بعد أن تعرفنا على المناهج التي يمكننا من خلالها امتحان صدق الصديق في صداقته وحسن علاقته معنا،فعلينا الآن،أن نبحث عن الأصدقاء الذين نختارهم ليكونوا لنا أصدقاء،إذ لا ريب أننا نصادف في حياتنا الكثيرين من الأصدقاء،فمن نختار منهم،لكي يكونوا إخواننا في الحياة؟….
وحينما نود الإجابة على هذا السؤال،فإننا سوف نختار الشخص الذي يكون له أثر إيجابي على صديقه من خلال ما يملكه من خلال وصفات حميدة وجيدة،ذلك لأن للصديق الأثر الكبير على صديقه،وهذا يستدعي اختيار من تكون تأثيراته حميدة وإيجابية.
وهذا يعني أننا لن نبحث عن الصديق،بل سنبحث عن الصفات التي يمتلكها،ويتمتع بها.
ولذا نحن نحتاج إلى البحث عن الصفات التي ينبغي توفرها في الصديق،فما هي تلك الصفات التي نحتاج أن تتوفر في الصديق الذي نختاره؟…
ونجيب:بأن هناك عدة صفات،نشير إليها تباعاً:
العلم:
إذ نجد كثيراً من النصوص تؤكد على ضرورة اختيار العلماء كأصدقاء في الحياة،سواء علماء الدين،أو علماء الحياة،لأنك حينما تجالس العلماء فلابد أن تسمع منهم على الأقل،ما يعلمونه،فلا يضيع وقتك معهم،وقد جاء في الحديث الشريف:خذ العلم من أفواه الرجال.
وفي حديث آخر:اعلموا أن صحبة العالم،واتباعه،دين يدان به،وطاعته مكسبة للحسنات،ممحاة للسيئات،وذخيرة للمؤمنين،ورفعة في حياتهم،وفي مماتهم،وجميل الأحدوثة عند موتهم.
ويتضح من هذا الحديث الشريف،أن مصادقة العلماء أمر ديني،وإن كانت تتضمن أيضاً بعض المكتسبات الدنيوية.
وجاء في حديث ثالث:من مشى إلى العالم خطوتين،وجلس عنده لحظتين،وسمع منه مسألتين،بنى الله له جنتين،كل جنة اكبر من الدنيا مرتين.
فالفرد ربما كان يعيش ردحاً من الزمن،لا يعرف المسائل الشرعية ويعمل بها بنحو خاطئ،فيجالس عالماً ويصاحبه،فيسمع منه مسألة تصحح له أعماله.
فهذه هي الفائدة الدينية من مخالطة العلماء ومصادقتهم،وهناك فائدة دنيوية،وهي الرفعة في حياتهم وفي مماتهم،وجميل الأحدوثة عند موتهم.
فهذا التاريخ قد خلد مجموعة من الشخصيات كان المفترض لها أن تكون في قائمة المنسيـين،كل ذلك لأنها صحبة العلماء،فلاحظ أصحاب الرسول(ص)وأصحاب أمير المؤمنين(ع)وأصحاب بقية الأئمة الطاهرين(ع)وهكذا أصحاب العلماء.
الحكمة:
فالحكماء هم الفئة الثانية التي يجب مصادقتها،لأنهم يمتلكون التجارب الكثيرة،ويفهمون نواميس الحياة.
وليس من الضروري أن يكون الحكيم عالماً،بل المقصود من صقلته تجارب الحياة،وصنعت منه إنساناً متزناً.
قال نبينا الأكرم محمد(ص) :سائلوا العلماء،وخاطبوا الحكماء،وجالسوا الفقراء[1].
وعن أمير المؤمنين(ع)قال:صاحب الحكماء،وجالس العلماء،واعرض عن الدنيا[2].
وعلى أي حال،فالحكيم تخرج منه بالمشورة الجيدة في شؤون حياتك.
العقل:
ورد في الحديث الشريف:عدو عاقل خير من صديق جاهل[3].
ذلك أن الجاهل يريد أن ينفعك فيضرك،وقد يكون طيب القلب يسعى لخدمتك لكنه يفسد عليك عملك،وقد قيل في حق الجاهل أنه سفيه أيضاً،وهذا يعني أنه سيفسد عليك أخلاقك،وقد جاء في الحديث:فساد الأخلاق معاشرة السفهاء،وصلاح الأخلاق معاشرة العقلاء[4].
وجاء في حديث آخر:لا تصحب إلا عاقلاً تقياً،ولا تخالط إلا عالماً زكياً،وتودع سرك إلا مؤمناً وفياً.
