30 أبريل,2024

قطيعة الرحم (1)

اطبع المقالة اطبع المقالة

من المحرمات المنصوص عليها في الشريعة الغراء، قطيعة الرحم، بل قد عدّ ذلك من الكبائر التي توعد الله سبحانه وتعالى عليها النار، وقد ورد النهي الشديد عليها في الكتاب العزيز، وأن القاطع لرحمه ملعون، قال تعالى:- (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم أولئك الذين لعنهم الله)[1].

كما تضمنت النصوص الشريفة التحذير من هذا الأمر، فقد قال رجل للنبي(ص): أي الأعمال أبغض إلى الله عز وجل؟ فقال: الشرك بالله. قال: ثم ماذا؟ قال: قطيعة الرحم[2].

وجاء في وصية الإمام زين العابدين(ع) إلى ولده الإمام الباقر(ع) قال: يا بني انظر إلى خمسة فلا تصاحبهم ولا ترافقهم في طريق، فقلت: يا أبه من هم؟ قال: إياك ومصاحبة الكذاب فإنه بمنـزلة السراب يقرب لك البعيد ويباعد لك القريب، وإياك ومصاحبة الفاسق فإنه بائعك بأكلة أو أقل من ذلك، وإياك ومصاحبة البخيل فإنه يخذلك في ماله أحوج ما تكون إليه، وإياك ومصاحبة الأحمق فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، وإياك ومصاحبة القاطع لرحمه فإني وجدته ملعوناً في كتاب الله عز وجل في ثلاثة مواضع: قال الله عز وجل:- (فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم* أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم) وقال:- (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك لهم اللعنة ولهم سوء الدار)، وقال في البقرة:- (الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون)[3].

آثار قطيعة الرحم:

ولم تقتصر النصوص الشريفة على مجرد عرض حكم قطيعة الرحم، وأنه من الكبائر التي توعد الله سبحانه عليها النار ،بل تعدت إلى تعداد جملة من الآثار المترتبة على ذلك، مما يكشف عن عظم هذا الجرم وخطورته، فقد جاء في بعضها أن قاطع رحمه محروم من الجنة، فعن النبي الأكرم محمد(ص) أنه قال: ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، ومدمن سحر، وقاطع رحم[4].

ومثله ما جاء عنه(ص) أنه قال: أخبرني جبرئيل أن ريح الجنة يوجد من مسيرة ألف عام وما يجدها عاق ولا قاطع رحم[5].

وتضمنت نصوص أخرى أن من الأسباب الموجبة لتعجيل الفناء قطيعة الرحم، فعن الإمام الصادق(ع) أنه قال: اتقوا الحالقة فإنها تميت الرجال، قلت: وما الحالقة؟ قال: قطيعة الرحم[6].

وقد جاء في دعاء كميل: اللهم اغفر لي الذنوب التي تعجل الفناء. وقد عدّ منها قطيعة الرحم، فعني أبي حمزة الثمالي عن أمير المؤمنين(ع)-في حديث-:إن من الذنوب التي تعجل الفناء قطيعة الرحم[7].

وعن الإمام زين العابدين(ع) أنه قال-في حديث-:والذنوب التي تعجل الفناء قطيعة الرحم، واليمين الفاجرة[8].

هذا ولا يخفى أن هناك عنواناً مقابلاً لعنوان قطيعة الرحم، وهو عنوان صلتها، وهو وإن لم يكن مرتبطاً بمحل حديثنا، لما عرفت من أننا نتحدث عن محرمات الشريعة، إلا أنه تكميلاً للفائدة، يحسن استعراضه في المقام أيضاً، وإكمالاً للبحث، ولذا سوف نتعرضه بعد الفراغ عن بحث القطيعة، إن شاء الله تعالى.

تحديد الرحم:

هذا ولابد من تحديد الرحم الذي تعدّ قطيعته كبيرة من الكبائر، وتترتب عليها الآثار التي حكتها النصوص المباركة، ذلك لأن القرابة التي تكون للإنسان على نوعين:

الأول: القرابة النسبـــية، وقوامها بوحدة الدم والرابط، كالأب والأم، والأخوة والأخوات، والجد الجدة من طرف الأبوين، والأعمام والعمات والأخوال، والخالات، وأبناء جميع هؤلاء، ويطلق على جميع من ذكر بالأنساب.

