ورد عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال: إن أول كل سنة أول يوم من شهر رمضان[1].
مدخل:
عندما يقرأ الإنسان النصوص الصادرة عن أهل بيت العصمة والطهارة(ع) يجد أنها تشتمل على الحديث عن شهر رمضان المبارك من خلال زوايا متعددة، فتارة تـتحدث عن عظمة هذا الشهر الشريف، وأخرى تـتحدث عن ما يعطيه الله سبحانه وتعالى لعباده فيه، وثالثة تـتحدث عن ثواب الصائمين والقائمين فيه وهكذا.
ولا يخفى على أحد أن كل الأحاديث الصادرة عنهم(ع) وبما تضمنـته من عرض لهذا الشهر الشريف، تؤول في النـتيجة إلى الحديث عن الخصائص التي يتميز بها هذا الشهر الشريف على بقية الشهور، وبيان ما يحظى به من خيرات وبركات.
وإحدى أبرز الخصائص التي تحدثت عنها النصوص المعصومية، هي كون شهر رمضان المبارك هو بداية العام.
وهذا المضمون قد وردت به عدة نصوص، منها النص الذي افتـتحنا به المقام، ومنها ما جاء عن الإمام أبي عبد الله الصادق(ع) قال: شهر رمضان رأس السنة[2].
وجاء عنه(ع) أيضاً: رأس السنة شهر رمضان[3].
معنى أول السنة:
وعندما نتأمل في هذه النصوص التي تضمنت أن شهر رمضان المبارك هو أول السنة، فإن هذا يستوجب استغراباً عندنا، ذلك لأن المعروف والمألوف هو أن أول السنة شهر محرم الحرام، وبالتالي يكون جعل شهر رمضان المبارك بداية السنة أمراً غير مألوف ولا متعارف، بل هو أمر يثير الاستغراب والدهشة.
وعندما نسعى إلى إزالة هذا التعجب والاستغراب، نحتاج إلى التمهيد لذلك بذكر مقدمة تعين على وضوح الفكرة التي نعمد إلى طرحها.
الأمر التكويني والأمر الاعتباري:
هناك أمران لا ينبغي الخلط بينهما، وهما الأمر التكويني والأمر الاعتباري.
ونعني بالأمر التكويني: هو القضية التكوينية المرتبطة بمسألة الكون وما يحوط به من أمور، بحيث أنه لا دخل للإنسان فيها من قريب أو بعيد، بل هي قضية خارجة عن إرادته، فلا يستطيع أن يتحكم فيها، أو أن يغير شيئاً من أمورها من قريب أو بعيد.
ويمكننا أن نمثل لذلك بالليل والنهار، حيث أن أحدهما يسبق الآخر ويتقدم عليه، وهذا السبق أو التقدم قضية تكوينية، لا يستطيع الإنسان أن يغير فيها شيئاً من قريب أو بعيد، حيث أنه لا يمكنه أن يقدم المتأخر أو يؤخر المتقدم.
وكذا أوقات اليوم الواحد، فالصبح، ومن بعده الظهر، ومن بعده المغرب، فهذه الأوقات ليس لأحد القدرة على تبديل الترتيب الزمني لمجيء كل واحد منها، وما ذاك إلا لكونها قضية تكوينية ليس لأحد من بني البشر أي قدرة على تغيـير المسار الطبيعي لها.
وفي مقابل الأمر التكويني، يوجد الأمر الاعتباري، وهو عبارة عن كل ما يخضع لاعتبار المعتبر، فهو الذي يمكنه أن يضعه، وهو الذي يمكنه أن يرفه، أي أن أمره خاضع دائماً إلى إرادته ومشيئته، فهو الذي يتحكم فيه.
وهذا مثل الأسماء التي يطلقها الإنسان على أطفاله على سبيل المثال، فإنها تخضع لمختاراته هو، فمتى أراد أن يجعل لمولوده الذكر اسم علي، جعل له ذلك من دون أن يمنع عنه، ومتى أراد أن يغيره فيسميه حسناً مثلاً، كان ذلك له، وكذا أيضاً بالنسبة للأنثى، فمتى أراد أن يسميها فاطمة، أسماها، ومتى غيّر ذلك وقام بتسميتها بزينب، ليس لأحد حق الممانعة معه.
والحاصل، الأمر الاعتباري، أمر سهل المؤونة جداً، وهو بيد المعتبر يخضع لأمره ورغباته، ولا يتدخل فيه أحد آخر من الخارج، وهذا بخلاف الأمر التكويني، فإنه ليس كذلك.
