قال تعالى:- (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سييئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً)[1].
مدخل:
سبق وتعرضنا في البحث السابق أن هناك أسباباً تؤدي إلى موت المجتمع،وفساد النظام الاجتماعي،وإحلال الفوضى فيه.
ومن الواضح أن ذلك لا يكون إلا بعد تدمير الشخصية الإنسانية،لأنها قوام المجتمع ووجوده.
وقد ذكرنا أن من تلك الأسباب التي تؤدي إلى ذلك،الذنوب،وبينا ما لها من أثر كبير،في هكذا مقام،ولما كانت الآثار المتـرتبة عليها،بمثل هذه الكيفية،فلا بأس أن يكون حديثنا منصباً على التقسيم الذي يذكر لها،في محاولة للتعرف عليها.
تقسيم الذنوب:
يمكننا تقسيم الذنوب والمعاصي التي تؤدي إلى انهيار المجتمعات،من ناحيتين:
الأولى:الناحية العقلية.
الثانية:الناحية الشرعية،أو الفقهية.
التقسيم العقلي:
يمكن تقسيم الذنوب من الناحية العقلية إلى ثلاثة أقسام:
الأول:الذنوب التي توجب الاستهانة بحقوق الله سبحانه وتعالى،والتمرد على ربوبيته،كالشرك والكفر به،والانحراف عنه،بتـرك عبادته استكباراً واستنكاراً،مثل ترك الصلاة أو ترك الصوم أو ترك الحج أو غير ذلك من الواجبات التي يجمعها عنوان حقوق الله سبحانه وتعالى.
الثاني:الذنوب التي توجب الاستهانة بحق الإنسان نفسه،وعدم امتثال أوامر الله تعالى فيما نهاه عن أعمال تعود بالضرر عليه،كالتكبر والغرور والانتحار والإدمان على المخدرات،وشرب الخمر،والرياء،واللواط،وغيرها من المعاصي والآثام التي تجعل الإنسان مقصراً بحق نفسه.
وهذا الذي ذكرناه،يعود إلى أن الشارع المقدس قد حفظ للإنسان حقاً وهو كرامته فمنعه من أن يهينها،كما منعه من أن يسعى إلى إذلالها،ولذا لا يجوز للإنسان أن يقوم بأي عمل يكون سبباً لإهانة نفسه أو إذلالها،وهذا هو الوجه في منع كثير من فقهاء وإفتائهم بحرمة بعض الألبسة لكونها تتضمن إهانة من الإنسان لنفسه وعدم حفظه لكرامته.
الثالث:الذنوب التي توجب الاستهانة بحقوق الناس وكرامتهم والاعتداء على أموالهم وأعراضهم من خلال ارتكاب الجرائم التي يتعدى ضررها إلى الآخرين من أبناء المجتمع كالسرقة والغش والاحتكار والقتل والغيـبة والنميمة والنفاق بين المسلمين،أو اتهامهم،أو إهانتهم،أو إيذائهم،وغير ذلك من المعاصي التي يتم التعدي فيها على حقوق الآخرين.
ثم لا يخفى عليك أن بعض هذه الذنوب تـتداخل مع بعضها البعض،حيث يمكن أن يكون الذنب الواحد موجباً للاستهانة بحقوق الناس،كما يوجب الاستهانة بحق الله تعالى،لعدم امتثال أمره في ترك هذه المعصية،وقد يكون في نفس الوقت موجباً للاستهانة بحق النفس أيضاً لكونه ظلماً لها.
التقسيم الفقهي للذنوب:
توجد للذنوب تقسيمات شرعية متعددة،فبناء على تقسيم الله سبحانه وتعالى الحقوق إلى نوعين:
1-حق الله سبحانه وتعالى.
2-حق الناس.
قسمت المعاصي تبعاً لذلك إلى معصية في حق الله،ومعصية في حق الناس.
بينما يقسم الفقهاء المعاصي إلى قسمين أيضاً وهما:
1-الكبائر.
2-الصغائر.
وقد استندوا في تقسيمهم هذا إلى نصوص كثيرة وصريحة،وردت في الكتاب العزيز،والسنة المطهرة،ومن النصوص الدالة على ذلك الآية التي افتـتحنا بها المقام.
هذا وهناك مجموعة من الآثار الشرعية تـترتب على هذا التقسيم،ولنشر إلى مثال على ذلك:
إن من الأشياء المعتبرة في إمام الجماعة أو مرجع التقليد أو الشاهد،أن يكون عادلاً،وتـتحقق العدالة بلحاظ تركه للمحرمات وفعله للواجبات،وهنا تأتي مسألة الكبيرة والصغيرة،فهل هما سواء في نفي العدالة،أو يفرق بينهما؟…
الكثير من علمائنا يقولون أن المدار في انتفاء العدالة إنما هو بفعل الكبائر،أو بالإصرار على الصغائر،فما لم يكن الإنسان كذلك،فإن ذلك لا يقدح في عدالته.