الثاني: القرابة السبــيــبة، وهي التي تحصل نتيجة سبب من الأسباب يوجب تحققها، كالمصاهرة مثلاً، فلو تزوج شخص من امرأة، فإن ذلك يوجب علقة نسب بينه وبينها، وبينه وبين ذويها، تعرف بالقرابة السببية، أي التي تحققت نتيجة حصول المصاهرة، ويدخل في هذه العلقة السببية أبوها وأمها، وجدها وجدتها من الطرفين، وأعمامها، وعماتها، وأخوالها، وخالاتها، وأبناءهم.

وقد تكون العلاقة النسبية السببية بسبب آخر وهو الرضاع، فلو أن امرأة أرضعت طفلاً عدد الرضعات الشرعية المقررة لترتب على ذلك الحرمة الشرعية، فإن ذلك يوجب إيجاد علقة نسب سببي بينه وبين المرضعة، وبين زوجها صاحب اللبن، وبين أبنائها وبناتها، وبين أمها وأبيها، وهكذا.

وطبقاً لما تقدم، يأتي السؤال التالي: هل أن حرمة قطيعة الرحم وما يترتب عليها من آثار شامل للقرابتين النسبية والسببية، أم أنه يختص بإحداهما دون الأخرى. وعلى فرض الالتـزام بعدم الاختصاص، والبناء على الشمول، فهل يشمل ذلك جميع أفراد السلسلة النسبية، أو أنه يختص ببعضها دون البعض؟

الظاهر أن الأعلام متفقون على خروج القرابة النسبية من موضوع الصلة والقطيعة للرحم، فلا يجري وجوب الصلة للقرابة السببية، كما لا تحرم القطيعة بالنسبة إليهم، وعليه فسوف يكون موضوع هذين الحكمين، مختصاً بالقرابة النسبية. نعم يبقى الكلام بعد ذلك في تحديد دائرة الموضوع لهذين الحكمين من القرابة النسبية، فهل يلتـزم بالشمول لكل من كان محكوماً بها، فتجب صلته وتحرم قطيعته، سواء كان قريباً قرابة نسبية قريــــبة، أم كانت قرابته بعيدة، أو سوف تضيق الدائرة لتختص ببعض الأفراد دون البعض الآخر؟

وقع الخلاف بين الأعلام في تحديد دائرة القرابة النسبية التي تجب صلتها، وتحرم قطيعتها، فبين من وسع دائرة الحكم المذكور، وبنى على أن من تجب صلته وتحرم قطيعته منهم هو كل من يتقرب إليه إلى آخر أب وأم في الإسلام، وقد أختار هذا الرأي شيخنا المفيد في كتابه المقنعة، قال(قده): إذا أوصى الإنسان بثلث ماله لقرابته ولم يسم أحداً كان في جميع ذوي نسبه الراجعين إلى آخر أب له وأم في الإسلام[9]. وشيخنا الطوسي(قده) في كتابه النهاية[10]، حيث ذكر مثل ما ذكر شيخه المفيد(ره).

وعلى العكس من هذا تماماً بنى آخرون على ضيق الدائرة، فخصوا موضوع هذين الحكمين بخصوص الوارث فقط، فلا يشمل غيره، ومن المعلوم أن التحديد في خصوص الوارث سوف يوجب ضيقاً جداً، فلو مات وترك ولداً وأماً وأباً، فسينحصر وارثه فيهم، حتى وإن كان له أخوة وأخوات، وأعمام وعمات، وأخوال وخالات، وهكذا. وهذا ما يعبر عنه بطبقات الميراث، فإن الطبقة الأولى تحجب الطبقة الثانية، وهكذا.

ضابط الرحم في الفتاوى:

هذا وقد حدد الرحم الذي يكون موضوعاً للحكمين المذكورين، أعني حرمة القطيعة، ووجوب الصلة في فتاوى غير واحد من أعلامنا بمن اتصف بشرطين:

الأول: أن يكون الشخص ذكراً كان أم أنثى، مشتركاً مع المكلف في رحم امرأة واحدة، كالأم مثلاً، أو الجدة، وعليه سوف يدخل في ذلك الأخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات.