ومن الواضح أن الصحبة والصداقة أوثق من المخالطة،لأن المخالطة قد لا تعني تبادل الآراء والأفكار والعواطف،بينما الصداقة تعني الأخذ والعطاء في ذلك كله.
وقد ورد عن أمير المؤمنين(ع):عمارة القلوب في معاشرة ذوي العقول.
وجاء عنه(ع):من صاحب العقلاء وقر.
وفي حديث آخر:معاشرة العقلاء تزيد في الشرف.
الزهد:
فالأبرار الأتقياء والزهاد،الذين يذكرونك بالآخرة ويدفعونك إلى الالتزام بالتقوى،ممن ينبغي عليك اختيار صداقتهم وصحبتهم.
ففي الحديث الشريف:ليكن جلساؤك الأبرار،وإخوانك الأتقياء والزهاد لأن الله تعالى يقول في كتابه:-(الأخلاء يومئذٍ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين).
وعن أبي عبد الله الصادق(ع)احذر أن تواخي من أرادك لطمع أو خوف أو فشل أو أكل أو شرب،واطلب مؤاخاة الأتقياء ولو في ظلمات الأرض،وإن أفنيت عمرك في طلبهم،فإن الله عز وجل لم يخلق على وجه الأرض أفضل منهم بعد النبيـين،وما أنعم الله على العبد بمثل ما أنعم به من التوفيق لصحبتهم[5].
وجاء في حديث آخر:إذا رأيتم الرجل قد أعطى الزهد في الدنيا،فاقتربوا منه فإنه يلقي الحكمة.
وجاء في أصول الكافي عنهم(ع):مجالسة أهل الدين شرف الدنيا والآخرة…..مجالس الصالحين داعية إلى الصلاح،وآداب العلماء زيادة في العقل[6].
نعم ينبغي الالتفات إلى أن المراد من الزهد والزاهد هنا هو الزهد والزاهد الحقيقي،لا الصوفي،ونعني بمعناه الحقيقي،أن لا يملكه شيء.
ولأوضح لك هذا المطلب من خلال هذه القصة التي تنقل بمعنيـين متقاربين عن علمين من علماءنا الأجلاء،وممن كتب في الأخلاق والآداب الإسلامية،وهما المولى النراقي (قده) وصاحب كتاب مجموعة ورام.
يقال أن رجلاً من بلاد خراسان قرأ كتاب مجموعة ورام،وهو كتاب كما ذكرت يتحدث عن الأخلاق والتقوى،وما أشبه،وبعد مدة صار زاهداً،لكنه لم يفهم الزهد على حقيقته،فبدأ يوزع أمواله في سبيل الله،حتى فقدها كلها،وأصبح معدماً،وقرر أن يزور صاحب الكتاب،الذي ترك عليه هذا الأثر،فتعنى له وقصده من بلده إلى النجف الأشرف،وهناك سأل عن بيت هذا العالم الجليل،فدلوه عليه،وكان يعتقد أنه سيجد بيتاً قديماً خالياً من كل شيء من الأثاث،وسيقابل شخصاً معدماً رث الثياب قد أنهكه الجوع لكثرة زهده وتركه للطعام والملذات وابتعاده عن الدنيا وزخرفها.
لكنه فوجئ أن بيته يشبه القصر وظن أن الناس اشتبهوا في اسم العالم،لكنه للتأكد طرق الباب،فجاءه صاحب الدار وسأله بعد التحية:هل أنت مؤلف كتاب مجموعة ورام؟…
قال:نعم.
قال:جئت لأزورك.
قال له:تفضل،وأدخله الدار.
وحينما دخل معه،وجد غرفة الجلوس راقية وجاءوا له بالغذاء،فوجد سفرة مليئة بالأطعمة اللذيذة…..وهنا دهش صاحبنا وقال:
عفواً،لقد قرأت كتابك حتى عدت فقيراً معدماً،وقصدتك من خراسان لأرى زهدك،لكني وجدت بيتك مثل بيوت الوجهاء،ولباسك مثل لباس الأشراف،وطعامك مثل طعام الأغنياء،فهل كنت بذلك تخادع نفسك وتكذب على الناس؟…
قال:لا،أبداً إني صادق مع نفسي.
قال:أتؤمن بما ذكرته في كتابك؟…
قال:بلى…أنا مؤمن بكل ما جاء في كتابي.