فمن هنا اتضح أهمية هذا التقسيم،وما يترتب عليه من أثر.
الانقسام حقيقي:
ثم إنه وقع الخلاف بين فقهائنا بعد الاتفاق منهم على انقسام الذنوب إلى كبائر وصغائر،في أن هذا الانقسام هل هو انقسام حقيقي،أو أنه انقسام إضافي؟…توضيح ذلك:
تارة يكون الشيء ملاحظاً من خلال الأشياء التي قبله أو بعده،فلا يعطى مرتبته الفعلية إلا من خلال ملاحظة ذلك،فلو وجد أب وكان له أبن،كما كان له أب،فإنه بالنظر إلى أبيه سيكون ولداً كما أنه بالنظر إلى ولده سيكون أباً،فأبوته وبنوته من الأمور الإضافية،التي تترتب على وجود الأب والابن له.
وهكذا ذكر بعض علمائنا بالنسبة إلى الذنوب،إذ قالوا أن انقسامها إلى قسمين،إنما هو انقسام إضافي،وليس انقساماً حقيقياً،فالذنوب كلها كبائر،فلا يوجد فيما بينها صغائر أصلاً،وإنما يقال للذنب بأنه صغيرة بلحاظ ما هو فوقه مما يكون أشد منه،فالنظر إلى المرأة الأجنبية كبيرة في نفسه،لكن بالنظر إلى تقبيلها يكون صغيرة،كما أن تقبيل الأجنبية كبيرة في نفسه،لكنه بالنظر إلى فعل الفاحشة بها،يكون صغيرة،وهكذا.
وقد اختار هذا الرأي ثلة من فقهائنا،كبعض الأعاظم،وبعض الأعيان،والسيد العلامة الطباطبائي(قده)[2]،واختاره أيضاً شيخنا التبريزي(أطال الله بقائه)،بل ذكر الشيخ الطبرسي(ره)أن هذا هو الذي عليه علماء الشيعة الإمامية[3].
وفي مقابل هذا الرأي يوجد الرأي الثاني،وهو الرأي الذي يقول بأن الذنوب تنقسم إلى قسمين حقيقة،أي أن هناك ذنوباً بنفسها يقال لها كبائر،كما أن هناك ذنوباً يقال لها صغائر،ولا علاقة لكل نوع بالنوع الآخر،فهذا الذنب صغيرة،سواء كان هناك ذنب بعده،أم لم يكن.
والصحيح أن الرأي الثاني هو الرأي الصحيح،وتشهد له الآيات القرآنية،والنصوص الواردة عن أهل البيت(ع).
ولسنا هنا بصدد نقاش الرأي من الناحية الفقهية،والاستدلال على صحة الرأي الآخر،لكننا نشير فقط،إلى وجه الخلل في الرأي الأول بنحو موجز ومختصر، فنقول:
أما دعوى الإجماع التي تستفاد من عبارة شيخنا الطبرسي(ره)في المجمع،فيمنعها أن المسألة غير معنونة في كلمات قدماء الأصحاب،بل لم نجدها بحسب التتبع إلا في كتاب الشيخ الطوسي المبسوط،وهذا يعني عدم وجود اتفاق بين القدماء على الرأي المذكور،كما أن اتفاق المتأخرين لا عبرة به كما هو واضح.
كما يمكننا الخدشة في الرأي المذكور من ناحية عقلية،بأن يقال،نحن نسلم مع القائلين بأن الانقسام إضافي،لكننا نقول بأنه سنصل في مرحلة أنه لا يوجد عندنا ذنب فوق هذا الذنب،مما يعني أنه كبيرة فقط،ولا يكون صغيرة أبداً لأنه لا يوجد ذنب فوقه،كما أننا سنصل إلى ذنب يكون صغيرة،ولا ذنب بعده مما يعني أنه صغيرة دائماً وأبداً،ولا يكون كبيرة أبداً.
وبالجملة،لابد أننا سنحصل على ذنب يوصف فقط بكونه صغيرة،كما نجد ذنباً يوصف فقط بكونه كبيرة،والنتيجة هي صحة التقسيم الحقيقي.
الإصرار:
ثم إن الصغيرة قد تـتحول إلى كبيرة في بعض الموارد،وذلك إذا تحقق من المكلف الإصرار عليها،فإنها تنقلب عن كونها صغيرة إلى كبيرة.
