذا ما نعبر عنه بالقطع، أو اليقين، أو العلم.
فإذاً القطع، هو: تعيـين أمر ما من البداية، مع عدم وجود مجال لطرف آخر.
أقسام الظن:
يمكننا تقسيم الظن من حيث الحكم الشرعي المنصب عليه إلى أربعة أقسام:
الأول: الظن المحرم، وهو سوء الظن بالله سبحانه وتعالى، قال سبحانه:- ( الظانين بالله ظن السوء)[2]. وكذا سوء الظن بالأنبياء والمرسلين، قال تعالى:- ( إني لأظنك يا موسى مسحوراً)[3]. وكذا سوء الظن بالأوصياء المعصومين(ع)، وكذا أيضاً سوء الظن بالمؤمنين، قال تعالى:- ( إن بعض الظن إثم)[4]، وهي وإن كانت مطلقة بحسب ظاهرها، إلا أن مراجعة سبب نزولها كما جاءت في كتب التفسير يشير إلى كونها واردة في ما ذكر. على أن الإطلاق الثابت فيها يشمل ما ذكرناه من النهي عن سوء الظن بالمؤمنين.
الثاني: الظن الواجب، وهو حسن الظن بالله سبحانه وتعالى، قال تعالى:- ( وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه)[5]. وكذا حسن الظن بالأنبياء والمرسلين(ع)، وحسن الظن بالأوصياء والمعصومين(ع)، وحسن الظن بالمؤمنين.
الثالث: الظن المستحب، وهو حسن الظن بالمسلمين، الذين لم يظهر منهم فسق ولا فجور.
الرابع: الظن المباح، وهو ظن الشاك في الصلاة، إذ أن بعض الفقهاء يلزمه بالتحري، ثم عليه أن يعمل بما يغلب عليه ظنه من وظيفة الظان، وبعضهم الآخر لا يرى لزوماً لذلك، إذ يمكنه بعدما يثبت ظنه أن يقطع الصلاة، وتفصيل البحث في هذا الأمر يطلب من البحث الفقهي.
وبالجملة، أتضح من خلال هذا العرض الذي ذكرناه، أن الظن على أٌسام، وأن الحكم فيه يتفاوت من مورد لآخر بحسب الحكم المنصب عليه.
موارد جريان الظن:
بعد ما تعرفنا على معنى الظن، وتعرفنا على أقسامه من حيث الحكم الشرعي المنطبق على كل واحد منها، ينبغي أن تعرف على الموارد التي تكون ذات صلة ومربوطة بالظن، بمعنى أنه يـبحث فيها عن الظن لكون الظن دخيلاً فيها.
الظن في الأحكام الشرعية:
من الموارد التي يـبحث فيها عن جريان الظن من عدمه، وأنه يجب أن يجتنب عنه فيها أم لا يجب الاجتناب عنه فيها، الأحكام الشرعية الفرعية، إذ لا يخفى أن الأحكام الفرعية على ثلاثة أنحاء:
الأول: الأحكام الفرعية الضرورية، التي لا تحتاج إلى بيان أصلاً، مثل وجوب الصلاة، ووجوب الصوم، وحرمة شرب الخمر، وحرمة أكل لحم الميتة، وما شابه.
الثاني: الأحكام الشرعية، التي تعرف من خلال العلم، وذلك إذا حصل للمكلف قطع بأمر من الأحكام الشرعية، كالقطع مثلاً بحرمة الظلم، وحسن العدل.
الثالث: وهو المواضيع الظنية التي لا يوجد فيها حكم شرعي حاصل من خلال العلم، فهل يمكن أن نتعرف الحكم الشرعي فيها من خلال الظن، أم لا، مثلاً: إذا لم نجد دليلاً يدل على حرمة التدخين، فهل يمكننا أن نحكم بحرمة شربه، من خلال قياسه على الخمر مثلاً لوجود جهة تشابه بينهما مثلاً، أو نعطيه حكم الإسراف، لأنه إنفاق للمال من دون فائدة، أو لا؟…
ما هو الأصل في الظن:
لكي نتمكن من الجواب على هذا التساؤل، ينبغي أن نتعرف على ما هو مقتضى الأصل في الظن، بمعنى أنه هل يمكن أن نستفيد من الظن في معرفة الحكم الشرعي، وبعبارة ثانية: هل هناك ما يسوغ لنا أن نطلب أحكام الشريعة السمحاء من غير الطريق العلمي، أم لا يوجد ما يشير إلى ذلك؟…
الذي عليه علمائنا(رض) هو القول بعدم جواز العمل بالظن في الأحكام الشرعية، إلا ما خرج بالدليل القطعي، وهذا يعني أنه ما لم يقم دليل قطعي من الكتاب أو السنة المباركة، أو العقل على حجية هذا الظن، فإنه لا يسوغ الركون إليه والاعتماد عليه. مثلاً يعتمد علمائنا على خبر الواحد الثقة، مع أنه ظن، لكن لما قام دليل قطعي على حجيته، فإنه يركن إليه، وكذا يـبني علمائنا على حجية ظواهر الكتاب العزيز، وذلك بسبب وجود دليل قطعي عليه، مع أنه ظن، لكن وجود الدليل صار سبباً لقبوله.