أول السنة أمر اعتباري:
ثم إنه بعد التعرف على هذين الأمرين، نحتاج أن نتعرف أن أول السنة، هل هو من الأمور التكوينية التي ليس للإنسان فيها مدخلية من قريب أو بعيد، ولا يمكنه أن يتصرف فيها أصلاً، أم أنه من الأمور الاعتبارية التي تخضع لرغبة الإنسان وإرادته، وأنه هو المتحكم فيه يفعل فيه ما يشاء؟…
لا ريب في أن أول السنة ليس أمراً تكوينياً، بحيث يقرر أن هناك نقطة زمانية تبدأ فيها السنة في نفس الوقت والتحديد من كل عام بحيث لا تختلف ولا تـتخلف، وأنه ليس لأحد من جنس البشر قدرة على تغيـيرها.
ويشهد لما ذكرناه أن حقيقة رأس السنة تخضع لمجموعة من الاعتبارات لكل فرد فرد.
فربما يكون رأس السنة عند فرد من الأفراد هو اليوم الذي ولد فيه، بينما يجعل آخر رأس سنـته اليوم الذي فارق فيه أعز أحبابه، وثالث يجعل يوم سنـته اليوم الذي ربح فيه أموالاً طائلة، وهكذا.
فهذا يثبت أنه ليس الأمر نحواً من أنحاء الأمر التكويني الذي ليس لأحد التدخل فيه من قريب أو بعيد.
رأس السنة عند الأمم:
ويؤكد ما ذكرناه من كون بداية السنة أمراً اعتبارياً، ما نجده من اختلاف عند الأمم، حيث أن هناك اختلافاً فيما بينها بالنسبة إلى بداية رأس السنة.
فأهل فارس يجعلون رأس سنـتهم بداية شهر فروردين، ويعتبرون هذا اليوم عيداً من الأعياد التي يحتفى بها، وهو عيد النيروز.
وأما العرب الجاهلية، فقد جعلت بداية سنـتهم شهر محرم الحرام، والنصارى جعلت بداية سنـتهم يوم ميلاد المسيح. وجعل المسلمون بداية سنـتهم يوم هاجر رسول الله(ص) إلى أرض المدينة وأقام الدولة الإسلامية المباركة فيها.
فإن هذا التفاوت في اختيار مبدأ السنة بحيث أن كل واحد ممن ذكر اتخذ وقتاً معيناً، وفي نفس الوقت مغايراً لما اتخذه الآخر يثبت أن القضية من الأمور الاعتبارية التي تخضع لمتبنيات الشخص، وما يعتبره هو في مقام الانتخاب، واختيار أي الأوقات التي يود جعلها.
وعلى هذا سوف يكون جعل الإمام أمير المؤمنين(ع) شهر رمضان المبارك بداية السنة من هذا القبيل، ذلك لأن قد عرفت أن قضية الجعل، قضية اعتبارية تخضع لاعتبار المعتبر،فهو الذي يعتبر ما يشاء وما يريد، وليس لأحد حق في أن يمنعه من ذلك، لكون الاعتبار سهل المؤونة، فيحق له أن يجعل ما يشاء وما يريد.
منشأ الاعتبار:
نعم يعتبر في اعتبار الإنسان أمراً معيناً بحسب المنهج العقلائي، أن يكون هناك داعٍ لهذا الاعتبار، بمعنى أن اعتباره هذا الأمر وجعله لم ينشأ بصورة عبثية لا تحمل في معناها ومضامينها أي معنى ومحتوى، بل لابد من وجود هدف وغاية دعياه إلى اعتبار هذا الأمر، وانتخابه.
فلماذا اعتبر أمير المؤمنين(ع) وكذا من بعده حفيده الإمام الصادق(ع) شهر رمضان بداية السنة، ما هي الأمر المناسبة لجعل هذا الاعتبار، لابد من وجود جهة مناسبة وظروف ملائمة لمثل هذا الأمر، وإلا لما كان من الاعتبار المنسجم مع الطريقة العقلائية؟…
فمثلاً، أهل فارس لما اعتبروا بداية سنتهم الجديدة هو شهر فروردين، لحظوا أمراً وهو أن شهر فروردين، هو أول السنة الطبيعية، إذ تكتسي الأرض في هذا الشهر ثوباً أخضراً، فتـتفتح الأزهار وتنبت الأشجار، وتكتسي الحياة بهجة وروعة.