الثاني: صدق عنوان القرابة، ويعتبر هذا القيد احترازياً، ذلك أن البعض قد يذكر أنه وفقاً للشرط الأول سوف ينطبق العنوان على جميع البشرية، لأنهم يتحدون في رحم واحد، وهو رحم أمنا حواء(ع)، فينطبق عليهم عنوان القرابة التي تكون موضوعاً للحكمين المذكورين. إلا أن هذا القيد يمنع من ورود هذا التصور، لأنه يعتبر أن يصدق على الفرد عنوان القريب عرفاً، ولا ريب في أن العرف لا يطبق ذلك لمجرد اتحاد شخصين في تولدهما من أمنا حواء(ع)، كما لا يخفى.

بل إن العرف يضيق الدائرة وفقاً لهذا الشرط، فلا يطبق العنوان على من كان منتسباً مع المكلف نسباً بعيداً، بحيث كانت جهة الارتباط بينهما تصل إلى عشر وسائط، أو عشرين واسطة، فالظاهر أن العرف لا يعتبره من القرابة، فتأمل.

ولا يخفى أن التحديد المذكور لمفهوم الرحم، وأخذ القيدين المذكورين فيه، مستفاد من كلمات أهل اللغة، فقد ذكر الراغب في المفردات في بيان حقيقة الرحم: الرحم، رحم المرأة، وامرأة رحوم، تشتكي رحمها، ومنه استعير الرحم للقرابة، لكونهم خارجين من رحم واحدة[11].

ومثل ذلك جاء في كلام الشيخ الطريحي(ره) في كتابه المجمع، قال: رحم، وهم القرابة، ويقال على من يجمع بينك وبينه نسب[12].

هذا وقد يعترض على الضابطة المذكورة في تحديد عنوان الرحم وصدقه، بعدم شموله للأب والأم، والجد والجدة من الطرفين، فإنه لا يجمعهم مع الولد رحم واحدة، سواءً بدون واسطة أم معها؟

ويتفصى عن ذلك، بأن من ذكر لا يدخلون في حكم الأرحام من حيث وجوب الصلة وحرمة القطيعة، فلا يشملهم ما ورد في ذلك، بل لهم موضوع آخر، وهو العلاقة مع الوالدين فلاحظ.

وبعبارة أخرى، إن المذكورين خارجون تخصصاً من تحت الحكم المربوط بمحل بحثنا، وعليه فلا إشكال في عدم شمول الموضوع المذكور لتحديد حقيقة الرحم المرتبط بحكم البحث لهم.

مع أن الإشكال المذكور يجري في شأن الأعمام والعمات والأخوال والخالات، فإنه لا يجمعهم وإياه رحم واحدة، ويجري ذلك أيضاً في شأن الجد والجدة من الطرفين، مما يعني أنه إشكال سيال.

إلا أنه يتفصى عنه من خلال لحاظ الأمر بالنسبة إلى اجتماعه وإياهم بالواسطة من خلال أبيه وأمه، وهذا يعني صدق اجتماعه مع أبيه وأمه أيضاً، فإنه جزء منهما.

معنى القطيعة:

عندما نود تحديد المقصود من عنوان القطيعة حتى يتسنى لنا تطبيقه على المقام، فيحدد عندها المقصود من قطيعة الرحم، لا نجد لهذا المفهوم تحديداً في لسان الشارع المقدس، وهذا يعني أنه لابد من الرجوع لكلمات أهل اللغة وملاحظة ما ذكروه في بيان معناه، وتحديد حقيقته.

ففي مفردات الراغب الأصفهاني قال: قطع الوصل، الهجران، وقطع الرحم يكون بالهجران، ومنع البر[13].