هذا والإصرار على المعصية الصغيرة نوعان:
1-الإصرار الفعلي،وهو الذي يحصل بمداومة المذنب على الصغيرة التي ارتكبها،فيداوم على نوع واحد من المعاصي الصغيرة دون أن تحصل منه توبة،كما يداوم النظر باستمرار إلى المرأة الأجنبية.
2-الإصرار الحكمي،ونعني به العزم على إتيان الصغيرة مرة أخرى بعد الفراغ منها،حتى لو لم يتحقق له ذلك،لكنه لا زال عازماً عليها، كان ذلك من الإصرار.
وفي البين سؤال،قد يطرح مفاده،لو أن الشخص ارتكب الصغيرة،ولم يحدث نفسه بالتوبة بعدما انتهى منها،كما أنه لا عزم له على العودة إليها،فهل يصدق عليه أنه مصر على الصغيرة،ليكون مرتكباً للكبيرة؟…
الظاهر أن هذا لا يصدق عليه عنوان الإصرار،وعليه لا يحكم عليه بأنه مرتكب للكبيرة نتيجة الإصرار.
هذا وقد يوجه السر في تحول الصغيرة بالإصرار إلى كبيرة،للآثار التي تـتركها المعصية على النفس الإنسانية،لأن المعصية الصغيرة لا تـترك أثراً كبيراً في القلب بارتكابها مرة واحدة أو مرتين،بينما تصبح شديدة التأثير على النفس،إذا تكررت،فتتراكم آثارها الضعيفة فتحدث في الأخير ظلمة في القلب والنفس،كما تـترك ذلك المعصية الكبيرة إذا فعلها الإنسان مرة واحدة.
اجتناب الكبائر مكفر للصغائر:
ولنعود للآية المباركة،حيث أشارت إلى أن اجتناب الكبائر طريق لتكفير الصغائر،لكن الظاهر أن ذلك لا يتم هكذا،بل لابد من توفر مجموعة من الشروط لتحقق ذلك،ونحن نشير لبعضها طلباً للاختصار:
1-لابد لتحقق التكفير المذكور،من أن يكون المكلف محافظاً على الصلوات الخمس على الوجه الصحيح،لأنه ورد عن النبي(ص)أنه قال:إن الصلوات الخمس كفارات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر[4].
2-أن يجتنب الإنسان الكبائر مع القدرة عليها،فيكف عن ارتكاب الفاحشة مع قدرتها على فعلها.
أما لو كان تركه للكبائر نـتيجة خوف منه،أو لعدم مقدرة منه على إتيانها،لعجز مثلاً أو لأي مانع آخر،فإن هذا لا يصلح لتكفير الصغائر.
وهذا المعنى وإن لم يدل عليه دليل صريح،إلا أنه يمكن الاستدلال عليه،بالفهم العرفي بأن هذا التارك بالكيفية التي ذكرناها لا يصدق عليه أنه مقلع عن الكبائر وتارك لها.
شبهة وجواب:
قد يتصور البعض،أن الآية التي افـتـتحنا بها المقام،تغري الناس بالوقوع في المعصية وتشجعهم على فعلها،إذ أن الإسلام لما اعتبر اجتناب الكبائر سبباً لتكفير الصغائر،يكون قد شجع الناس على إتيان الصغائر من الذنوب.
لكن هذا الكلام غير صحيح،إذ من الواضح أن كل من يجتنب الكبائر خوفاً من نار الله أو طعماً أو حباً له وتعلقاً به،سوف يكون من طريق أولى مجتنباً للصغائر التي لا قيمة لها عنده،خصوصاً وأنه قد امتلك إرادة قوية،جعلته يـبتعد عن فعل الكبائر،وصارت حاجباً له عنها.
خاتمة :
ولا بأس في ختام هذا البحث،بأن نذكر بعض الكبائر،ونحيل من أراد الزيادة،على الكتب المطولة المعدة لذلك،كما أنه يمكن مراجعة بعض الرسائل العملية حيث تـتضمن ذكر بعضها.
وعلى أي حال،من الكبائر:
1-اليأس من روح الله سبحانه وتعالى.
2-عقوق الوالدين.
3-الزنا،وكذا اللواط.
4-حبس الحقوق من غير عذر.
5-الغيبة.
6-النميمة.
7-ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير عذر.
——————————————–
[1] سورة النساء الآية رقم 31.
[2] التنقيح ج ص ،مواهب الرحمن ج ص ،الميزان ج ص .
[3] مجمع البيان ج ص .
[4] كتاب الأربعين للشيخ البهائي ص 22