فشهر فروردين، يمثل بداية الحياة الجديدة، ويمثل إطلالة مغايرة لما كان عليه الإنسان من قبل، فبعد ما كان الإنسان يعيش حالة من الكآبة والخمول، يـبدأ الانطلاق إلى الحياة بروح متجددة نشيطة، كما هي روح الطبيعة، وقد تجددت بحلول هذا الشهر، فليكن الإنسان كذلك، ليـبدأ حياة جديدة نشيطة، وليكن ذلك بداية عام جديد بالنسبة إليه.
وبالجملة، لما كان هناك جهة مشابهة أختير أول فروردين بداية السنة الجديدة.
وكذا عندما نقرأ في منشأ جعل العرب شهر محرم الحرام هو بداية السنة الجديدة، نجد أن منشأ الاعتبار يعود إلى أن شهر محرم الحرام يحل بعد شهر الحج، وهو الشهر الذي تابوا فيه إلى الله سبحانه وتعالى من ذنوبهم، وخرجوا منها، فيبدأون حياة جديدة بحلول شهر جديد، فاعتبروا شهر محرم الحرام بداية تلك الحياة الجديدة التي يرغبون في عيشها بعد التجرد من الذنوب التي اقترفوها.
وهذا المعنى نفسه ينطبق على المسلمين، حيث أن الداعي لهم في اختيار شهر ربيع الأول بداية لسنـتهم يؤول إلى أن هذا الشهر يتضمن أفضل ذكرى على قلوبهم، وهي خروج الإسلام من الضيق إلى الفرج بهجرة المصطفى الحبيب(ص) إلى أرض يثرب الطيـبة، وإقامة دولة الإسلام، فبعدما كان المسلمون يرضخون تحت نير الذل والهوان والتعذيب في بلاد مكة، فتح الله عليهم، فهاجر رسول الله(ص)، وأقام دولة الإسلام في أرض المدينة، فصار هذا اليوم أفضل الأيام، وبداية لعهد جديد وعمر جديد، يتفأل به الإنسان المسلم.
وهذا نفسه أيضاً ينطبق على تسميتي لأولادي بأسماء معينة، فأنا إذ أسميه علياًً، أسأل الله عز وجل أن يثبته على ولاية علي(ع)، وأن يجعله كعلي(ع) عبداً صالحاً متقياً، وهكذا متى أسميت ابنتي فاطمة.
من خلال ما قدمنا نصل إلى أنه لابد من أن تكون هناك مناسبة دعت الإمام أمير المؤمنين(ع)، وكذا حفيده رئيس المذهب الإمام جعفر(ع) إلى جعل شهر رمضان المبارك بداية السنة، فما هي تلك المناسبة؟…
رمضان شهر تجديد العلاقة مع الله:
لا يخفى على أحد أن شهر رمضان المبارك يعتبر الشهر الذي يجدد فيه العبد علاقته مع ربه، فيعود إلى حظيرة القدس الإلهية، وذلك من خلال إخلاص الطاعة ومضاعفتها في هذا الشهر.
وهذا يعني أن شهر رمضان يمثل بداية جديدة للعبد في علاقته مع الباري سبحانه وتعالى، فهو بداية حياته الجديدة مع السماء في علاقته المقدسة، من خلال ما يقوم به من الطاعة والعبادة والدعاء، فشهر رمضان يمثل البداية التي يعود فيها العبد إلى ربه، وبالتالي يكون بداية صفة مشرقة في حياته، وبداية تجديد لهذه العلاقة التي ربما أصابها شيء من البرود، بل ربما الانقطاع.
ومن الواضح أن الفترة التي يجدد الإنسان فيها علاقته مع ربه، ويكون فيها من الطائعين والمخلصين، ويوفق فيها لنيل الرضا الإلهي، تكون بداية حقيقة لحياة الإنسان، فضلاً عن أن تكون بداية لسنـته.
من هنا وردت النصوص في جعل شهر رمضان المبارك بداية السنة، فهي تنظر للبعد المعنوي، الذي يخلفه جعل هذا الشهر المبارك بداية السنة للمكلف، ذلك لأن المكلف يكون في هذا الشهر الشريف طاهر الذيل، عفيفاً مجرداً من الذنوب والخطاياً، بعيداً كل البعد عن المعاصي والسيئات، وهذا يؤكد أنها بداية معنوية له، فكما أن هناك بداية لحياة الطبيعة تزهر فيها الطبيعة بكل ما تحويه من أشجار وزهور، فكذا حياة الإنسان المعنوية تمر عليها فترات تزهر فيها، فتخضر وتنـتعش وتعيش حياة خاصة، وهي الفترة التي يجدد فيها الإنسان علاقته بربه، ومن ثم تكون بداية حقيقة له.
——————————————————————————–
[1] الكافي ج 4 ص
[2] المصدر السابق
[3] المصدر السابق