فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر(8)

لا تعليق
الزاوية الفقهية - أبواب متفرقة
129
0

مانعان من القبول بالشرطية:

هذا ويمكن أن يتمسك القائلون بعدم شرطية احتمال التأثير في ثبوت الوجوب بمانعين غير ما تقدم:

الأول: ما يظهر من قوله تعالى:- (وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قوماً الله مهلكهم أو معذبهم عذاباً شديداً قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون)[1]، حيث ذكر شيخ الطائفة(ره) دلالتها على أنه يجب النهي عن القبيح وإن علم الناهي أن المنهي لا ينـزجر ولا يقبل التوجيه بترك المنكر، وهذا يفيد عدم اعتبار التأثير في المأمور حتى يلتـزم بالوجوب[2].

ويتضح تقريب ما أفاده(ره) من خلال الإحاطة بالموضوع الذي تتحدث عنه الآية الشريفة، فإنها تتحدث عن قصة أصحاب السبت، وخلاصة القصة التي ذكرها القرآن الكريم في مواضع متعددة، أن قوماً من بني اسرائيل كانوا يعيشون في قرية على ساحل البحر، وقد ابتلاهم الله تعالى بتكليف تمثل في عدم قيامهم بصيد الأسماك يوم السبت، وقد أمنت الأسماك فكانت تتواجد في ذلك اليوم على الشاطئ من دون خوف، وقد كان هذا سبباً موجباً لرغبتهم في القيام بصيدها لما في ذلك من سهولة، وعدم الكلفة، إلا أن المنع الإلهي كان حاضراً، لهذا احتالوا بحيلة غير شرعية، فقد ذكر أنهم نصبوا شباكهم، فأصبحت الأسماك تدخل فيها يوم السبت، ولا تتمكن من الخروج، فإذا جاء يوم الأحد ركبوا البحر واستخرجوا تلك الشباك، وقالوا بأننا لم نقم بالصيد يوم السبت، وإنما نصبنا الشباك، والله تعالى لم ينهنا عن نصبها، بل نهانا عن الصيد.

وبصدور هذه المخالفة، انقسم مجتمع تلك القرية إلى ثلاثة أقسام، أحدها العصاة المتمردون على الأوامر الإلهية، والآخر كانوا أهل الإيمان، والتقوى الرافضين لما صدر من هؤلاء العصاة، والثالث، كانوا الذين يعيشون حالة الصمت والسكوت، وعدم تحمل المسؤولية.

ونتيجة لهذا التقسيم، فقد مارس أفراد القسم الثاني، فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فما كان من أصحاب القسم الثالث إلا أخذوا بتوجيه اللوم والعتب عليهم بأنه لماذا تقومون بدعوة هؤلاء ونصيحتهم، وقد أتخذ فيهم القرار، وصاروا مستحقين لنـزول العذاب.

وبكلمة، إن ما تمارسونه من دعوة، لن يلقى أذناَ صاغية، لأن هؤلاء من الذين قد قست قلوبهم، مضافاً إلى أنهم أصبحوا مستحقين للعذاب.

وقد برر أصحاب القسم الثاني، قيامهم بالأمر بالمعروف، بأنهم عملوا ذلك رغبة في وجود عذر لهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى.

وقد تحصل مما تقدم، أنه لا يعتبر في الأمر بالمعروف احتمال التأثير، فإن أصحاب القسم الأول، لم يكونوا مورداً لتصور التأثير فيهم، إلا أن أصحاب القسم الثاني، لم يمتنعوا عن إرشادهم ودعوتهم للمعروف، مع علمهم بأنهم لم يهتدوا، فيثبت ما ذكره الشيخ(ره).

ويجاب عن البيان المذكور في نفي شرطية احتمال التأثير:

أولاً: إنه ليس واضحاً من الآية المباركة انتفاء احتمال التأثير بالنسبة لهؤلاء والجزم بعدمه فيهم، بل لا زالت إمكانيته موجودة في المقام، ويشهد لذلك ما جاء في ذيل الآية، من قوله تعالى:- (لعلهم يتقون)، فإن هذا التعبير يشير إلى أن احتمال التأثير لا زال موجوداً، لبقاء احتمال الهداية مهما بلغت حالة الانحراف عن الأفراد، ويساعد على مثل هذا ما جاء في قصة قوم نبي الله يونس(ع)، فإنهم قد آمنوا في اللحظات الأخيرة، وكشف الله تعالى ما بهم من العذاب، قال تعالى:- (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين)[3]وبسبب وجود هذا الاحتمال قام هؤلاء بعملية الدعوة إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتدبر.

ثانياً: بعد التسليم بانتفاء احتمال التأثير، إلا أننا لا نسلم بدلالة الآية الشريفة على عدم اعتبار هذا الشرط في الوجوب، لأن المستفاد من الآية المباركة هو استحقاق هؤلاء للعذاب، وهذا يعني انتفاء موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالنسبة إليهم، لأنهم أصبحوا مستحقين له.

ثالثاً: إنه يمكن الالتـزام بالتفريق بين موارد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يقال بأنها جميعها على مستوى واحد، بل يفرق، ففي الموارد التي يكون موارد ترك المعروف وفعل المنكر بمثابة القضية الجزئية، أو الفردية، ولا تمثل ظاهرة عامة توجب انحلال المجتمع قيمياً وأخلاقياً، أو تؤدي إلى انهياره دينياً وعقائدياً، فهنا لابد من أخذ شرطية احتمال التأثير، وبالتالي ينتفي الوجوب مع عدم توفره. أما لو كانت القضية عامة تمس كيان المجتمع بأكمله، كما في المقام، بحيث أن السكوت عن المنكر يوجب ضياع الدين، أو يؤدي إلى انهياره، أو يوجب ظهور البدع فضلاً عن انتشارها وشيوعها، فإنه لابد من إظهار الإنكار والدعوة للمعروف إعزازاً للدين، وإن لم يحتمل التأثير في المنهيـين عن المنكر، وذلك حذراً من جعل السكوت كاشفاً عن الرضا والموافقة.

[1]سورة الأعراف الآية رقم 164.

[2]التبيان في تفسير القرآن ج 5 ص

[3]سورة يونس الآية رقم 98.

تعليقات الفيسبوك

التعليقات مغلقة