قال:فما هذه الحال التي وجدتها عندك؟…
قال:حسناً،دعنا الآن نترك كل ما نملك،من بيت جميل وملابس راقية،وطعام لذيذ،ونذهب معاً إلى الصحاري والقرى والأرياف لكي نرشد الناس،ونبلغ الدين،هل توافقني على ذلك؟…
فوافق الرجل الآتي من خراسان،وخرجا معاً حتى ابتعدا مسافة غير قليلة عن النجف،فتذكر الخراساني أنه نسي مسبحته في بيت العالم في النجف فطلب من صاحبه الرجوع لأخذ المسبحة،فقال له العالم:
إن لي بيتاً وأهلاً وأموالاً وأصدقاء،قد تركتهم جميعاً في لحظة واحدة دون أن أطالب بالرجوع،لكنك نسيت مسبحتك،فأردت أن تعود بنا هذه المسافة،فهل هذا هو الزهد؟…إنني أستطيع أن أتخلص من كل ما أملك في لحظة،لأنه لا يملكني شيء،بل أنا أتصرف فيها كيف أشاء.
وهذا المعنى يمكننا أن نستلهمه من قائد النهضة المباركة سيد شباب أهل الجنة الإمام الحسين(ع)ذلك أنه كانت له أملاك كثيرة من بيوت وأثاث وأموال وبساتين،لكنه استطاع أن يتخلص منها جميعاً في لحظة واحدة عندما قرر الخروج من المدينة إلى الكوفة.
إذاً فاختيارك لصديق زاهد،لا يعني أن تختار صديقاً فقيراً،وإنما تختار صديقاً لا تملكه الأشياء.،سواء كان غنياً،أم كان فقيراً.
الخير والفضيلة:
إذا أردت أن تصبح نبيلاً،فعليك بمرافقة أهل الفضائل،لأن الأخلاق الكريمة تنتقل إلى الإنسان لا شعورياً،فيصبح الإنسان خيراً تدريجياً،متى عاش وسط جماعة خيرة.
وقد ورد في الحديث:قارن أهل الخير تكن منهم،وبائن أهل الشر تبن عنهم[7].
وفي حديث آخر:اسعد الناس من خالط كرام الناس[8].
وعن أمير المؤمنين(ع):عاشر أهل الفضائل تنبل[9].
الصديق الوفي:
جاء في الحديث الشريف:عليك بإخوان الصدق فإنهم زينة في الرخاء وعصمة في البلاء[10].
فالصديق المخلص زينة لك عندما تعيش في الرخاء،وحينما تبتلى بالشدائد لا يتخلى عنك،بل يعصمك من الزلل والسقوط ويقدم لك كل عون ومساعدة.
ولذا قد نرى أمامنا أصدقاء كثيرين،لكن ليس بالضرورة أن يكونوا أوفياء،بل إن البعض إنما يتقرب إليك من أجل مالك أو مقامك،فهو مخلص لمالك ووفي لمقامك فهو صديق لبطنه وشهوته،وحالما ينتقل مالك إلى إنسان آخر،تجده ينتقل أيضاً لصحبة ذلك الإنسان،لأنه صديق المال،يسعى وراءه أينما ذهب.
فالصديق الحقيقي هو الذي يقف لك سنداً حينما تقع في الخطأ والجريرة،فمن جهة يقوم بنصحك وتوجيهك،ومن جهة أخرى يدافع عنك،ويتبرع لك بماله إذا كانت جريرتك بحاجة إلى المال.
كما أن صديقك هو الذي يعطيك المشورة الجيدة،ينصحك بقلب نقي وصدق صفي،وقد جاء في الحديث الشريف:من عامل الناس فلم يظلمهم،وحدثهم فلم يكذبهم،ووعدهم فلم يخلفهم،فهو ممن كملت مروته،وظهرت عدالته،ووجبت أخوته.
فابحث عن صديق لا يظلم الناس،ولا يبخسهم أشياءهم،ولا يكذب،لأن الكذاب والميت بمنـزلة سواء،فهل يمكنك مصداقة الميت؟!ّ!!
الخلق الكريم:
من المعروف أن الصفات الحسنة عند الإنسان،إنما هي ثمار لشجرة فاضلة،فيكفي أن تجد في الشخص صفة واحدة لكي تتخذه صديقاً وخليلاً،ويؤكد ذلك أمير المؤمنين(ع)بقوله:إذا رأيتم في أحد خلة ففتشوا عن مثيلاتها.
——————————————————————————–
[1] بحار الأنوار ج 1 ص 198.
[2] غرر الحكم.
[3] بحار النوار ج 78 ص 12.
[4] المصدر السابق ج 5 ص 298.
[5] بحار الأنوار ج 74 ص 282.
[6] أصول الكافي ج 1 ص 39.
[7] بحار الأنوار ج 71 ص 188.
[8] المصدر السابق ص 185.
[9] غرر الحكم.
[10] بحار الأنوار ج 74 ص 187.