ويستفاد من كلامه أن تحقق القطيعة يكون بأمرين، الهجران، وعدم البر. نعم هل أن هذين مأخوذين على نحو جزء العلة، أم أن كل واحد منهما يعد علة مستقلة، بمعنى أنه لا تتحقق القطيعة إلا إذا وجدا معاً، فلو وجد أحدهما لا يحكم بالقطيعة، أو أن وجود أحدهما كافٍ للحكم بحصول القطيعة؟ احتمالان، إلا أن الظاهر هو الثاني، فهما ليسا مأخوذين بنحو جزء العلة، بل كل واحد منهما يعدّ علة تامة.

وفي أقرب الموارد: قطع رحمه قطعاً وقطيعة هجرها وعقها.

وقد اتفق مع الراغب في أن القطيعة تكون بالهجران، لكنه اختلف معه في أنها تكون بالعقوق المعبر عنه في كلمات اللغويـين بالشق، والعصيان، وعليه فيكون المحقق للقطيعة أحد أمرين، الهجران، والعصيان.

ولا يتصور أن في البين تعارضاً بين ما جاء في المفردات وبين ما جاء في أقرب الموارد، بل مقتضى ما استظهرناه من عبارة المفردات تنفي هذا التوهم، حيث ذكرنا أن المستفاد منها وجود موجبين ومحققين للقطيعة، وهذا يعني أضافة محقق ثالث لهما، وهو العقوق، فلاحظ.

هذا والظاهر أن العرف لا يبتعد كثيراً في حقيقة القطيعة عما جاء في كلمات أهل اللغة، وهذا يعني أنه يقرر في حقيقتها أنها ترك الإحسان إلى الرحم، وهجرانها، وعقوقها.

ولا ريب في أن المقصود من ترك الإحسان، تركه من كل وجه في مقام يتعارف فيه ذلك، وهذا يعني أنه لو لم تكن الصلة متعارفة لم تحصل القطيعة. فلابد لصدق القطيعة أن تكون الصلة متصورة في مثله، ومتعارفة وإلا فلا.

ثم إن أبسط مصاديق الإحسان السلام، فترك الأخ السلام على أخيه متعمداً مثلاً، يوجب قطيعة رحمه، ومثل ذلك لو تعمد ترك مشاركة أرحامه ومواساتهم في مناسباتهم، كان منطبقاً عليه عنوان القاطع.

وعلى أي حال، يتضح الحال في تحقق القطيعة من خلال الإحاطة بحقيقة الصلة، وما يوجب تحققها، وسيأتي إن شاء الله تعالى التعرض لذلك، فأنتظر.

اختلاف القطيعة حسب الزمان والمكان:

ووفقاً لما تقدم من أنه ليس للقطيعة حقيقة شرعية، وإنما يعتمد على الإحاطة بالمقصود منها من خلال ملاحظة العرف بقسميه العام والخاص، سوف يلتـزم باختلاف الحال فيها حسب اختلاف الأماكن والأزمنة، فربما ينطبق عنوان القطيعة على حال من الأحوال في زمان، لا يكون كذلك في زمان آخر، وهكذا يكون الأمر بالنسبة للأماكن أيضاً، فقد يعدّ فعلاً من الأفعال في ذلك المكان قطيعة، إلا أنه لا ينطبق عيه ذلك في مكان آخر، وهكذا.

والحاصل، ينبغي مراعاة الأزمنة والأمكنة في صدق عنوان القطيعة وعدمه، ما دام أن موضوعها مستفاد من خلال العرف، فلاحظ.

——————————————————————————–

[1] سورة محمد الآيتان رقم 22-23.

[2] وسائل الشيعة ب 1 من أبواب الأمر والنهي ح 1.

[3] أصول الكافي ج 2 ص 376 ح 7.

[4] وسائل الشيعة ب 49 من أبواب جهاد النفس ح 19.

[5] المصدر السابق ح 20.

[6] وسائل الشيعة ب 95 من أحكام الأولاد ح 7.

[7] وسائل الشيعة ب 149 من أحكام العشرة ح 2.

[8] وسائل الشيعة ب 41 من أبواب الأمر والنهي ح 8.

[9] المقنعة ص 103.

[10] النهاية ج 2 ص 630 كتابا لوصية.

[11] مفردات ألفاظ القرآن ص 347.

[12] مجمع البحرين باب مآخره الميم، وأوله الراء.

[13] مفردات الراغب ص