عدم حجية القياس:
ومن هنا قال علمائنا الأبرار(ره) بعدم صحة الاستناد إلى القياس، والمصالح المرسلة، وسد الذارئع من الأمور الموجودة عند أبناء العامة، لأنها ظنون لم يقم عليها دليل قطعي من الكتاب أو السنة، وفد عرفت أن الأصل يقضي بعدم حجية الظن إلا إذا دل دليل قطعي على حجيته.
الظن في الأمور الإعتقادية:
من الموارد التي يجري البحث فيها عن الظن، ويقع الكلام في أنه حجة أم لا، بمعنى أنه يمكن الاعتماد عليه، أم لا يمكن، الظن في الأمور الاعتقادية، ونعني به الظن في الأصول منها، لا مطلق العقائد، وبعبارة أوضح: هل يمكن الركون للظن في أصول الدين، والاعتقاد، أم لا؟…
اختلفت آراء العلماء في هذه المسألة، فالتـزم بعضهم بكفاية ذلك، وقال آخر بأنه يكفي الظن إذا كان حاصلاً من الظن المعتبر.
والذي عليه المعروف بين أكثر أعلامنا(رض) أنه لابد من العلم الحاصل من خلال النظر والاستدلال.
الظن في الأمور الحياتية:
وهو ما يكون موجوداً في الحياة اليومية، ويتمثل في كثير من أمورنا، مثل أن تظن بإنسان خيراً أو شراً، ولا ريب أن منشأ الظن الحاصل منك يعود لتصور موجود عندك نجم عن عدم وضوح في الرؤية، المنعكسة على حدث قد صدر من الطرف الآخر.
وبعبارة واضحة، إن أي ظن من الإنسان تجاه الطرف الآخر، سواء كان الظن إيجابياً بحيث يعطي صورة مشرقة للشخص المظنون به، أم كان ظناً سلبياً يبرز صورة غير إيجابية بالنسبة إليه، ينجم من خلال رؤية غير واضحة عند الظان بالنسبة للمظنون به، لأنه لو كانت الرؤية حوله واضحة، فلا ريب في أنه لن يكون المورد من صغريات الظن، بل سوف يكون من موارد القطع واليقين.
ومن المعلوم أن هذا الأمر يمثل حالة مرضية تسبب انهيار المجتمعات الإسلامية، وتؤدي بها إلى قاع سحيق.
ثم إن سوء الظن الذي يمثل خطراً على حياة المجتمع ليس سوء الظن الذي في قلبه الإنسان وضميره، إذ أن هذا ليس أمراً محرماً، بل في الحقيقة لا حرية للإنسان في ظنونه، وتصوراته، ضرورة أنها تنجم من خلال الظروف والأسباب الخارجة عن إرادته، واختياره. نعم هو مطالب بأن لا يعول على هذه الظنون، ولا يذهب ورائها بالتفتيش والفحص.
وقد يتصور البعض أن الآثار الناجمة من سوء الظن تنحصر في الأذى على الآخرين، بحيث أنها لا تطال من يعيش حالة سوء الظن.
وهو تصور خاطئ، إذ أحد أبرز الآثار الناجمة عن الإصابة بمرض سوء الظن حرمان الإنسان من الكثير من الخير، وعلى رأسها، فقده روح التعاون مع الآخرين، إذ من المعلوم أن التعاون الجماعي لا يتحقق ما لم يكن هناك حسن ظن بين الأفراد، فمن كان يعيش حالة سوء الظن، لا يملك حسن، وهذا يحرمه هذه النعمة، كما لا يخفى، وبالتالي سوف يعيش حالة من العزلة والغربة، يقول أمير المؤمنين(ع): من غلب عليه سوء الظن، لم يترك بينه وبين خليل صلحاً.
أصالة الصحة:
ونظراً لخطورة هذا المرض، وما يتركه من آثار سلبية، ويؤدي إلى زرع المشاحنات بين أفراد المجتمع، عمدت الشريعة الإسلامية إلى إيجاد وسيلة تكون مبطلة ورافعة لسوء الظن، وهي أصالة الصحة في جميع مراحل الحياة، حيث أنها تمثل اللقاح الواقي الذي يمكن من خلاله القضاء على مشكلة سوء الظن، ويتم بواسطتها علاج الكثير من القضايا.
ونعني بأصالة الصحة، حمل العمل الصادر من المؤمن على الصحة، أي أنه لابد من حمل الفعل الصادر من المؤمن على الصحة، من خلال إيجاد التبرير له في ما أقدم عليه، وجعله أمراً مقبولاً عند الآخر.
فلو وجدنا مؤمناً يغتاب شخصاً، فإن ذلك يقضي أن نحمل ما صدر منه على أن الشخص الذي استغابه فاسقاً متجاهراً بالفسق مثلاً، أو أنه ظالماً، والذي يستغيـبه مظلوم يـبحث عمن ينصره، وهكذا.
وقد وردت النصوص عنه أهل البيت(ع)، تشير إلى هذا المعنى، فعن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يغلبك منه، ولا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً[6].
وبالجملة، كأن قاعدة الصحة قد شرعت من أجل الوقوف أمام الذين يحكمون على الناس من خلال ظواهر أفعالهم وأقوالهم، لتـثير لديهم احتمال وجود العذر فيما يفعلون، وتفسح لهم المجال للدفاع عن أنفسهم على هذا الأساس، إذ ربما كانت له مبررات، ككونه اعتقد الخطأ صواباً، أو الباطل حقاً، دونما تعمد منه إلى ذلك.
ويشهد لما ذكرنا تمثيل الفقهاء لذلك بالإنسان الذي تراه في نهار شهر رمضان مفطراً، فلا يسوغ لك هنا أن تحكم على هؤلاء بالفسق مباشرة لمجرد إقدامهم على الإفطار، إذ ربما كانوا مسافرين، أو مرضى، بمعنى أن لهم عذراً في إقدامهم على ما أٌدموا عليه، فعليك أن تعطي نفسك فرصة تفحص فيها بهدوء وتأني عن طبيعة هذا الإفطار، وهذا ما نراه في حادثة حصلت في عصر أمير المؤمنين(ع)، فقد روى شيخنا المجلسي غواص بحار الأنوار(قده) في قضايا أمير المؤمنين(ع) المعروفة في كتاب البحار، أنه ورد عليه قوم يأكلون في نهار رمضان، فسألهم عن السفر والمرض، ونحو ذلك من الأعذار المبيحة للإفطار، فلما أٌروا بانتفاء الكل، أقام عليهم الحد.
أصالة الصحة لا تعني السذاجة:
هذا وينبغي علينا أن نؤكد في ختام حديثنا عن هذا الأصل، بأن أصالة الصحة لا تعني أن نعيش حالة من السذاجة، بحيث أن يستسلم الإنسان نتيجة الحمل على الصحة، فيسلم نفيه للآخرين مما يجعله يقع في قبضة الجانب السيئ منهم.
بل إن المطلوب في التعامل مع أصالة الصحة، هو تطبيق العدالة في الحكم والرأي، وفسح المجال للإنسان لإبراز محتملات البراءة عند المتهم، فالمطلوب في الحقيقة هو التوقف في الحكم وتطبيق الاتهام حتى يثبت صحة الإدانة، أو تثبت البراءة للشخص المقابل. ولذا ندعو المؤمن أن يكون حذراً عندما يعمد إلى تطبيق هذا الأصل، حذراً من أن يفاجأ بما لا يحمد عقباه.
وما أشرنا له من لزوم الحذر، أوصى به أمير المؤمنين(ع)، فقد قال(ع): لا تـثقن بأخيك كل الثقة، فإن صرعة الاسترسال لا تستقال.
وجاء عنه(ع) أيضاً: إذا استولى الصلاح على الزمان وأهله، ثم أساء رجل الظن برجل لم تظهر منه حوبة، فقد ظلم، وإذا استولى الفساد على الزمان وأهله، فأحسن رجل الظن برجل فقد غرر[7].
وقال الإمام الهادي(ع): إذا كان زمان العدل فيه اغلب من الجور فحرام أن تظن بأحد سوءاً حتى يعلم ذلك منه، وإذا كان زمان الجور فيه أغلب من العدل، فليس لأحد أن يظن بأحد خيراً حتى يـبدو ذلك منه.
ولذا يتأكد ما سبق وذكرناه من أن البناء على أصالة الصحة لا ينبغي أن يتحول إلى عمل ساذج يصدر من الفرد ويوسم من خلاله بالسذاجة، فهذه النصوص كلها تشير إلى لزوم الحذر وملاحظة متى تجري أصالة الصحة ومتى لا تجري.
——————————————————————————–
[1] سورة الحجرات الآية رقم 12.
[2] سورة الفتح الآية رقم 6.
[3] سورة الإسراء الآية رقم 101.
[4] سورة الحجرات الآية رقم 12.
[5] سورة التوبة الآية رقم 118.
[6] أصول الكافي باب التهمة وسوء الظن.
[7] نهج البلاغة الحكمة 114.